العشر الأوسط من رمضان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

ثم أما بعد أيها المسلمون:

اتقوا الله تعالى واجتهدوا في الأعمال الصالحة في بقية شهركم وكم من الناس حتى يومنا هذا لم يستفد من شهر رمضان قد ضيع نهاره في النوم ولياليه في السهر المحرم، حتى متى يعيش الإنسان للذاته وشهواته، وحتى متى يسير في طريق النار ومع ركب إبليس، ألا ينزجر هذا المسكين، ألا يصبحوا من سبات الغفلة وضياع العمر.

  تولى العمر في سهر *** و في لهو وفي خسر

  فيا ضيعة ما أنفقت *** في الأيام من عمري

أما يعلم المفرط في الطاعة أن شهر رمضان شهر مليء بأسباب المغفرة فمن فرّط في هذه الأسباب كان محروما غاية الحرمان.

وفي الحديث ((من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله)).

وقال سعيد عن قاتدة، كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له في ما سواه، وفي أثر آخر: (إذا لم يغفر له من رد في ليلة القدر؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان، فمن فرط في الزرع في وقت البذار لم يحصد يوم الحصاد إلا الندم والخسار).

فيا من تريد العتق من النار ومغفرة الذنوب ورضا الرحمن، ينبغي لك أن تأتي بأسباب توجب لك الرحمة والمغفرة والعتق من النار وهي كما ذكرنا متيسرة في هذا الشهر من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإطعامهم والصدقة والاستغفار وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

 وقد ورد في الترمذي وغيره بسند صحيح ((إن لله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة))، ولكن الأغلب على أول الشهر الرحمة وهي للمحسنين المتقين الذين قاموا بالصيام والقيام وقراءة القرآن قال تعالى إن رحمة الله قريب عن المحسنين فيفاض على المتقين في أول الشهر خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما وسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة، فيغفر للصائمين، وإن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم ذلك من المغفرة إذا ارتكبوا بعض الذنوب كما قال تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.

وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار، وصار مستوجبا للنار.

  ليت شعري من فيه يقبل منا *** فيهنـا يا خيبـة المردود

  من تولى عنه بغيـر قبول *** أرغم الله أنفقه بخزي شديد

ماذا فات من فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان.

أيها الاخوة: اعلموا أن المؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين، ووفى بحقوقهما وصبر عليهما، وفي أجره بغير حساب قال كعب: ينادي يوم القيامة مناد: إن كل حارث يعطي يحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصيام، يعطون أجورهم بغير حساب ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل، كما في المسند بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)).

فيا من ضيع عمره في غير الطاعة! يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه ويا من بضاعته التسويف والتفريط! وبئست البضاعة، أيا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجوا من خصمك الشفاعة.

   ويل لمن شفعاؤه خصماؤه *** والصور في يوم القيامة ينفخ

رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حظه من قيامه والسهر، كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعدا، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا وردا.

يا قوم أين آثار الصيام؟ وأين أنوار القيام؟

  إن كنت تنوح يا حمام البان *** للبين فأين شاهد الأحزان

أيها المسلمون: ها نحن في بداية العشر الأوسط من رمضان وقد انقضت العشر الأوائل منه بما عملناه من طاعات فنسأل الله عز وجل أن يتقبل منا مصالح الأعمال وأن يغفر لنا التفريط والتقصير.

ابن آدم: يا من تكاسلت عن القيام بواجب الطاعة في أول الشهر لا تكن من المحرومين ففي الوقت فسحة وفي الشهر بقية هل لك الآن أن تبادر وتستقبل بقية الشهر أم تزيد أن تكون من المحرومين؟ أيها العبد الفقير إلى ربك لو عرفت قدر نفسك ما أمرضتها بالمعاصي، لأنك أنت المختار من المخلوقات، ولك أعدت الجنة، إن اتقيت وعملت صالحا، فهي إنما أعدت للمتقين، فكيف ترضى أن تكون من أتباع إبليس، وأن تكون معه في النار غدا من جملة أتباعه، وإنما طرد اللعين عن الجنة من أجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، ثم بعد ذلك ترضى لنفسك أن تكون من حربه وإنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.

أيها المسلمون: هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب في نفسه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منكم عزم قبل علق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرف ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟

 تنصف الشهر وا لهفـاه و انهمـر *** واختص بالفوز بالجنات من حزما

  وأصحب الغافل المسكـين منكسرا *** مثلي فيا ويحـه يا عظيم ما حرما

  من فاته الزرع في وقت النذار فما *** تـراه يحصد إلا الـهـم و الندما

  طوبى لمن كانت التقوى بضاعته *** في شـهره و بحبـل الله معتصما

يا قوم آلا خاطب في هذه الشهر إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟ ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان؟

  من يرد ملك الجنان *** فليدع عنـه التواني

  و ليقم في ظلمة الليل *** إلى نـور القـران

  وليصل صوما بصوم *** إن هذا العيش فاني

  إنما العيش جوار الله *** فـي دار الأمـان

معشر المؤمنين: لقد كان سلفنا الصالح يصومون عن كل محرم وعن كل شهوة من شهوات الدنيا ولسان حال الواحد منهم:

  وقد صمت عن لذات الدهر كلها *** ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

رؤى بشر الحافي رحمه الله في المنام، فسئل عن حاله، فقال: علم الله قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. نعم لقد كانت أماني أولئك الصالحين هو دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم وذلك لأن النظر إلى وجه الله من أعظم نعيم الجنة كلها على الإطلاق كما قال تعالى ولدينا مزيد فالمزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم.

من كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت وقد قيل للحافظ عبد الغني النابلسي رحمه الله عندما أتته الوفاه ما تشتهي قال: أشتهي النظر إلى وجه الله الكريم، وقيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة؟ قال: في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له: كيف عملت ذلك؟ قال: بغض طرفي له عن كل محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه. هذه هي أماني الصالحين ولسان حالهم:

قال الشاعر:

 هجرت الخلق طرا في هواك *** وأيتمت العيال لكي أراكا

 فلـو قطعتني في الحب إربا *** لما حن الفؤاد إلى سواكا

فالعارفون لا يسليهم عن رؤي مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم كما ذكرنا أجل من ذلك.

عباد الله هذا شهر رمضان الذي أنزل فهي القرآن وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى فيه صاحبه أن يشفع، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمت الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكمم يتوالى علينا شهر رمضان وما لنا فيه كحال أهل الشهوة، ألا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة وإذا تليت عليهم آياته جلت قلوبهم جلوه، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أما لنا فيهم أسوة، كم بيننا وبين حال أهل الصفّا أبعد مما بيننا وبين الصفاء المروة.

  يا نفس فاز الصالحون بالتقى *** وأبصروا الحق وقلبي قد تممي

  ويحـك يا نفـس ألا تيقـظ *** ينفـع قبـل أن تزل قـدمـي

  مضى الزمان في توان وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

 

الخطبة الثانية

أيها المسلمون: ما أشبه الليلة بالبارحةžžžž!! بالأمس كنا نستقبل رمضان وها نحن نودع أسبوعا كاملا مضى العشر الأوائل منه مضت منه بما فيها من طاعات وأعمال صالحة من صيام وقيام وتلاوة قران وهاهي أيامه الجميلة ولياليه الطاهرة تمشي الهويني لكي تطوي علينا هذا الشهر المبارك.

  إذا تم أمر بدا نقصه *** تأمل زوالا إذا قيل تم

أيها الاخوة: إنه والله من العجيب أن نرى أناسا ليس لهم هم في هذه الدنيا إلا تضييع الأوقات في اللهو والغفلة تمر عليهم المواسم والفرص ولا يحرصون على استغلالها في طاعة الله انظروا مثلا للناس في صلاة العشاء يملؤن المسجد حتى إذا فرغوا من صلاة العشاء خرجوا من المسجد بحيث أنهم لا يفكروا مجرد تفكير يتبعه عمل، في صلاة التراويح ويحرمون أنفسهم أجر مغفرة الذنوب، وكأن الدنيا فائتة وسوف تذهب عليهم فلماذا العجلة إذاً؟

والبعض يفرط أصلا في صلاة الجماعة حتى في رمضان لا ينصلح حاله، ويترك صلاة الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين، والبعض لا يصون صومه عن الكذب والغيبة والنميمة والغش وسماع الأغاني والموسيقى وغير ذلك من الأعمال التي تخدش أجر الصوم.

   لولا الذين له ورد يصلونا *** وآخرون لهم سرد يصومونا

فاحذروا أيها المسلمون من نواقض الصوم ونواقضه، وصونوه عن قول الزور والعمل به فقد ورد في الحديث الصحيح إن النبي قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري.

فالصائم الحقيقي هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش والغيبة والنميمة وقول الزور وبطنه عن الأكل والشرب وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه ون فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه نافعا صالحا، وكذلك أعماله هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب كما جاء في الحديث ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) رواه الإمام أحمد وهو صحيح.

فالصوم الحقيقي إذن هو صوم الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الطعام والشراب، فكما أن الطعام والشراب يقطعه فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسر ثمرته، فتصيّره بمنزلة من لم يصم.

قال جابر بن عبد الله: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply