التبرع بالأعضاء وأحكامه الشرعية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

حينما ننظر إلى إخواننا المعذبين في المستشفيات نقف عاجزين تلهبنا ثورة الألم لمصابهم وتتحرك عاطفة الحنان لدينا وعلى هذا تتبادر إلى أذهاننا أسئلة عدة تنتهي إجاباتها بلا شيء بفراغ حيرة، وحيلة موقفة التنفيذ. ماذا يا ترانا نعمل؟ وبماذا نضحي من أجل تعويض إخواننا وأخواتنا ما قصر من أعضاءهم؟

بودنا الإسراع لإثارتهم على أنفسنا، وإعطائهم جزء مما لدينا بديلا آخر عنه.. لكن..! الأمر يحتاج إلى شجاعة وإقدام والقرار متوقف على أحكام شرعية أصدرها كثير من العلماء لم تجد لها ضفافا ترسو عليه. فمنهم من أباح ومنهم من حرم.. ومنا من مزق سمعه أنين المتألمين وأدمعت عينيه مناظر المستجدين وصور متنوعة لأحوال بأسهم اللهيب، فلا إجابة لنا لسؤال استعطافهم فهم غير. انتظروا لعل الله يحدث بعد العسر يسرا .. وتريثوا فالفرج آت يهرول قبل الريح. وما آلمني ودفعني للبحث عن ضالة الكثير ينشدها لعلي أملأ فراغ الأسئلة وأوفي الثغرات ببعض ما وجدته من أحكام التبرع بالأعضاء الصادرة من العلماء:

الضرب الأول: أن يكون النقل والزرع من الإنسان إلى نفسه.

فهذه الحاجة لا تخلو من حالتين:

(1) أن تكون ضرورية.

(2) أن تكون حاجية.

مثال على الأولى: ما يجري في جراحات القلب والأوعية الدموية حيث يحتاج الطبيب إلى استخدام طعم وريدي أو شرياني لعلاج انسداد أو تمزق في الشرايين ويكون بذلك إنقاذ المريض من الهلاك بسبب هذا التمزق متوقفا على زرع هذا الطعم المأخوذ من جسم المصاب نفسه.

ومثال على الثانية: ما يجري في جراحة الجلد المحترق ويحتاج الأطباء إلى أخذ قطعة من الجلد السليم من الجسم نفسه ثم يتم زرعها في الموضع المصاب من الجسد.

وهاتان الحالتان موجبتان للترخيص شرعا، فيجوز للطبيب الجراح القيام بمهمته متى غلب على ظنه وجود النفع بشرط عدم وجود البديل يمكن بواسطته تحقيق الهدف المنشود دون ضرر أعظم من الجراحة. والحكم بجواز هاتين الحالتين مبني على القياس لأنه: (إذا جاز قطع العضو وبتره لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها، فلأن يجوز أخذ جزء منه ونقله لموضع آخر لإنقاذ النفس أو دفع الضرر فيها أولى وأحرى).

الضرب الثاني: حكم نقل وزراعة الأعضاء من إنسان إلى غيره.

لا يخلو الشخص المنقول منه إما أن يكون حيا أو ميتا فهذا المقصد ينتظم بصورتين من النقل والزراعة:

 1 - أن يكون النقل والزراعة من إنسان حي إلى مثله.

2 - أن يكون النقل والزراعة من إنسان ميت إلى حي.

في الأولى: إما أن تكون الأعضاء المراد نقلها من الإنسان الحي إلى مثله فردية في الجسم ويؤدي أخذها من الشخص المنقولة منه إلى وفاته مثل: القلب -الكبد- الدماغ. وإما أن تكون على خلاف ذلك بأن يوجد بديل عنها يقوم بالمهمة مثل: الكلية - القرنية - لا تؤدي إلى وفاة المنقولة منه. وحكم هاتين الحالتين فيما يأتي: حكم نقل الأعضاء الفردية التي تؤدي إلى وفاة الشخص المنقولة منه يحرم على الإنسان أن يتبرع بهذا النوع من الأعضاء، كما يحرم على الطبيب الجراح ومساعديه أن يقوموا بمثل هذا النوع من النقل وذلك للأدلة الشرعية الآتية:

 1 - قوله - تعالى -: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (195)}[البقرة] . وجه الدلالة: أن الله حرم على الإنسان أن يتعاطى ما يوجب هلاكه.

 2 - قوله - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29)}[النساء] . وجه الدلالة: حرمة قتل الإنسان لنفسه. ولا يجوز للطبيب فعل هذه الجراحة لقوله - تعالى -: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[المائدة] . وجه الدلالة: أن الطبيب الجراح إذا قام بنقل هذه الأعضاء كان معينا على الإثم لحرمة نقلها، وكذلك يعتبر معينا على عدوان الإنسان على جسده. فهذا ما قال بعض العلماء بحرمته، وذلك لما يتضمنه من إهلاك النفس المحرمة بغير الحق.

في الثانية: وهذا يشمل نقل أعضاء لها بديل ولا يؤدي أخذها إلى الوفاة، وهذا يقع في الأعضاء الشفعية ومنها نقل الكلية والقرنية. حكمه: اختلف العلماء المعاصرون في حكم نقل هذه الأعضاء فهم على قولين:

الأول: لا يجوز نقل الأعضاء الآدمية وهو قول: الشيخ الشعراوي - الغماري - السنبهلي - السقاف - د. عبدالسلام عبدالرحيم السكري - د. حسن علي الشاذلي. استدل أصحاب هذا القول من: الكتاب - السنة - العقل - قواعد فقهية:

1 - دليل الكتاب: قال - تعالى -: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (195)}[البقرة] . وجه الدلالة: أن الله نهانا أن نلقي بأنفسنا في مواطن الهلكة، ولفظ الهلكة في الآية لفظ عام يشمل كل ما يؤدي إليها، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على حد ما ذكره علماء الأصول. ب - قال - تعالى -: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله (119)} [النساء] . وجه الدلالة: نقل الأعضاء فيه تغيير لخلقة الله فهو داخل في عموم هذه الآية ويعتبر من المحرمات.

 2 - من السنة: (أ) عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وكسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم). وجه الدلالة: أن الحي يحرم كسر عظمه أو قطع أي جزء منه وكذا الميت لأي سبب. إلا لسبب إذن الشارع فيه، (الامتناع والاستقصاء للسقاف ص12). ب - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار). وجه الدلالة: أن قطع العضو من شخص للتبرع به لآخر فيه إضرار محقق بالشخص المقطوع منه فيكون داخلا في عموم النهي ويحرم فعله. (نقل وزراعة الأعضاء الآدمية د. السكري ص116).

 3 - دليل العقل:

(أ) أن من شرط صحة التبرع أن يكون الإنسان مالكا للشيء المتبرع به أو مفوضا في ذلك من قبل المالك الحقيقي.

(ب) أن درء المفاسد مقصود شرعا وفي التبرع مفاسد عظيمة تربو على مصالحه إذ فيه إبطال لمنافع الجسم المنقولة مما قد يؤدي إلى الهلاك.

4 - دليل القواعد الفقهية: قالوا:

(أ) الضرر لا يزال بالضرر.

(ب) الضرر لا يزال بمثله. هاتان القاعدتان تتضمنان المنع من إزالة الضرر بمثله.

(ج) ما جاز بيعه جازت هبته وما لا، فلا.

ووجه الدلالة: أن أصحاب القول يوافقون على أن الأعضاء الآدمية لا يجوز بيعها وقد دلت القاعدة على أن مالا يجوز بيعه لا تجوز هبته.

إذن: لا يجوز التبرع بالأعضاء الآدمية من حي لمثله في حال الحياة ولا بعد الممات.

أما القول الثاني: يجوز نقل الأعضاء الآدمية وهو قول: صدرت به الفتوى في عدد من المؤتمرات والمجامع واللجان منها:

1 -المؤتمر الإسلامي الدولي المنعقد في ماليزيا.

2 - مجمع الفقه الإسلامي.

3- هيئة كبار العلماء  بالمملكة العربية السعودية.

4- لجنة الفتوى في كل من: المملكة الأردنية الهاشمية، دولة الكويت، جمهورية مصر  العربية، الجمهورية الجزائرية. وهو قول طائفة من العلماء  والباحثين وهم: الشيخ عبدالرحمن سعدي - الشيخ جاد الحق - الشيخ إبراهيم اليعقوبي - د. رؤوف شلبي - د. عبدالجليل شلبي - د. محمود علي السرطاوي - د. هاشم جميل عبدالله. واستدل أصحاب هذا القول من: الكتاب - العقل - القواعد الفقهية.

1 - الكتاب:

 (أ) {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفورِ رحيمِ (173)}[البقرة] . وجه الدلالة: (أ) هذه الآية استثنت حالة الضرورة من التحريم المنصوص عليه والمريض المحتاج إلى نقل عضو في حكم المضطر لأن حياته مهددة بالموت كحالة الفشل الكلوي، وهذه حالة يباح فيها نقل العضو.

(ب) قوله - تعالى -: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)}[النساء] . وجه الدلالة: دلت هذه الآية على مقصود الشارع التيسير على العباد لا التيسير عليهم، وهذا رحمة بالمصابين والمنكوبين وتخفيفا لآلامهم.

 2 - دليل العقل:

(أ) يجوز التداوي بنقل الأعضاء الآدمية كما يجوز التداوي بلبس الحرير لمن به حكة بجامع وجود الحاجة الداعية إلى ذلك.

(ب) يجوز التداوي بنقل الأعضاء الآدمية كما يجوز التداوي باستعمال الذهب لمن احتاج إليه بجامع وجود الحاجة الداعية إلى ذلك في كل.

(ج) أن الفقهاء - رحمهم الله - نصوا على جواز شق بطن الميت لاستخراج جوهرة الغير إذا ابتلعها الميت، فلأن يجوز نقل أعضاء الميت أولى وأحرى لمكان إنقاذ النفس المحرمة التي هي أعظم حرمة من المال.

(د) يجوز نقل الأعضاء الآدمية كما يجوز تشريحها بجامع وجود الحاجة في كل.

(هـ) أن بقاء الأعضاء الآدمية في شخص آخر ينتفع بها بعد موت صاحبها يعتبر من باب الصدقة عليه، فهي صدقة جارية مندوب إليها خاصة إذا وصى بذلك صاحبها قبل الوفاة محتسبا الأجر عند الله.

(و) أن الله امتدح من آثر آخاه على نفسه بطعام أو مال فكيف به إن آثره بعضو أو جزء منه ينقذه به من الهلاك.

(ز) أن الإنسان مأذون له بالتصرف في جسده بما فيه المصلحة فإذنه بالتبرع فيه مصلحة عظيمة - فيجوز له فعل ذلك.

 3 - القواعد الفقهية:

(أ) الضرر يزال.

(ب) إذا ضاق الأمر اتسع.

(ج) الضرورات تبيح المحظورات.

دلت هذه القواعد المستنبطة من نصوص الشريعة على الترخيص للمتضرر بإزالة ضرره ولو بالمحظور. فالقاعدة الأولى دلت على أن إزالة الضرر عن المتكلف مقصد من مقاصد الشريعة. والقاعدة الثانية دلت على أن بلوغ المكلف لمقام المشقة التي لا يقدر عليها يوجب التوسيع عليه في الحكم. والقاعدة الثالثة دلت على أن المكلف إذا بلغ مقام الإضطرار رخص له في ارتكاب المحظورات شرعا.

(د) إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما. دلت القاعدة على أنه إذا وقع التعارض بين مفسدتين فإننا ننظر إلى أيهما أشد فنقدمها على التي هي أخف منها.

(هـ) أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان. ووجه الدلالة: أن الأعضاء الآدمية كانت قبل ترقي العلم  يعتبر ضررا وخطرا نقلها والآن بعد تقدم الطب أصبح سهلا ومأمون عاقبة نقلها، فوجب تغيير الحكم بتغير الحال. فنقول حرام في العصور الماضية التي يغلب الظن معها بالهلاك في عملية النقل ونقول حلالا في هذه الآونة التي أصبح فيها دواء وعلاجا نافعا.

(و) الأمور بمقاصدها. وجه الدلالة: أن يكون المقصود به إنقاذ النفس المحرمة ودفع الضرر الأشد بالأخف، فإنه يكون مقصدا محمودا وعملا مشروعا يثاب فاعله ويمدح عليه وهو مقصودنا بالقول بجوازه. أما إن كان المقصود به إهانة الميت وأذيته بالتمثيل به فهذا مقصد مذموم وعمل محرم ونحن لا نقول به. (شفاء التباريح والأدواء.. لليعقوبي ص21-34-35). المرجع الرئيسي: (أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها) للدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي.

أسأل الله أن أكون قد قدمت لسيدتي وسيدي القارئ جوابا شافيا كافيا بمجهودي الضئيل المتواضع.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply