أحكام الإذن الطبي ( 3 - 3 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

- الحالات التي يسقط فيها الإذن الطبي

الأصل اشتراط الإذن الطبي، لكن أحوال المرضى، وظروف أوليائهم قد لا تمكنهم من إعطاء الإذن الطبي. ولهذا استثنيت بعض الحالات من اشتراط الإذن الطبي على النحو التالي:

1. الحالات الخطرة التي تهدد حياة المريض بالموت، أو تهدد بتلف عضو من أعضائه، ويكون فيها فاقداً للوعي، أو أن حالته النفسية لا تسمح بأخذ إذنه، ولا يكون وليه حاضراً لأخذ الإذن منه (1).

ومن الأمثلة على هذه: التهاب الزائدة الدودية التي بلغت درجة الخوف من انفجارها ما لم يجر استئصالها بالجراحة، وكذلك جراحات حوادث السيارات التي كثرت في الآونة الأخيرة، فيكون المريض عاجزاً عن إعطاء الإذن، ولا يمكن انتظار أوليائه، فلا مناص من علاجه دون إذن، لكن ينبغي ألا يتم ذلك، إلا بعد أن تقرر لجنة من الأطباء حاجته إلى هذا العلاج أو العملية، زيادة في التثبت لضرورة المعالجة، ولقطع التهمة عن الأطباء في أنهم يحرصون على الجراحة طلباً لمصلحتهم الذاتية (2).

2. الحالات التي تقتضي المصلحة العامة معالجتها، كالأمراض السارية المعدية والتي يشتد خطرها على المجتمع، فإن من حق الدولة أن تفرض التداوي قسراً على المريض حتى لا يضرّ المجتمع، كما أن من حقها أن تعزله في مستشفيات خاصة لذلك. تعرف باسم المحجر الصحي أو مستشفى الحميّات، كما أن هناك مستشفيات خاصة لمعالجة السل الرئوي (الدرن)، ومستشفيات أو مستعمرات لمداواة المجذومين..ويمكن فرض التداوي كذلك في حالة الإصابة بالأمراض الجنسية مثل السيلان والزهري والكلاميديا .. ومن حق الدولة أن تفرض التطعيم والتحصين ضد مجموعة من الأمراض الخطيرة التي تصيب الأطفال والمجتمع مثل تحصينات الأطفال ضد الحصبة والسعال الديكي والدفتريا وشلل الأطفال والدرن . وقد أضيف إليها التحصين ضد التهاب الكبد الفيروسي من نوع B، وللفتيات قبل البلوغ التطعيم ضد الحصبة الألمانية، وكانت الدول تفرض التطعيم عند السفر ضد الجدري والكوليرا والحمى الصفراء وخاصة عند السفر إلى المناطق الموبوءة.. وقد تم بفضل الله - سبحانه وتعالى -، ثم بفضل حملات التطعيم المتتالية استئصال الجدري الذي كان يقتل الآلاف كل عام (3).

وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفرار من المجذوم لأن مرضه معدٍ, فقال \"فر من المجذوم كما تفر من الأسد\"(4) ولأن في عدم علاج المرض المعدي ضرر والضرر يزال (5).

ويُعد عمل الطبيب في هذه الحالة الطارئة واجباً عليه، مادام قادراً على علاج المصاب واستنقاذه، ولو امتنع الطبيب عن العلاج كان آثما (6). فإن استنقاذ النفس مطلب شرعي.

2. ويستثنى كذلك الحالات اليسيرة للصغار عندما يكون العرف السائد يقتضي ذهابهم دون إذن ولي أمرهم إلى طبيب الوحدة الصحية المدرسية، ونحوها مما يتسامح به الناس في العادة(7).

 

- شروط الإذن:

يشترط للإذن الطبي شروط خمسة حتى يكون إذناً معتبراً:

الشرط الأول: أن يكون الإذن صادراً ممن له الحق، وهو الشخص المريض، أو وليه في حالة تعذر الحصول على إذنه، أو من له الولاية كالحاكم (8).

الشرط الثاني: أن يكون الآذن أهلاً للإذن والأهلية تعتبر بوجود أمرين أحدهما: البلوغ والثاني العقل (9) فإن أذن المريض وليس أهلاً للإذن فلا اعتبار بإذنه وكذلك الولي الفاقد للأهلية من باب أولى (10).

الشرط الثالث: الاختيار، وعدم الإكراه (11).

فالمكره في حقيقته غير آذن. قال - تعالى -: \"إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان\" (12) فلم يؤاخذ رغم قوله كلمة الكفر لأنه في حالة إكراه.

الشرط الرابع: أن تكون المعالجة المأذون بها مشروعة، فلو كانت محرمة لم يصح الإذن (13).

كما لو أذن المريض للطبيب أن يجري له جراحة تغيير الخلقة، كتغيير الجنس، والوشم، وتغيير لون البشرة، وتصغير الأنف وتكبير الشفاه، ونحوها من الجراحات والعلاجات المحرمة بلا مسوغ شرعي.

الشرط الخامس: أن يعطي الإذن وهو على بينة وإدراك من أمره(14) فلابد من إيضاح الأمر له حتى يعرف ما هو مقدم عليه. وأرى أنه يجب ترك التهويل والتهوين، لأن طلبهما فيه تزييف للواقع، وتغرير بالمريض. وإذا كانت المعالجة عبارة عن جراحة تجرى للمريض فيزداد شرطان على ما سبق وهما:

1. أن يشمل الأذن على إجازة فعل الجراحة لأن ذلك هو المقصود من الإذن.

2. أن تكون دلالة الصيغة على إجازة فعل الجراحة صريحة أو قائمة مقام الصريح، كقول المريض لطبيبه: أذنت لك بفعل الجراحة ونحوه، ومثله الإشارة المفهومة التي تدل على رضاه بإجراء هذه الجراحة(15).

 

- الإشهاد على إذن المريض

الأصل في الإشهاد أنه أداة للتوثيق، ويُفتقر إليه عند التنازع، ولذلك شرع عند التبايع والتداين وغيرها قال-تعالى-: \"وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله\"(16) لكن هل يشرع الإشهاد على إذن المريض؟

ذكر بعض الباحثين أن \"ينبغي الإشهاد على إذن المريض باثنين من الشهود، ولو كانا ضمن الهيئة الطبية \" (2) والظاهر أن مشروعية الإشهاد تعم هذه المسألة، باعتباره تصرفاً يتعلق به حق الغير، وفيه أي الإشهاد حسم لمادة التنازع، خاصة إذا ترتب على العلاج وفاة أو إصابة.

ويمكن أن يقوم الإقرار المكتوب والموقع عليه من قبل المريض أو وليه مقام الإشهاد في تبرئة ساحة الطبيب المعالج وفريقه الطبي، لكن الإشهاد ـ خاصة في إجراء العمليات الخطرة ـ أولى لأنه مظنة قيام التنازع، وهو المعمول به حاليا في المستشفيات. والله أعلم.

وانظر في الملحق(17) في نهاية البحث، نموذجا للإقرار الذي يُشهد عليه.

 

- انتهاء الإذن الطبي

ينتهي الإذن الطبي في الحالات الآتية:

1. عند انتهاء مدته، فما بعد المدة المأذون فيها يحتاج إلى أذن جديد.

2. إذا شفي المريض من الداء المعَاَلج ، فالشفاء علامة انتهاء الإذن الطبي.

3. الموت، فإذا توفي المريض انتهى الإذن بعلاجه.

4. إذا انتفت الأهلية عن الإذن كما لو جُن جنوناً مطبقاً، فلا يصح إذنه حينئذ، ووجوده كعدمه(18).

 

- أسئلة مهمة في الإذن الطبي

طرح الدكتور محمد بن علي البار مجموعة من الأسئلة المهمة التي تحتاج إلى أجوبة، وسأذكر أهمها ملخّصة، ثم أتبعه بما يظهر لي من إجابة، والله الموفق.

س1 / الأطفال الذين يصابون بأمراض مستعصية على العلاج ويرفض آباؤهم إجراء العمليات الجراحية لهم، ويفضلون أن يتركوهم حتى الموت حتى لا يحصلوا على أطفال مصابين بتخلف عقلي، ما الحكم في ذلك؟

جـ1: إذا كانت هذه العمليات مما يغلب على الظن إبقاؤها للمريض على قيد الحياة، وعدمها يعرضه للموت بشكل كبير، فأرى أنه يجب على الولي، بقدر إمكانه، الحرص على استنقاذ طفله بهذه العملية، فإذا كان لا يغلب على الظن حصول فائدتة من هذه العملية فلا يجب على الولي شيء من ذلك.

س2 / الأب الذي يرفض إيصال ابنته الصغيرة المصابة بالكلى، لتُغسل لها الكلية Hemodialysis في مستشفى الدولة المجاني، ويحتج في رفضه بأنه قد فقد ابناً له بسبب عمليات الغسيل الكلوي. فتدخلت وزارة الصحة وأمرت بنقل الطفلة دون إذن والدها وقامت بإجراء الغسيل المتكرر للطفلة؟ فهل هذا التدخل صحيح علماً بأن الغسيل ليس علاجاً شافياً للفشل الكلوي.

جـ2: يظهر لي - والله أعلم أن هذا التصرف في غير محله، لأن امتناع الأب يلحق الهلاك العاجل بهذه الطفلة، ويتسبب في قتلها، وهو ما يناقض مسؤليته المناطة به، فإنه يجب عليه أن يتصرف فيمن ولاه الله أمره بما يحقق مصلحته ويدفع عنه المفسدة، وإلا انتقلت عنه الولاية إلى من بعده من الأولياء الذين ينظرون في مصلحته، وكون العلاج غير شاف بالكلية، لا يمنع وجوب العلاج به في هذه الحالة، إنقاذا لحياة المريض.

س3 / إذا تعسرت ولادة الطفل، واستدعى ذلك سرعة إجراء عملية قيصرية لإنقاذ حياة الطفل، فرفض أحد الأبوين أو جميعهما، فما الحل؟

جـ 3: إذا كان الرفض من الأم فلا تجبر على إجراء العملية طالما أنها تعي وتدرك، وإذنها معتبر حتى لو رفض الأب، لكن لو كان الرفض من الأب والأم لا تستطيع إعطاء الإذن فلا اعتبار برفضه، وينتقل الإذن لمن بعده.

س4 / إذا رفض الزوج علاج زوجته وفحصها لدى طبيب بحجة أنه لا يريد أن يتولى ذلك إلا طبيبة، وما الحكم لو كان له ابنه راشدة أو قاصرة وهي فاقدة للوعي، وحالتها تستدعي التدخل الجراحي العاجل ولا يوجد إلا طبيب وهو يرفض أي الأب أن يتولى علاجها غير النساء؟

جـ4: الأمر يتوقف على حالة هؤلاء النسوة، فإن كانت الحالة خطرة بحيث يخشى على حياتهن، واستُفرِغ الجهد في البحث عن طبيبة فلم توجد فيجب استنقاذهن وإجراء العمليات اللازمة حتى وإن قام بها طبيب. وامتناع الزوج أو الأب في هذه الحالة إضرار بزوجته أو ابنته، والضرورات تبيح المحظورات، بل يجب استنقاذ النفس بأكل الميتة وشرب الخمر، رغم أنها محظورات إذا توقفت الحياة على تناولها.

فتنتقل الولاية عن الزوج أو الأب لمن بعده من الأولياء الذين ينظرون في مصلحة المريض. والله أعلم.

وأخيراً فإن هناك سؤالاً يتردد ومفاده أن بعض المرضى يحتاج إلى عملية مهمة لحياته، فإذا شرح له الطبيب ما يمكن أن يترتب على العملية من المضاعفات وهي نسبة ضئيلة فلن يوافق أبداً، أو يكون عامياً لا يدرك ولا يفهم معنى ما يقوله الطبيب من شرح بل يفهم أن هذه العملية سبب لهلاكه، وربما يكون من أقاربه من سيفهم شرح الطبيب فهل لابد من إبلاغ المريض بكافة المعلومات المعتادة حتى لو أدى ذلك إلى رفضه للعملية المهمة أم يكتفي بالقدر الذي يفهمه، ويفهم الباقي لقريبه فإن لم يوجد قريبه هذا، فيسكت الطبيب عن بقية التفصيلات؟

جـ: الذي يظهر لي والله أعلم أن المريض يُبلغ بكل المعلومات بطريقة مناسبة وهذا من حقه على الطبيب طالما أنه كامل الأهلية، ثم يكون القرار بيده في رفض العملية أو قبولها. والله أعلم.

 

- الخاتمة

أهم النتائج التي توصل إليها البحث ما يلي:

1. الإذن الطبي هو موافقة المريض أو وليه على الإجراءات الطبية اللازمة لعلاجه.

2. الأصل عدم جواز المعالجة للمريض إلا بإذنه أو إذن وليه عند الحاجة ويستثنى من ذلك الحالات الخطرة التي لا يمكن فيها أخذ إذن المريض ولا وليه، وكذلك حالات الأمراض المعدية فلا بد من علاجها ولو بغير إذن المريض.

3. ترتيب الأولياء في الإذن بحسب قرابتهم في الميراث تعصيباً، ويقدم الزوج عليهم.

4. الإشهاد على إذن المريض سائغ، ويمكن أن يُكتفى عنه بالإقرار الموقع عليه من قبل الطبيب.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

----------------------------------------

(1) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية، ص 54.

(2) انظر: أحكام الجراحة، ص 243 245.

(3)انظر: د. البار، المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب، ص 76، 77، والموسوعة الطبية الفقهية، ص54.

(4) انظر: صحيح البخاري، بتحقيق د. مصطفى البغا، 5 / 2158، دار ابن كثير بيروت، ط 3.

(5) انظر: الأشباه والنظائر، ص 83.

(6) انظر: السيوطي، الشاطبي، الموافقات 2 / 10، الموسوعة الطبية الفقهية، ص 54، وأحكام الجراحة، ص 244.

(7) أنظر: التداوي والمسؤولية الطبية (مرجع سابق) ص 211

(8) انظر المغني، 8/117 وأحكام الجراحة و 235.

(9) انظر: ابن القيم: تحفة المودود في أحكام المولود، ص 118

(10) انظر: أحكام الجراحة، ص 235.

(11) انظر: ص 6 من هذا البحث.

(12) سورة النحل آية 106.

(13) انظر: أحكام الجراحة ص 273.

(14) انظر: الأخطاء المدنية والجنائية للأطباء (مرجع سابق) ص 33.

(15) أنظر: أحكام الجراحة، ص 236.

(16) سورة الطلاق آية 2.

(17) انظر:د. البار، المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب، ص 88

(18) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية، ص 56.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply