الوقف فضيلة إسلامية وضرورة اجتماعية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

حظي الوقف باهتمام خاص من طرف علماء الفقه الإسلامي، باعتبار ما ورد في الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، من الحض على الإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيه. قال - تعالى -: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبٌّونَ} [آل عمران: 92]. والوقف يعتبر باباً مهماً من أبواب البر والخير والإحسانº لأنه يجمع لصاحبه بين الحسنيين: جميل الذكر في الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، وهذا أقصى ما يتغياه المؤمن، ويتضرع إلى ربه للحصول عليه، وباعتباره أيضاً فرصة لاستدراك بعض ما فاته من واجبات فرّط فيها، أو من حقوق لم يؤدها، قبل أن يدركه الموت، فضلاً عن الدور الذي يقوم به في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

والدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كل الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة. وإن من يقرأ تاريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات (مثل خيول الجهاد) التي لم تعد صالحة للاستعمالº فحينئذ تحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليه من هذه الأوقاف...إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا يعاقبن، فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف.

 

كما يشمل الوقف(1) الكثير من أوجه المنفعة للمجتمعº إذ يشمل وقف المساجد والحوانيت والأراضي والخانات، ودور العلم والمدارس والمستشفيات، والحبس على المقابر بتوفير الماء واللَّبِن وخلافها، والأوقاف للغرض الحسن، ووقف البيوت الخاصة للفقراء، والسقايات، والمطاعم الشعبية التي يصرف فيها الطعام للفقراء والمحتاجين، ووقف الآبار في الفلوات لسقاية المسافرين والزروع والماشية، ووقف عقارات وأراضٍ, زراعية يصرف من ريعها على المجاهدين أو يصرف ـ في حال عجز الدولة ـ على إصلاح القناطر والجسور.

 

وكثير من الأوقاف كان يصرف ريعه على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين، بل إن الوقف شمل ما حبس ريعه لتزويج الشباب والشابات الذين تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج والمهر، وشمل ما يقدم من حليب وسكر، حتى لقد جعل صلاح الدين الأيوبي في أحد أبواب القلعة بدمشق «ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من السكر والحليب»(1) حسب آليات ذلك الزمان.

 

ويمكن القول إن معظم دور العلم التي تأسست في القرن الرابع الهجري الذي يصفه آدم ميتز بـ (عصر النهضة في الإسلام) ثم المستشفيات والبيمارستانات والمدارس التي تأسست في العهد السلجوقي وحكم آل زنكي والأيوبيين في المشرق قامت بشكل أساس على الأوقاف. ثم إن مئات المؤسسات الاجتماعية والدينية كالجوامع والمدارس والخوانق والرٌّبُط والزوايا والتكايا التي يعددها «محمد كرد علي» في مدن بلاد الشام التي يعود بعضها إلى ما قبل العهد العثماني وبعضها الآخر إلى المراحل العثمانية الأولى، إنما نشأت واستمرت بفعل الدعم الذي أمّنته لها مؤسسة الوقف(2).

 

ولذلك يعد الوقف خاصية ملازمة للمجتمع الإسلامي عبر تاريخه الطويل، وكان بمثابة الطاقة التي دفعت به نحو النماء والتطور من خلال توفير المعينات المؤدية إلى تكوين مجتمع حضاري، تؤكد على ذلك الشواهد النصية المتناثرة في كتب التاريخ والسجلات والوثائق الخاصة بالأوقاف والمخلفات الآثارية التي توضحها نماذج الأبنية التي شيدت لتكون محوراً لأعمال الوقف من مثل المساجد والمدارس ومكاتب الأيتام والأسبلة والآبار والعيون. ومن الجدير بالذكر أنه كانت هناك أوقاف غاية في الطرافة والدلالة على سمو العاطفة الإنسانية في المجتمع الإسلامي، لا يعرف لها مثيل في المجتمعات الأخرى، فيما يذكر الدكتور مصطفى السباعي(3).

 

من ذلك هذه الأوقاف التي كانت بطرابلس لبنان لتوظيف شخصين يمران كل يوم على المرضى في المستشفيات للتسرية عن المرضى، وقد يتعمد هذان الشخصان الحديث بصوت خافت فيما بينهما عن تحسن صحة المريض لمساعدته على البرء إن كان مثل هذا الحديث مفيداً لحالته.

 

ولم يكن الوقف الأهلي الخاص بذرية الواقف بعيداً عن هذه الأهداف النبيلةº حيث كان المنتفعون به في أكثر الأحوال من المحتاجين، كما كان الواجب فيه النص في إنشاء الوقف على انتهائه إلى جهة خير لا تنقطع عند انقراض الذرية الموقوف عليهم. ولعل انتشار الأوقاف وتغلغلها على هذا النحو وأسسها القانونية المميزة لها عن الأوقاف المعروفة في الحضارات الأخرى قبل الإسلام هو الذي كان في ذهن الإمام الشافعي عندما قال قولته المشهورة: «لم يحبس أهل الجاهلية داراَ ولا أرضاَ تبرعاً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام»(4).

 

وارتبط مسار الوقف في الإسلام بدرجة رئيسة بالفعل الاجتماعيº فكل أنماطه كانت موجهة نحو خدمة الإنسان، وتيسير الحياة له والتخفيف من معاناتهº فهو بذلك يسبق التوجه الغربي المعاصر الذي يتركز على تقليص حجم الضرائب المقررة على ثروات الأفراد والشركات عندما تخصص جزءاً منه لصالح المجتمع، كما أنه يفوقه إنسانيةº لأنه ينبع عن عقيدة وإيمان مصدرهما الإحساس بالآخر، والشعور بأن المال بغض النظر عن المتوافر منه لدى الأفراد، يجب أن يسخر لما فيه فائدة المجتمع عامة، ومن هنا كان ناتج الوقف مثمراً في تاريخنا القديم والوسيطº إذ تسابقت على تطبيقه فئات المجتمع كافة دون تحديد، فشارك فيه الحاكم والأمير والوزير والثري والعالم والإنسان العادي، فكانت الحصيلة هذه الثروة الحضارية التي ازدهرت مشرقة مشعة بالخير، استمرت في عطائها إلى زمن قريب عندما قلَّت العناية بأمره حين ألقى الجهل بأهمية الوقف ودوره بظلاله على المجتمع الإسلامي، فتراجع الاهتمام به، وانحسر التوجه إلى استخدامه وسيلة للتقرب إلى الله - سبحانه وتعالى -، فظهرت كثير من المعضلات المعيقة لرقي المجتمع من مثل الأمية والمرض والفقر.

 

ولكن مع تزايد الصحوة الإسلامية في الربع الأخير من القرن المنصرم، وتعاظم آثارها الإيجابية على مختلف مقومات الحياة للأمة الإسلامية، بدأت الكثير من مظاهر الحياة الإسلامية تعود إلى ما كانت عليه، وكان من الطبيعي الاهتمام بأحد أهم السمات الإنسانية للأمة الإسلامية والتي صاحبت كل العصور الإسلامية ـ حتى في عصور الانحطاط ـ وهو الوقف.

 

ولذلك شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين الميلادي المنصرم نشاطاً ملحوظاً وتدفقاً مستمراً في الحديث والتنظير والتنظيم لإقامة الفعاليات والأنشطة الوقفيةº فمن إقامة مؤتمرات وندوات تنادي بضرورة إيجاد آليات لتنشيط دور الوقف في المجتمعات الإسلامية، كما كان الحال في العصور الإسلامية السالفة، إلى بروز تيار أكاديمي في الرسائل الجامعية والكتب الثقافية ينوه بضرورة نظام الوقف في عصرنا الحاضر، وصولاً بتأسيس مجالس وأمانات واتحادات للوقف في بعض الدول العربية والإسلامية، بدأت بالممارسة الفعلية في تنظيم وترتيب أوضاع الأملاك الوقفية في هذه الدول، بعدما غُيِّب الوقف كقيمة إنسانية بعد تخلف الأمة الإسلامية، وتمكن الاستعمار الغربي من هدم كثير من مقومات الحياة الإسلامية(1)، مما أدى إلى اضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر. وعلى الرغم من ازدهاره في بلاد عربية وإسلامية قليلة مثل السعودية والكويت ومصر والإمارات والمغرب إلا أن هنالك فروقاً متسعة إن لم تكن شاسعة بين هذا وذاك، وشتان بين الكائن وما يمكن أن يكون!

 

حقيقة الوقف ومشروعيته:

وقـد دلـت السـنَّة الشريـفة على مشـروعية الوقفº فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر أحب أرضاً له من أرض خيبـر، فـقال: يا رسـول الله! إني أحبـبت أرضاً بخيبر، لم أحـب مالاً ـ قـط ـ أنفـس عـندي مـنهº فـما تأمـرني؟ قـال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متمول مالاً»(ü) قال الإمام أحمد: «قد وقف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فيهم بالمدينة ظاهرةº فمن رد الوقف فإنما رد السنة»(2).

 

ومن نماذج الوقف المبكر، ما روي أن عائشة - رضي الله عنها - وقفت داراً اشترتها وكتبت في شرائها: «إني اشتريت داراً وجعلتها لما اشتريتها لهº فمنها مسكن لفلان وعقبه ما بقي، ولفلان وليس فيها لعقبه، ثم يرد إلى آل أبي بكر... »(3). ولم يمنع الفقر محمد بن ناصر بن محمد بن علي، أبا الفضل، وكان من العلماء البارزين في بغداد وصفه ابن النجار بأنه كان ثقة ثَبتاً حسن الطريقة متديناً فقيراً متعففاً نظيفاً منزَّهاً، في المشاركة في خدمة مجتمعه فوقف كتبه»(4).

ثم وجدنا كثيراً من الصحابة يصنعون صنيع عمر بن الخطاب، ووقفوا أموالهم على طريقته ومنهم أبو بكر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وأسماء بنت أبي بكر، وغيرهم كثير. حتى قال جابر بن عبد الله: «ما أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبَّس من ماله صدقة مؤبَّدة لا تشترى أبداً، ولا توهب ولا تورث، فكان هذا اتفاقاً عملياً من الصحابة، فلو كان الوقف غير لازم لرجع بعض هؤلاء الواقفين عن وقفه، ولكنه لم يحدث، ولو رجع أحد منهم عما أوقف لنُقل إلينا، إضافة إلى أن فكرة حبس الأعيان عن التصرف التملكي والتصدق بمنفعته فيها أكبر ضمان للتمكن من إقامة دور العبادة والعلاج والعلم، والبر بالفقراء ومعالجتهم وتثقيفهم والتعاون على البر والتقوى، وتوثيق الصلة بذي القربى، ومد يد العون الدائمة لهم(5).

ويؤكد الدكتور خالد عبد الحكيم إسماعيل(6) أن جمهور الفقهاء يرى أن الوقف لازم بمجرد صدوره من الواقف، وليس له الرجوع فيهº ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : «لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب ولا يورث». وقد اتفق العلماء على أنه يصح الوقف على الأولاد والأقارب والفقراء والمساكين، وعلى سبل البر من بناء المساجد والقناطر، وعلى كتب العلم والفقه والقرآن، والمقابر والسقايات، وسبيل الله وغيرها.

إن الوقف له دور رئيس في سد حاجات المجتمع الإسلامي، فأسمى أهداف الوقف ترتيب الأجر والثواب المستمر للعباد في حياتهم وبعد مماتهم، من خلال الإنفاق والتصدق والبذل في وجوه الخير والبر. وهذا سبيل إلى مرضاة الله ورسوله، وطريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار. فالوقف نوع من القربات التي يستمر بها صدقة جارية إلى قيام الساعة. ويحقق الوقف مبدأ تكافل المجتمع وإيجاد عنصر التوازن بين الأغنياء والفقراء، ويضمن الوقف بقاء المال وحمايته ودوام الانتفاع منه، ويوفر سبل التنمية علمياً وعملياً بمفهوم تكاملي شامل.

وتعد الجوامع والمساجد أهم الأنماط التي حظيت بعناية الواقفينº حيث سُعِيَ إلى تعميرها وتشييدها وتزويدها باحتياجاتها من الفرش والبسط وخزائن الكتب والصرف على العاملين فيها. كما أن الحرمين الشريفين حظيا بنصيب وافر من الاهتمام من الواقفين على مر العصور، ولم يقتصر الوقف على عمارتهما وتوفير سبل الراحة لقاصديهما، بل تعدى ذلك إلى الاهتمام بالوقف على كافة أمور الحياة في المدينتين الشريفتين مكة والمدينة.

 

وقد اقتضت كثرة الأوقاف وتشعب جهات المنتفعين بها التفكير في إنشاء تنظيم إداري للإشراف على الأموال الموقوفة وضمان حسن التصرف فيها بما يحقق المصلحة العامة ومصلحة المنتفعين على السواء. ويرجع أقدم تنظيم إداري للأوقاف إلى العهد الأمويº إذ يذكر الكندي أن (توبة بن نمير) لما ولي قضاء مصر عام 115هـ(1) اتجه إلى تسجيل الأحباس في ديوان خاص بها، وجعل ذلك تحت إشرافه، بناء على ما رآه من أنها صدقات مرجعها إلى الفقراء والمساكين، فقرر أن يلي الإشراف عليها حفظاً لها من أن يضع المنتفعون بها أيديهم عليها ويتوارثونها، فتضيع ثمرتها أو لا تصل إلى مستحقيها. ولم يكن صنيع (توبة) في الإشراف على الأوقاف عملاً فردياً، فقد تتابع القضاة على تولي شؤون الأوقاف بالنظر والإشراف ومحاسبة المسؤولين.

وفي العصر العباسي تنوعت الأوقاف واتسعت، بحيث أصبحت تجري في الأراضي الزراعية بعد أن ظلت منحصرة في الدور، وهذا هو ما يذكره (المقريزي) حيث قال: «إن الأحباس لم تكن إلا في الرباع وما يجري مجراها، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمة يتعرضون لها، حتى إن أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية وحبَّس على ذلك الأحباس الكثيرة لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر، ولم يتعرض لشيء من أراضي مصر (أي الزراعية)(2).

ولم يعد في وسع القضاة الإشراف على الأوقاف لكثرتها بمرور الوقت، فقامت الدولة العباسية بتخصيص جهاز إداري لمتابعة الأوقاف والإشراف عليها، وكان رئيس هذا الجهاز يسمى (صدر الوقوف) وقد قوي هذا الجهاز الإداري في عهد الدولة العثمانية وزادت فروعه وصدرت له القوانين المنظمة لاختصاصه وأعماله وكيفيات ممارسة مسؤولياته والمحاسبة عليها(4)، وقد انتقلت أكثر هذه التنظيمات والتشريعات إلى قوانين الأوقاف الحديثة المعمول بها في البلاد العربية والإسلامية التي كانت تضمها دولة الخلافة العثمانية.

 

وقد تضخم الجهاز الإداري المسؤول عن الأوقاف الأولى، وانقسم إلى ثلاثة دواوين أساسية: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر الأخرى، وديوان للأوقاف الأهل

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply