وظائف رمضان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، فالتقوى زاد الأبرار، ومتاع الأخيار.

أيها المسلمون، لقد حلّ بالمسلمين موسمٌ عظيم، مخصوص بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه كتابه، وفرض صيامه، شهر القيام وتلاوة القرآن، زمن العتق والغفران، موسم الصدقات والإحسان، تتوالى فيه الخيرات، وتعمٌّ البركات، يقول النبي: ((أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تُفتّح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم)) [رواه النسائي][1].

أشرف الشهور وأزكاها عند الله، جعله تعالى ميداناً لعباده يتسابقون فيه بأنواع الطاعات والقربات، شهر رمضان منحة لتزكية النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى، ومن استقبل رمضان بالآثام وهو عاقّ لوالديه، وقاطع لأرحامه، هاجرٌ لإخوانه، وأقواله فيها غيبة ونميمة، فهيهات أن يستفيد من رمضان، يقول المصطفى: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري] [2].

وأهون الصيام ترك الطعام والشراب، وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً[3].

في هذا الشهر يشمّر الجادون في طاعة ربهم، أداءٌ للصلوات جماعة في بيوت الله، قيامٌ بالليل مع الإمام، وقراءة للقرآن قراءةً مرتلة خاشعة بتدبر، صدقةٌ بالمال ولو بالقليل، على أهل الحاجة من الأقارب والجيران، تفطير الصائمين، يقول النبي: ((من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) [رواه الترمذي] [4].

اعتكافٌ في بيت من بيوت الله، أداءٌ لمناسك العمرة: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) [متفق عليه] [5].

إكثار من الذكر والدعاء والاستغفار، يتأكد ذلك عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، وفي الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟

زيادةٌ في بر الوالدين، والقرب منهم، والتودد إليهم، إحسانٌ إلى الزوجة والأولاد والأهل بالتوجيه الرشيد، والكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، صلةُ الأرحام، والصدقة على المحتاج منهم، تفقد الجيران وزيارتهم، والتعرف على أحوالهم، مدٌّ يد العون للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، هذا دأب الصالحين في شهر الخيرات.

وإن من أفضل الأعمال بعد إصلاح الإنسان لنفسه أن يقوم بالدعوة إلى الله والاجتهاد في هداية الناس، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم وسلوكهم: ( وَمَن أَحسَنُ قَولاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ ) [فصلت: 33].

وميادين الدعوة رحبة، نصيحةٌ مخلصةً، وكلمةٌ صادقة، وقدوةٌ حسنة، علماً وعملاً، تقوًى وأخلاقاً، ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً)) [رواه مسلم] [6].

فاعزم بصدق على الارتقاء نحو درجات الاستقامة والهداية، واستقبل رمضان بتطهير المال من الحرام، فالمال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، فلا يستجاب معه الدعاء، ولا تُفتّح له أبواب السماء.

فبادر – رعاك الله – وانظر في نفسك، وابحث في بيتك، وتطهر من كل مال حرام، حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع، فيُسمع لك الدعاء.

وفي رياح الأسحار، ولحظات أنين المنيبين يهفو بعض المحرومين إلى المحرمات، ليتخذ رمضان موسماً للعصيان، إطلاقٌ للبصر في المحظورات، وإرخاءٌ للأذنين للأغنيات، ومشاهدةٌ للمحموم من الفضائيات، تتبعٌ لعورات المسلمات في الأسواق والطرقات، وفيهم أصحاب الجلسات الفارغة، وأصدقاء الزيارات القاتلة، لهوٌ ولعبٌ، هزلٌ ومرحٌ، لم يعرفوا للزمان قدراً، ولا لرمضان شرفاً، جلبوا لأنفسهم الشقاء، وأذاقوا أرواحهم العناء، أما علموا أن لا لذة في غير الطاعة، وأنَّ كل متعة بمحرم تؤدّي إلى حسرة وندامة، ( وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ) [طه: 124].

أيها المسلمون، اليأس والقنوط سلاحٌ لإبليس ليمضيَه في العاصي حتى يستمر على عصيانه، مهما عمل العبد من المعاصي والفجور، فالإسلام لا يأس فيه من رحمة الله، فالتوبة تهدم ما قبلها، والإنابة تجب ما سلفها، فمن كان مبتلى بمعصية، فرمضان موسم التوبة والإنابة، الشياطين مصفّدة، والنفس منكسرة، والله تعالى ينادي: ( قُل يا عبادي الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لاَ تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [الزمر: 53]، ويقول في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [رواه الترمذي] [7].

إن من أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربه، يقول لقمان لابنه: (يا بني، عوّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً) [8].

وعلامة التوبة البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار.

في هذا الشهر قوافل من التائبين يقصدون عفو الله، فكن أحدهم، فما أجمل أن يكون رمضان بداية للتوبة والإنابة، فكم فيه من التائبين إلى الله، وكم من المستغفرين من ذنوبهم، النادمين على تفريطهم.

أيتها المرأة المسلمة، كوني في هذا الشهر المبارك مركز إشعاع، ومشعل هداية، حارسة للفضيلة، نابذة للرذيلة، معتزةً بدينك، شامخة بشرفك، صائنة عفافك، لا تستمعي إلى سقيم الأفكار، وقبيح الأقوال، الداعية إلى نبذ الستر والحياء، أو تقليد الكافرات والفاجرات، اللاتي نبذن صفات الأنوثة والخجل، واحذري أن تكوني من حبائل الشيطان في هذه الأيام الفاضلة، أو تتّصِفي بالتبرج والسفور، وابتعدي عن قرينات السوء، فسكنُ المرأة في قرارها، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، والله تعالى يغار على حرماته، وبطشه شديد، وإذا رفع ستره عن أمته فضحها، فتزيَّني بزينة الدين، وتجملي بجمال الستر، فالعمر قليل، والحشر أمره عسير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( شَهرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ, مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ, فَعِدَّةٌ مّن أَيَّامٍ, أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ ) [البقرة: 185].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

--------------------------------------------------

[1] أخرجه أحمد [7148]، والنسائي في الصيام (4/129) من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب: \"لم يسمع منه فيما أعلم\"، وصححه الألباني لشواهده، انظر: صحيح الترغيب [999].

[2] أخرجه البخاري في الصوم [1903] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] انظر: المغني لابن قدامة (3/59).

[4] رواه أحمد [16585]، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائماً [807]، وابن ماجه في الصيام، باب: في ثواب من فطر صائماً [1746] من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال الترمذي: \"حسن صحيح\"، وصححه ابن خزيمة [2064]، وابن حبان [3429]، وأورده الألباني في صحيح الترغيب [1078].

[5] أخرجه البخاري في الحج [1782]، ومسلم في الحج [1256] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.

[6] أخرجه مسلم في العلم [2674] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[7] أخرجه الترمذي في الدعوات [3540] وقال: \"حديث حسن غريب\"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): \"إسناده لا بأس به\"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [127].

[8] أخرجه البيهقي في الشعب (2/56) من طريق سنيد بن داود عن المعتمر عن أبيه قال: قال لقمان لابنه... وذكر نحوه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص394) بصيغة التمريض.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

 

أما بعد:

أيها المسلمون، ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار بطولها أو قصرها، ويعود الناس ـ وأنت منهم ـ إلى ربهم، فكم من إنسان انتظر رمضان بأقوى الأمل، فباغته الأجل، فأكثر في رمضان من عمل الصالحات، فقد أتى إليك رمضان بعد طول غياب، ووفد إليك بعد فراق، فافتح فيه صفحة مشرقة مع مولاك، واسدل الستار على ماضٍ, نسيته، وأحصاه الله عليك، وتب إلى التواب الرحيم من كل ذنب وتقصير وخطيئة، وفي اغتنام مواسم الخير بالجد في العمل الصالح والتوبة مما سلف من القبائح ما يعوِّض الله به العاملين عما مضى من نقص العمل، ويصرف به عقوبة ما اقترف المرء من الزلل.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِي يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً ) [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم على نبينا محمد...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply