وقفة مع رمضان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعدُوداتٍ, ) [البقرة: 183، 184]، شَهرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ, مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ ) [البقرة: 185].

روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة باباً، يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد)).

ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).

وفي رواية: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)).

وعند النسائي وابن خزيمة والحاكم وصححه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بعمل، قال: ((عليك بالصوم، فإنه لا عدل له)) فكررها ثلاثاً، فقال: ((عليك بالصوم فإنه لا عدل له)).

وروى أحمد في مسنده والطبراني والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية لابن حبان: ((من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفظ ما ينبغي له أن يتحفظ، كفر ما قبله)).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبن الكبائر)).

وعند الحاكم عن كعب بن عجرة وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا المنبر)) فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: ((آمين))، فلما ارتقى الثانية قال: ((آمين))، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: ((آمين))، فلما نزل قلنا: يا رسول الله سمعنا منك شيئاً ما كنا نسمعه قال: ((إن جبريل عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين)) الحديث.

وخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان، فتّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)).

زاد الطبراني: ((بُعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، إذا لم يغفر له فيه فمتى؟)).

ورواه البيهقي بسنده وزاد: ((ونادى منادٍ, من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي الخير يمم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل مستغفر يغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل نُعطي سُؤلَه؟ ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة، عتقاء من النار)).

وخرج الإمام أحمد والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطهن أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل في كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)).

وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)).

ولهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)).

وروى الترمذي وصححه وابن حبان وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً)).

وبعدُ ـ أيها الأحبة الكرام ـ، أعلم أني لم آتِ بجديد، وأن علمكم سبق في هذا وغيره، ولكن السؤال المهم: شهرٌ هذه بعض أسراره، وتلك قطرة من بحر فضائله، لا يكون نقطةَ تحول في حياة المسلم ويخرج منه ولم يغفر له، أليس هذا هو الحرمان بعينه؟ والعجب ـ أيها الأخوة ـ، من عبد صام عما أحل ربه ومولاه، وراح يَلغُ فيما حرم عليه، نهاره نوم وكسل، وليله سهر وقنوات، وعظائم وموبقات، مساكين أولئك، فرحوا بطول ليل الصيام، فراحوا يملؤونه بأنواع من المعاصي والآثام.

ولهذا لو ضرب أحدهم على أن يفطر يوماً واحداً من رمضان لغير عذر لأبى وغضب، واستنكر ذلك، وهو في ليله ونهاره ينتقل من معصية إلى أخرى، ومما يشين إلى ما لا يزين.

يصوم عما أحل الله ويفطر على ما حرمه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله كما عند أحمد وابن ماجه: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)).

قال ابن رجب رحمه الله: \"وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل.

فيا من سلم إلى أن بلغ رمضان، ها أنت ذا تخوض غمار أيامه ولياليه، مضى اليسير منها، ماذا قدمت؟ بماذا تفكر؟ على ماذا عزمت؟ مسكين هو ـ والله ـ إن كان ليله معموراً بالقيل والقال وسوء الأقوال والأفعال، مسكين هو ـ والله ـ في الوقت الذي يصُفٌّ المصلون أقدامهم ويركعون ويسجدون يدعون ويستغيثون ويباهي الله بهم ملائكته، يبقى يقلب القناة بعد القناة، مسكين هو ـ والله ـ إن كان نهاره نوماً عن الصلاة وهجراً للقرآن. وإن لم يغفر للمسلم في رمضان فمتى ينتظر الغفران؟ إن لم يتعرض لنفحات الرضوان في هذا الشهر الكريم، فمتى يتعرض؟ محروم هو يمضي رمضان وتنصرم أيامه وتودع لياليه، وهو في سكر الشهوة هائم، ولقيد الكسل والتفريط أسير.

أيها المؤمنون، إن رمضان هبة الله لهذه الأمة، وعطيته لأهل الملة، فمن فاته الخير فيه فقد فاته من الخير أوفره ومن الهدايا أغلاها وأثمنها.

وإن مما يجب التذكير به ـ ونحن نودع الأيام الأولى منه ـ أن في البشر قُطَّاعَ طريق، يصدون الخلق عن خالقهم، ويضلونهم عن سبل رشادهم وهدايتهم، لم نزل نراهم في الصحف والمجلات، في الشوارع والطرقات، في الإذاعات والشاشات، يعدون ويبشرون، ويدعون الناس إلى قضاء أسعد الأوقات، وعمارة ليالي رمضان ـ زعموا ـ والاستمتاع بمتابعة السهرات والحفلات في تلك القناة أو غيرها.

أيها العقلاء، اسمحوا لي أن أقول: إن في الأمة عدداً ليس باليسير، من هو ضعيف الإرادة والعزيمة، قليل الوعي والتخطيط، وإلا بما تفسرون لهث الناس ومتابعتهم لبرامج ساذجة سخيفة، أتوا عقول القوم من باب التسلية والسمر والضحك وقضاء الأوقات.

فيلمز الناس، ويستهزأ بعادات البلد تحت مظلة الضحك، يمس جناب الدين ويُهَوِّن من شأن شعائر الدين، ونحن نضحك. تعرض المرأة المتمسكة بحجابها على أنها المتخلفة الرجعية، ونحن نضحك. تُصوّر بعض مظاهر الحشمة والغَيرة على الأعراض على أنها سذاجة ودروشة وحمق، ونحن نضحك. تظهر المرأة المتكشفة المتبرجة على أنها المتقدمة غير المعقدة، ونحن نضحك.

وبعد هذا يأتي من يقول بكل برود: لا تعطوا القضية أكبر من حجمها، المسألة ضحك وانتقاد لسلبيات المجتمع. وإن سلمنا جدلاً أن ما يعرض في مثل هذه البرامج لا ينقل إلا تلك العادات السيئة في المجتمع، فهل هذا هو الأسلوب الأمثل لتصحيح الأخطاء وتعديل السلوك؟ ماذا قدم أولئك لمجتمعهم وأمتهم، في واقع الجد والعمل، للرفع من شأن المجتمع؟ إنهم على جنبات الطرقات، قطعوا الطريق على المتهجدين والصائمين، شغلوا الناس عن ذكر الله والصلاة، حرموا المسلم من شغل وقته بالطاعات.

إننا بحاجة ـ أيها الأكارم ـ إلى أن نعاود النظر في اهتماماتنا، نراجع الحساب في نظرنا للأمور وسبر أغوارها وأبعادها، وما الهدف منها، لسنا أمة تحركها النكات، ويستهويها حمق المهرجين وسفه الحمقى والمغفلين، أو يقودها همج الخلق ورعاع الناس.

واسمحوا لي ـ أيها الفضلاء ـ أن أقول: إنه قد لا يعتريك استغراب ودهشة أن يتابع مثل ذلكم الهراء شاب في مقتبل عمره أو فتاة لم تزل في ريعان شبابها، ولكن الأسف والألم والدهشة والحيرة تحتويك، إذا رأيت حديث الرجال الكمّل والعقلاء من الناس، لا يتعدى أحداث حلقاته، وصور ممثليه.

فما بقي للرجولة والعقل والغَيرة؟!

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply