التهاون بعد رمضان ربما يدل على عدم قبول العبادات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

المشاركون في التحقيق:

(1) الدكتور عبد الرحمن السديس/ إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة.

(2) الدكتور سعود الشريم/ إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة.

(3) الشيخ عبد المحسن القاسم/ إمام وخطيب الحرم النبوي الشريف.

(4) الشيخ مازن التويجري إمام وخطيب جامع حي النزهة بالرياض.

 

جرت العادة عند بعض المسلمين أن يكرسوا جل وقتهم للعبادة في رمضان، إلا أنه ما أن ينقضي الشهر المبارك حتى يقل الاجتهاد في العبادة تدريجيا، وكأن تقوى الله محصورة في رمضان. هل نسي هؤلاء أن الله فرض عليهم طاعته وألزمهم عبادته في كل وقت وأن من علامات قبول العمل في رمضان المواظبة على الأعمال الصالحة بعده؟ لا شك أن التهاون في الطاعة بعد رمضان دليل على ضعف الإيمان وربما يكون دليلا على أنه لم يكن لهؤلاء المتهاونين حظ من صيامهم سوى الجوع والعطش - والعياذ بالله -. (الدعوة) طرحت هذا الموضوع على عدد من أصحاب الفضيلة العلماء فكان التحقيق التالي:

في البداية يتحدث الشيخ مازن التويجري إمام وخطيب جامع حي النزهة عن سبب انصراف الناس عن العبادة بعد شهر رمضان حيث يقول: بعد كل هذا النعيم الذي رأيناه في شهرنا المبارك، رأينا إقبال الناس على الطاعة بأنواعها من فرض ونفل، لا بد من سؤال نحتاج الإجابة عنه إلى تجرد وصدق ونظر في الواقع قبل إلقاء الجواب. والسؤال هو: هل لتلكم الطاعات أثر في حياتنا، في عباداتنا، في تعاملنا، في أخلاقنا، في أقوالنا وأفعالنا؟ هل تحقق فينا قول ربنا - جل وعلا -: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (45)} [العنكبوت]. هل انتهينا عن المنكرات؟ ماذا عن أقوالك، عن صدقك في الحديث والمعاملة؟ ماذا عن المنكرات التي عمت كثيرا من البيوت (إلا من رحم الله)؟ سهر ومسلسلات، طرب وفضائيات، ضياع للأوقات، ومحاربة لرب الأرض والسموات. أين أثر الصلاة؟ أين أثر البكاء والدعاء؟ أين نتاج الخشوع والخضوع؟ أم أن القضية أضحت عادات، حركات وسكنات، لا روح فيها ولا طعم؟ ويضيف قائلا: أين أنت من قول نبيك - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، ويتساءل قائلا: من الذي أمرك بالصلاة في رمضان؟ من الذي أمرك بالصيام، بالصدقة والذكر؟ تقرأ كلام من؟ وترتل كتاب من؟ أليس هو الله؟ الله الذي أمرك بالصلاة في رمضان هو الذي يأمرك بالصلاة في كل يوم من أيام السنة، أمرك بالصيام والذكر والدعاء في رمضان وغيره. إذا ما الذي جرى؟ ما هذا الخلط العجيب في فهم العبودية؟ فهل نحن نعبد رمضان أم رب رمضان؟ {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)} [الذاريات]. ليعبدون في رمضان وغيره. {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)} [الأنعام] {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)} [الحجر] {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (92)} [النحل]. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - المتفق عليه: (وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه). وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا عبدالله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل). وفي الحديث: (إن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل). وكان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديمة كما في البخاري. فهل نعي الدرس الحقيقي من شهر الصيام، وأنه مثال مصغر لتحقيق العبودية لله - سبحانه وتعالى -، فليكن منطلقا لتحقيقها في جميع الأزمان والأحوال.

 

الطاعة المطلقة

ويضيف فضيلة د. الشيخ عبد المحسن القاسم إمام وخطيب الحرم النبوي الشريف والقاضي بمحاكم المدينة المنورة مؤكدا على الاهتمام بالأوقات وإعمارها بالعبادة، حيث يقول: الطاعة ليس لها زمن محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل يجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة رب العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان. وأكد فضيلته قائلا: إن للقبول والربح علامات، وللخسارة والرد أمارات، وإن من علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها ووقاية من خطرها، قال - جل وعلا -: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (114)} [هود]. ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) [رواه الترمذي]. ومن عزم على العود أي التفريط والتقصير بعد رمضان فالله يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كل وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس من طال عمره وصلح عمله). ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصر على زمن معين أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة. وعن مشروعية استمرار الصيام والقيام، يقول فضيلته: إن انقضى موسم رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعا في غيره من الشهور، فقد سن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم الاثنين والخميس، وقال: (إن الأعمال تعرض فيها على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)، وأوصى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة - رضي الله عنه - بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال: (صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) (متفق عليه). وأتبعوا صيام رمضان بصيام ست من شوال، يقول - عليه الصلاة والسلام -: (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) (رواه مسلم). ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وعن أهمية المداومة على الأعمال يقول: وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والخطايا مطوقة في أعناق الرجال، والهلاك في الإصرار عليها، وما أعرض معرض عن طاعته إلا عثر في ثوب غفلته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، فإياك والمعاصي بعد شهر الغفران، فالعاصي في شقاء، والخطيئة تذل الإنسان وتخرس اللسان. يقول أبو سليمان التيمي: (إن الرجل يصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته)، وأقبح بالذنب بعد الطاعة والبعد عن المولى بعد القرب منه {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97)} [النحل].

 

أسباب القبول

أما الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس إمام وخطيب الحرم المكي الشريف والأستاذ بجامعة أم القرى فيقول: بالأمس القريب ودعت الأمة الإسلامية شهرا عظيما وموسما كريما، تحزن لفراقه القلوب المؤمنة، ألا وهو شهر رمضان المبارك، فقد قوضت خيامه، وتصرمت أيامه، وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله ونسأل الله قبوله، بالأمس نترقبه بكل فرح وخشوع، واليوم نودعه بالأسى والدموع، وتلك سنة الله في خلقه، أيام تنقضي، وأعوام تنتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين). مضى هذا الشهر الكريم وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا، شاهد للمشمر بصيامه وقيامه، وعلى المقصر بغفلته وإعراضه، ولا ندري - يا عبدالله - هل سندركه مرة أخرى أم يحول بيننا وبينه هاذم اللذات ومفرق الجماعات؟! فسلام الله على شهر الصيام والقيام، لقد مر كلمحة برق أو غمضة عين، كان مضمارا يتنافس فيه المتنافسون، وميدانا يتسابق فيه المتسابقون، فكم من أكف ضارعة رفعت، ودموع ساخنة ذرفت، وعبرات حراء قد سكبت، وحق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، موسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار. لقد مر بنا هذا الشهر المبارك كطيف خيال، مر بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه فيه، فليفتح كل واحد منا صفحة المحاسبة لنفسه: ماذا عمل فيه؟ ماذا استفاد منه؟ ما أثره في النفوس؟ وما ثمراته في الواقع؟ وما مدى تأثيره على العمل والسلوك والأخلاق؟ إن السؤال المطروح الآن بإلحاح: هل أخذنا بأسباب القبول بعد رمضان وعزمنا على مواصلة الأعمال الصالحة أو أن واقع كثير من الناس على خلاف ذلك؟ هل تأسينا بالسلف الصالح - رحمهم الله - الذين توجل قلوبهم وتحزن نفوسهم عندما ينتهي رمضان لأنهم يخافون ألا يتقبل منهم عملهم؟ لذا فقد كانوا يكثرون الدعاء بعد رمضان بالقبول. حيث كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم. كما كانوا - رحمهم الله - يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، سألت عائشة - رضي الله عنها - الصديقة بنت الصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - سبحانه -: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة (60)} [المؤمنون]. أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم). وماذا بعد شهر رمضان؟! ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا، ولنقارن بين حالنا قبل حلول شهر رمضان وحالتنا بعده، هل ملأت التقوى قلوبنا؟ هل صلحت أعمالنا؟ هل تحسنت أخلاقنا؟ هل استقام سلوكنا؟ وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟ هل تلاشت المنكرات والمحرمات من أسرنا ومجتمعاتنا؟ يا من استجبتم لربكم في رمضان، استجيبوا له في سائر الأيام، {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله (47)} [الشورى] أما آن أن تخشع لذكر الله قلوبنا، وتتوحد على الصراط المستقيم دروبنا؟! لقد جاءت النصوص الشرعية بالأمر بعبادة الله والاستقامة على شرعه عامة في كل زمان ومكان، ومطلقة في كل وقت وآن، وليست مخصصة بمرحلة من العمر، أو مقيدة بفترة من الدهر، بل ليس لها غاية إلا الموت {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)} [الحجر]. ولما سئل بشر الحافي - رحمه الله - عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا قال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان). يجب أن تبقى آثار الصيام شعارا متمثلا في حياة الفرد والأمة، وما أعطاه الصيام من دروس في الصبر والتضحية والإذعان لأمر الله والوحدة والتضامن والألفة والمودة بين أفراد هذه الأمة يجب أن يستمر عليه المسلمون، وترى متجسدة في حياتهم العملية بعد رمضان، وما تدنى واقع الأمة وأصيب المسلمون بالوهن في أنفسهم والضعف أمام أعدائهم إلا لما تخلوا عن أعز مقومات نصرهم وسيادتهم، وهو الدين الإسلامي الحق، ولما أساء بعض أبناء الإسلام فهمه، فجعلوا للطاعة وقتا وللمعصية أوقاتا، وللخير والإقبال زمنا وللشر والإدبار أزمانا، عند ذلك لم تعمل مناسبات الخير والرحمة ومواسم البر والمغفرة عملها في قلوب كثير من الناس، ولم تؤثر في سلوكهم وأخلاقهم، ولم تجد في حل مشكلاتهم وقضاياهم إلا من رحم الله. إن من شكر الله - عز وجل - على نعمة توفيقه للصيام والقيام أن يستمر المسلم على طاعة الله - عز وجل - في حياته كلها، فالإله الذي يصام له ويعبد في رمضان هو الإله في جميع الأزمان، ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، وإن من كفر النعمة وأمارات رد العمل العودة إلى المعاصي بعد الطاعة، يقول كعب: (من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا خرج رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود، وباب التوفيق في وجهه مسدود). وإن الناظر في حياة كثير من المسلمين اليوم في رمضان وبعد رمضان يأسف أشد الأسف لما عليه بعض الناس - هداهم الله - بعد شهر الصيام من هجر المساجد، وترك الجماعات، والتساهل في الصلوات، واعتزال الطاعات، من قراءة القرآن والذكر والدعاء، والبذل والإحسان والصدقة، والإقبال على أنواع المعاصي والمنكرات، واستمراء الفواحش والمحرمات، وما ذاك - إلا من قلة البصيرة في الدين، وسوء الفهم لشعائر الإسلام، وما إضاعة الصلوات واتباع الشهوات والإغراق في الملذات والعكوف على المحرمات عبر السهرات والسمرات والخروج إلى الشواطئ والمنتزهات ومتابعة الأفلام وعفن القنوات والفضائيات إلا دليل على ضعف الإيمان في نفوس فئام من الناس، فاتقوا الله عباد الله، ولا تهدموا ما بنيتم من الأعمال الصالحة في شهر رمضان، اتقوا الله يا من عزمتم على المعاصي بعد رمضان، فرب الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب مشاهد، {إن الله كان عليكم رقيبا (1)} [النساء]. واعلموا أن الموت يأتي بغتة، وما مرور الأعوام بعد الأعوام وتكرار الليالي والأيام إلا مذكر بتصرم الأعمار وانتهاء الآجال والقدوم على الكبير المتعال. أنسيتم أن الله افترض عليكم طاعته وألزمكم عبادته في كل وقت؟! ألا فليعلم ذلك جيدا من ودعوا الأعمال الصالحة بوداع رمضان، أفأمن هؤلاء أن ينزل بهم الموت ساعة من ليل أو نهار وهم على حال لا ترضي العزيز الجبار، ولا تنفعهم يوم العرض على الواحد القهار؟! {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (92)} [النحل]. نعوذ بالله من الحور بعد الكور. أما آن لنا - أمة الإسلام - أن ندرك أن ما أصابنا من ضعف وهوان إنما هو من عند أنفسنا ونتيجة لعدم استفادتنا من مواسم البر والإحسان، إذ لم تعمل هذه المواسم عملها في القلوب فتحييها بعد موات، وعملها في الأمة فتجمعها بعد فرقة وشتات، ولم تجد في حل ما استعصى من مشكلات، وعلاج ما استفحل من معضلات، فإن ذلك دليل على عدم الوعي وقصور الفهم للإسلام. أما إذا استقامت الأمة على العبادة، ولم تهدم ما بنته في مواسم الخير، ولم يستسلم أفرادها وأبناؤها لنزغات الشيطان وأعوانه ولم يبطلوا ما عملوا في رمضان فإن الأمة - بإذن الله - تمسك بصمام الأمان وحبل النجاة، لتصل إلى شاطئ الأمان وبر السلام بإذن الله. نداء ملؤه الحنان والإشفاق إلى الذين عزموا على العودة إلى المعاصي بعد رمضان أن يتقوا الله - سبحانه -، فالعمر قصير، والآجال معدودة، والأنفاس محدودة، كفى مخادعة للرحمن، وانزلاقا في طريق الشيطان، وعبثا بشعائر الإسلام، إلى متى الاسترسال في الغفلة فلنعلنها توبة صادقة نصوحا، لا رجعة بعدها إلى الذنوب والمعاصي، فهذا هو الشكر الحقيقي لنعمة الصيام. وهمسة في آذان شباب الإسلام أن يتقوا الله- تبارك وتعالى -ويقبلوا عليه، ويحفظوا أوقاتهم بعد رمضان، ويشغلوها بطاعة الله، فلا يغتروا بعمل المفتونين بمعصية الله، وليحذروا ما يسيء إلى دينهم وقيمهم، ويضعف الإيمان في نفوسهم، ويئد الأخلاق في قلوبهم وأعمالهم وواقعهم، مما يثير الغرائز، ويهيج المشاعر، مما يرى ويسمع ويقرأ عبر وسائل الإعلام من معصية الله - عز وجل -، الحذر من قرناء السوء.

 

الناس بعد رمضان

ويضيف الدكتور سعود الشريم إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة. مبينا أحوال الناس في رمضان وبعده حيث يقول: إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجب من لبه كل مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأن لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله - سبحانه - هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محطة تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر، ولا غرو في ذلك فالله - جل وعلا - أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: {لعلكم تتقون (21)} [البقرة]. ومن هنا كان لزاما علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها، فكم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوع والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب والسهر، وآكد ما يدل على ذلك حينما يسأل الناس أنفسهم: كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان؟ وكم سمعوا فيه من حكم ومواعظ وعبر؟! ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! ألم يقرؤوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود، وخسف قوم لوط؟ ألم يقرؤوا الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! فسبحان الله، ما هذا الران الذي على القلوب؟! {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)} [النساء]. أفقدت قلوبنا بعد ذلك من حجر؟! أم خلقت من صخر صلب؟! ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعا، وللأنس والقربة خرابا بلقعا، وحينئذ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين المروة والصفا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25)} [محمد]. إن من قارب الفتور والكسل بعد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادعى الترويح والتسلية وكل إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه فقد وكل إلى ضيعة، فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان بمقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد. إن من وقع التقصير بعد التمام، أو تمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها لهو أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غش نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، إلا أنها لا تبرح مكانها، بل لربما وجد معه خفي العقوبة الرئيس، وهو سلب لذة المناجاة وحلاوة التعبد، إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، وحينئذ أخلقوا بذي الصبر أن يحظى بحاجته، وبمدمن القرع للأبواب أن يلج، ولأجل هذا لم يكن العجب في أن يغلب الطبع، وإنما العجب في أن يغلب الطبع، وأمثال هؤلاء هم - ولا شك - ممن يسيرون على هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في المداومة على الطاعة. نعم لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور، بيد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جوادا في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حل رمضان، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما صح عنه: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور)، والله - جل وعلا - يقول: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (92)} [النحل]. ويؤكد ذلك ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه المشهور: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)، إذ لم يقصر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه - جل وعلا - بقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)} [الحجر]. فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت. إن مما لا شك فيه أن هناك ضعفا في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوب منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافة وأسرة وإعلاما من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدع بها النفس في موسم ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه - بإذن الله - من التساقط والتهالك، وتحرسهم من الفترة بعد الشرة مهما قلت ما دامت هي على الدوام، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل) (رواه البخاري ومسلم). ولأجل هذا فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة والزكاة والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولمن أوصاك به ولإخوانك في الملة والدين من المعوزين والمستضعفين والمجاهدين، ناهيكم عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن، والتي أمرنا الله بها في قوله: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون (13)} [النور]. فإذا عرفت هذه الأمور كلها، فما عليك إلا أن تلزم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم، ولقد ذقت طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، فلا تعكرن هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد. إن البقاء على الطاعة في كل حين أو التهاون عنها كرات ومرات ليعدان في المرء - بإذن الله - إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلبا في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرا على بطن) (رواه أحمد) ولأجل هذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -:(يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) (رواه الإمام أحمد).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply