العشر الأواخر من رمضان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

الحمد لله المتفرد بالدوام والبقاء، نحمده سبحانه وتعالى إذ اختصنا بشهر الصيام ليفيض فيه إحسانًا، ويغفر فيه عصيانًا، ويضاعف فيه أعمالاً، نحمده جل وعلا على كل حال، ونرجوه أن يجعله شاهدًا لنا عنده تبارك وتعالى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، أزكى الأمة أعمالاً، وأصدقهم أقوالاً وأفعالاً.

أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، وجِدّوا في العمل الصالح في هذه الليالي العشر، وودّعوا شهركم هذا بالإحسان وتلاوة القرآن وبذل الصدقات، وقابلوا نعم الله بالشكر له جل وعلا والامتنان، وانهوا النفوس وازجروها عن مقارفة الهوى والآثام، واستدركوا ما فرّطتم في أول شهركم، وتنافسوا في الدرجات العلى والمنازل العالية، فإنما الأعمال بالخواتيم.

عباد الله، إن شهر الصوم قد قوّضت خيامه وتصرمت لياليه وأيامه، فالسعيد كل السعادة من ربح وفاز وتدارك ما فاته من العمل الصالح في هذه الأيام العظام، ويكفيك ـ أخي المسلم ـ شرفًا رفيعًا وقدرًا عظيمًا ما خصّ الله به هذه العشر، ليلةٌ هي خير من ألف شهر، ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، ليلة أنزل الله فيها القرآن وأجزل فيها الإفضال والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن فضلها في قوله تعالى: حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ, مُبَارَكَةٍ, إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفرَقُ كُلٌّ أَمرٍ, حَكِيمٍ, [الدخان: 1ـ 4]، وقد كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر في رمضان، ويقول: ((تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان))[1].

فيا عباد الله، اغتنموا هذه الليلة المباركة، وعظموها بالقيام في صلواتكم بإحسان الركوع والسجود وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار، والتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك كما جاء بذلك الخبر عن البشير النذير معلم البشرية وهاديها إلى كل خير وناهيها عن كل شر.

عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن نبيكم كان أجود الناس، وكان جوده وعبادته عليه الصلاة والسلام يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة[2].

فعلينا ـ معشر المسلمين ـ إحياء هذه السنة بالجلوس مع الأهل أو الأصدقاء ليلاً ومدارسة القرآن في المسجد أو البيت.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا والفوز بموجبات الجنة كما ورد في الحديث الصحيح أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تصدق بصدقة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة))[3].

فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصدقات وتلاوة القرآن في هذه الأيام المباركة، وابتغوا ما عند الله من الأجر والثواب بالإحسان إلى خلق الله من مال الله الذي آتاكم، كما قال الله سبحانه وتعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُستَخلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَأَنفَقُوا لَهُم أَجرٌ كَبِيرٌ [الحديد: 7].

وتيقنوا ـ رحمكم الله ـ أن المال لا ينقص بالصدقة لما أخبر به الصادق الأمين: ((ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله))[4]. فاللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وتجاوز عن سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ, تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرٌّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ, سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ [سورة القدر].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

[1] رواه البخاري في صلاة التراويح، باب: تحري ليلة القدر في العشر الأواخر (2/254)، ومسلم في الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها (1169).

[2] رواه البخاري في الصوم، باب: أجود ما كان النبي يكون في رمضان (2/228)، ومسلم في الفضائل، باب: كان النبي أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (2308).

[3] رواه مسلم في الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر (1028).

[4] رواه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع (2588).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا يوافي نعمه، نحمده جلّ ذكره ونشكره على إحسانه وما خصّ به هذه العشر من رمضان بمزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من احتفى بهذه العشر، وكان قدوة لكل البشر، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك وعلى آله ومن سار على هديه واقتفى الأثر.

أما بعد: فيا عباد الله، إن الإقبال على الطاعة لله جل وعلا والقرب من الرب الكريم- تبارك وتعالى -مطلوب في كل حال، ولكن ذلك في العشر الأخيرة من رمضان أعظم فضلاً وأكثر أجرًا حيث يقترن فيها الفضل بالفضل، فضل العبادة وفضل الزمان، ففيها التجليات والنفحات وإقالة العثرات واستجابة الدعوات وعتق الرقاب الموبقات، ولنا في مرشد البشرية ومربيها خير أسوة حسنة في الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر[1]، وفي رواية لمسلم: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها[2].

فاتقوا الله عباد الله، وأنيبوا إليه، وأخلصوا له الأعمال، ولازموا التوبة والاستغفار، واشكروا الله الذي هداكم للإيمان وبلّغكم شهر الصيام وأعانكم على صيامه وقيامه، واغتنموا هذه العشر الأواخر بالاجتهاد في العبادة متأسّين برسول الله وأصحابه من بعده، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

 

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

[1] صحيح البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (2/255)، صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر والأواخر من شهر رمضان (1174).

[2] صحيح مسلم:كتاب الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1174).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply