فكيف بصيام رمضان ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

 

تأملت هذا الشهر الكريم كثيراً، ودار في خلدي وأنا أتأمل هذه الأيام تلك البشائر الكبيرة التي جاءت تصحب هلاله...وأمعنت النظر في قول الله - تعالى -في الحديث القدسي: \"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به\" (متفق عليه) وتفسير أبو عبيد القاسم بن سلاّم: الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم خاصة فإنما هو بالنيّة التي خفيت على الناس وهذا وجه الحديث عندي.اهـ.

وقلت في نفسي وأنا أعيش هذه الفرحة، إذا صام الإنسان لوجه الله تعالى، وأضحى ضامراً لفقد الماء والطعام، يراه بين يديه، ويخلو به عن أنظار الناس، ثم لا يستطيع أن يمد يديه إلى شيء من ذلك رغبة في ما عند الله تبارك وتعالى. كيف يكون جزاؤه بين يدي الله تعالى يوم القيامة؟ وتذكرت وأنا أعيش في ذلك الحدث موقفين:

 

الموقف الأول:

موقف فرعون الطاغية، والذي وصل حد الإسراف والطغيان في مجابهة دين الله - تعالى -في الأرض، وظل طيلة حياته مناوئاً لهذه الرسالة، وخصماً لدوداً لدين الله تعالى، ووقف بين الناس وبين هداية السماء، وصل به حاله إلى أن قال وبأعلى صوته: \"أَنَا رَبٌّكُمُ الأَعلَى\" (النازعـات: من الآية24) ووقف في يوم آخر ليعلن رسالته للناس في الأرض: \" أَلَيسَ لِي مُلكُ مِصرَ وَهَذِهِ الأَنهَارُ تَجرِي مِن تَحتِي\" (الزخرف: من الآية51) ووقف في يوم ثالث ليوجه رسالة أسوأ من تلك الرسالتين يقول فيها: \" يَا هَامَانُ ابنِ لِي صَرحاً لَعَلِّي أَبلُغُ الأَسبَابَ أَسبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنٌّهُ كَاذِباً\" (غافر: 36-37) حين أدركته النهاية، وأطبق الله تعالى عليه البحر، قال الله تعالى حاكياً ضعفه: \"حَتَّى إِذَا أَدرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَت بِهِ بَنُو إِسرائيلَ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ آلآنَ وَقَد عَصَيتَ قَبلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدِينَ\" (يونس: 90، 91).

 

إذا صام الإنسان لوجه الله تعالى، وأضحى ضامراً لفقد الماء والطعام، يراه بين يديه، ويخلو به عن أنظار الناس، ثم لا يستطيع أن يمد يديه إلى شيء من ذلك رغبة في ما عند الله تبارك وتعالى. كيف يكون جزاؤه بين يدي الله تعالى يوم القيامة؟

 

لك أن تتصوّر أخي القارئ الكريم، بعد كل هذه الرحلة من العداء، ومحاربة دين الله - تعالى -، والبغي والطغيان، روى الإمام أحمد - رحمه الله - تعالى من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال فرعون: \" قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَت بِهِ بَنُو إِسرائيلَ\" قال: قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت حالاً من حال البحر، فَدَسَّيتُهُ في فيه مخافة أن تناله رحمة الله. (رواه الترمذي وصححه أحمد شاكر) .

لك أن تتصوّر كيف أن هذا الرجل استجاش عداؤه في قلوب الملائكة، ولعلم جبريل - عليه السلام - بعظيم رحمة الله - تعالى -، خشي أن تنال هذا الطاغية فراح يمارس بعضاً من جهده ليمنع وصولها إليه. وكأن الحديث يعرض استقرار عظيم رحمة الله في نفس جبريل لدرجة أنها يمكن أن تنال حتى الطغاة، وتمسح آثار طغيانهم في لحظة من اللحظات، وتكتب عليهم سعادة لا يشقون بعدها أبداً.

 

فإذا كانت رحمة الله - تعالى - لهذه الدرجة التي كادت أن تلتحف هذا الطاغية مع كل ما قدّم، فكيف تتصوّر يارعاك الله وأنت تحمل هذا الإسلام ديناً، وتعظّم ربك فتتعبّد له بهذه العباد العظيمة، لدرجة أنك تتحمّل في سبيله كل لأواء، بل تقدّم مرضاته على شهوات نفسك، وتجهد في سبيل طاعته. كيف تتصوّر جزاؤه لك غداً في عرصات القيامة؟ إن الحال أعظم من أن يصفه مقال، فقط أترك لك تصوّر ذلك.

 الموقف الثاني:

موقف الطاغية الآخر أبي لهب، الاسم الذي أراد الله تعالى أن نردده في كتابه الكريم على وجه الذم والتشهير به، أبو لهب الرجل الذي ظل يركض في سبيل إلغاء دعوة الله تعالى، الرجل الذي وقف في وجه نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وظل يطارده في بقاع مكة صاداً له عن تبليغ الرسالة، هذا الرجل أعتق ثويبة مولاته، وهذه المرأة أرضعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فانظر كيف صنع الله تعالى بهذا المعروف لأبي لهب، في البخاري أنا أبا لهب لما توفاه الله تعالى رآه بعض أهله في المنام فقالوا له ماذا لقيت بعدنا؟ فقال: لم أجد بعدكم رخاء أو قال: راحة غير أني سُقيت من هذه ـ وأشار إلى النقرة التي بين السبابة والإبهام ـ لإعتاقي ثويبة.

فإذا كان الله تعالى أوفى هذا الرجل، وحفظ له هذا الجميل، وكافأه عليه مع أنه لم يرجو به وجهه - تعالى -، إلا لما صار به أثر على الإسلام، فقل لي بربك أيها الصائم الكريم وأنت بهذه الطاعة، وهذا الحرص في شهر رمضان على الخير، تجهد من أجل الله - تعالى -، وتنفّذ أمره، وتحرص على طاعته كيف يكون جزاؤك بين يديه غداً في عرصات القيامة؟

 

إن المؤمل على الله تعالى عظيم، والمرجو منه كبير، ولن تضيع بإذن الله تعالى روائع الطاعة منك أيها الحبيب. فأنت تتعبّد لله - تعالى -، وترجو ما وعدك في كتابه، فلتعلم أن الرحمة التي كادت تلتحف فرعون مع طغيانه، والعدل الذي أوفى به الله تعالى أبا لهب مع شدة عدائه أقرب إلى إيفائك حقك اليوم في عرصات الدنيا بالتوفيق والسداد، وغداً في عرصات القيامة لا تسأل عن الكرامات. وفقني الله وإياك لطاعته.. وجعلنا الله - تعالى -من أوليائه. وتقبل الله صيامك وقيامك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply