هذا موسم الجود فمن يجود ؟!


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

[1] مقدِّمة:

لله درٌّ البخاري حيث ترجم في كتاب (الصوم) باب (أجودُ ما كان النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - يكون في رمضان). فقد أورد فيه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يدارسُهُ جبريل القرآنº فلرسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاهُ جبريل أجود بالخير من الرِّيح المرسَلَة)! قال ابن رجب: \"فدلَّك هذا على أنه - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلُهم وأعلمُهم وأشجعُهم وأكملُهم في جميعِ الأوصافِ الحميدة\".

 

فوصفُ جُودِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالرِّيحِ المرسَلة في ذَروةِ البلاغة ورَوعةِ المناسبةº لأنها كنايةٌ عن الكثرةº وتلك من لطائفِ البيانِ لترجمانِ القرآنº فـ(الجود) \"أصلٌ واحِدٌ يدلٌّ على التسمٌّحِ بالشيءِ وكثرةِ العطاء...والجود: المطرُ الغزير، والجوادُ: الفرسُ الذَّرِيعُ والسَّريعُ\".ولا يخفى أنَّ المراد بالريح ـ كما قال ابنُ الـمُنَيِّر ـ \"ريحُ الرَّحمةِ التي يُرسِلُها اللهº لإنزالِ الغيثِ العام، الذي يكون سبباً لإصابةِ الأرضِ الميتةِ وغيرِ الميتةº أي فيعُمٌّ خَيرُهُ وبِرٌّهُ مَن هو بصفةِ الفقرِ والحاجةِ، ومَن هو بصفةِ الغِنَى والكِفايةِº أكثرَ مما يَعُمٌّ الغيثَ الناشىءَ عن الرِّيحِ المرسَلَة! \"

 

أخي الصائم.. تذكَّر أنَّ الجودَ فلاحٌ ونجاحٌ، وقد امتدح الله - عز وجل - عباداً له بأنهم (يؤثرون على أنفسِهم ولو كان بهم خصاصةٌ). فهلاّ تشبَّهتَ بهم؟ وتفكَّرتَ في حالِهمº فلولا أنَّ الجودَ يُثمِرُ فلاحاً ونجاحاًº ما سَمَّى اللهُ - عز وجل - الأجوادَ الأسخياءَ مُفلِحِين، فقال جلَّ جلاله: (ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك هم المفلحون)!

 

وما ظنٌّك أخي الصائم.. بخصلةٍ, رَتَّبَ الله جلَّ جلالُهُ عليها المغفرةَ والفضلَ والحِكمةَ، فقال- تبارك وتعالى -: (الشيطانُ يَعِدُكُم الفقرَ ويأمركم بالفحشاء والله يَعِدُكُم مغفرةً منه وفضلاً والله واسعٌ عليمٌ يُؤتِي الحِكمَةَ مَن يشاءُ ومَن يُؤتَ الحِكمَةَ فقد أُوتِيَ خيراً كثيراً وما يذَّكَّر إلا أُولُو الألباب)!

 

وقد بشَّرَ اللهُ عبادَهُ بِنَيلِ البِرِّº إذا هم جادوا لإخوانِهم بما يُحِبٌّونه لأنفسِهم، كما قال الله - عز وجل -: (لن تنالوا البرَّ حتى تُنفِقوا مما تُحِبٌّون)! فهل يفوتُكَ هذا الفضل؟! أم تُراك تقول كما قال أبو بكر - رضي الله عنه - وقد قطع نفقتَه على مِسطح ـ لما تكلّم في عائشة - رضي الله عنها - ـ فأنزل الله - عز وجل -: (ولا يأتل أولو الفضلِ منكم والسعةِ أن يؤتوا أولي القُربَى والمساكينَ والمهاجرينَ في سبيلِ اللهِ وليعفُوا وليصفحُوا ألا تُحِبٌّون أن يغفرَ اللهُ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ). فقال أبو بكر: (بلى واللهِِ يا ربَّنا، إنّا لنُحِبٌّ أن تغفرَ لناº وعاد له بما كان يصنع)!

 

[2] الجـُود من أعظم أبواب العلم:

وقد كان السلفُ فقهاءَ في هذا البابº ليقينِهم بقولِ الله - تعالى -: (وما أنفقتم من شيءٍ, فهو يُخلِفُهُ وهو خيرُ الرَّازقين)! وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (ما نقصت صدقةٌ من مالٍ,)!

 

ويدلٌّك على ذلك أحسنَ دلالةٍ, ما رواه الترمذي في أبواب (الزهد) عن أبي كبشة الأنماريِّ - رضي الله عنه - أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الدنيا لأربعةِ نفر: عبد رزقَهُ اللهُ مالاً وعلماًº فهو يتقي فيهِ ربَّهُ ويصل فيهِ رَحِمَهُ، ويعلم للهِ فيهِ حقّاًº فهذا بأفضلِ المنازل، وعبد رزقَهُ اللهُ علماً ولم يرزقه مالاًº فهو صادقُ النيّةِ يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ بعملِ فلانٍ,º فهو بنيّتِهِ فأجرُهما سواءٌ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقهُ علماًº فهو يخبط في مالِهِ بغيرِ علمٍ,: لا يتقي فيهِ ربَّهُ، ولا يصل فيهِ رحمَه، ولا يعلم للهِ فيهِ حقّاًº فهذا بأخبثِ المنازل، وعبد لم يرزقهُ اللهُ مالاً ولا علماًº فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ,º فهو بنيَّتِهِº فوِزرُهما سواء).

 

وقد أشار النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك إشارةً بليغةً في قولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله الكتابَ وقام به آناءَ الليل، ورجلٌ أعطاهُ الله مالاًº فهو يتصدَّق به آناء الليل وآناءَ النهار).

 

قال القشيري: \"لقي رجلٌ من أهلِ منبج رجلا من أهل المدينة، فقال: ممّن الرجل؟ فقال: من أهل المدينة، فقال: لقد أتانا منكم رجلٌ يُقال له الحكم بن المطلبº فأغنانا! فقال المدني: كيف وما أتاكم إلا في جُبَّة صوفٍ,؟ فقال: ما أغنانا بمالٍ,º ولكنّه علَّمنا الكَرَمَº فعاد بعضُنا على بعضٍ, حتى استغنينا! \"

 

وقد قال يحيى بن معاذ: \"عجبتُ من ثلاثٍ,: رجلٌ يرائي بعملِهِ مخلوقاً مثلَهُ ويترك أن يعملَهُ لله، ورجلٌ يبخل بمالِهِ وربٌّهُ يستقرضُهُ منهº فلا يُقرضُهُ منه شيئاً، ورجلٌ يرغب في صُحبةِ المخلوقين ومودَّتِهم واللهُ يدعُوه إلى صُحبتِهِ ومودَّتِهِ\"!

 

[3] مُضاعَفةُ الجودِ في رمضان:

ذكر أهلُ العلمِ فوائدَ كثيرةًº لزيادةِ الجُودِ في رمضان. قال ابن حجر: \"قيل: الحكمةُ في ذلك: أنَّ مدارسةَ القرآنِº تُجدِّدُ له العهدَ بمزيدِ غِنَى النفس، والغنى سببُ الجود... وأيضاً فرمضان موسمُ الخيراتº لأنَّ نِعَمَ الله على عبادِهِ فيه زائدةٌ على غيرِهِº فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُؤثِرُ متابعةَ سنةِ اللهِ على عبادِهِº فمجموعُ ما ذُكِرَ من الوقتِ والمنزولِ به والنازلِ والمذاكرةº حصل المزيد من الجود\".

 

وقال ابنُ رجب - رحمه الله تعالى -: \"في تضاعف جودِهِ - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان بخصوصِهِ فوائدُ كثيرةٌ: منها شرفُ الزمانِ ومضاعفة أجرِ العمل فيه... ومنها: إعانةُ الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتِهمº فيستوجب المعينَ لهم مثل أجرِهمº كما أنَّ من جهَّز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهلِهِ فقد غزا... ومنها: أنَّ شهر رمضان شهرٌ يجود الله فيه على عبادِهِ بالرحمة والمغفرة والعتق من النارº لاسيما في ليلة القدر، والله - تعالى -يرحم من عبادِهِ الرحماء... ومنها: أنَّ الجمعَ بين الصيامِ والصدقة من موجِباتِ الجنة... ومنها: أنَّ الجمعَ بين الصيامِ والصدقةِ أبلغُ في تكفيرِ الخطايا واتقاءِ جهنم والمباعدة عنهاº خصوصاً إذا ضُمَّ إلى ذلك قيامُ الليل... ومنها: أنَّ الصيامَ لا بدَّ أن يقعَ فيهِ خللٌ أو نقصٌ، وتكفيرُ الصيامِ للذنوبِ مشروطٌ بالتحفٌّظِ مما ينبغي التحفٌّظُ منه... ومنها: أنَّ الصائمَ يَدَعُ طعامَهُ وشرابَهُ للهِº فإذا أعان الصائمين على التقوِّي على طعامِهم وشرابِهمº كان بمنزلةِ مَن ترك شهوةً للهِ وآثَرَ بها أو واسى منهاº ولهذا يُشرَع له تفطيرُ الصٌّوّامِ معه إذا أفطرَº لأنَّ الطعامَ يكون محبوباً له حينئذٍ,º فيُواسِي منه حتى يكون ممّن أطعمَ الطعامَ على حبِّهِº ويكون في ذلك شكرٌ للهِ على نعمةِ إباحةِ الطعامِ والشرابِ له، وردّه عليه بعد منعِهِ إيّاهº فإنَّ هذه النعمةَ إنما عرفَ قدرَها عند المنع منها. وسئل بعضُ السلفِ: لِمَ شُرِعَ الصيامُ؟ قال: ليذوقَ الغنيٌّ طعمَ الجوعِº فلا ينسى الجائع! \"

 

[4] أنواع الجود:

الجُودُ أنواعٌ كثيرةٌ من المعروف والمواساةº فهو ـ كما قال ابنُ حجر ـ \"إعطاءُ ما ينبغي لمن ينبغيº وهو أعمٌّ من الصدقة\". ولله درٌّ ابنِ القيِّم حيث قال: \"المواساةُ للمؤمنين أنواعٌ: مواساةٌ بالمال، ومواساةٌ بالجاه، ومواساةٌ بالبدنِ والخِدمة، ومواساةٌ بالنصيحةِ والإرشادِ، ومواساةٌ بالدعاءِ والاستغفارِ لهم، ومواساةٌ بالتوجٌّعِ لهمº وعلى قدرِ الإيمانِ تكونُ هذه المواساةº فكلما ضعف الإيمانُ ضعفت المواساةº وكلما قوي قويتº وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمَ الناسِ مُواساةً لأصحابِهِ بذلك كلِّهِ\"!

 

ورحم الله ابنَ رجبº حيث قال في وَصفِ جُودِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: \"كان جودُهُ بجميعِ أنواعِ الجودِ: مِن بذلِ العلمِ والمالِ، وبذلِ نفسِهِ لله - تعالى -في إظهارِ دينِهِ وهدايةِ عبادِهِ، وإيصالِ النفع إليهم بكلِّ طريق: من إطعامِ جائعِهم ووعظِ جاهلِهم وقضاءِ حوائجِهم وتحمٌّلِ أثقالِهم! ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - على هذه الخصالِ الحميدة منذ نشأº ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثِهِ: (واللهِ لا يُخزيك اللهُ أبداًº إنك لتصل الرَّحِمَ، وتحمل الكَلَّ، وتكسبُ المعدومَ، وتقرِي الضيفَ، وتُعِين على نوائبِ الحق)! ثم تزايدت هذه الخصالُ فيهِ بعد البِعثة، وتضاعفت أضعافاً كثيرةً. وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: (كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناسِ، وأشجعَ الناسِ، وأجودَ الناس)، وفي صحيح مسلم: (ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلامِ شيئاً إلا أعطاه، فجاء رجلٌ فأعطاه غنماً بين جبلينº فرجع إلى قومِهِ، فقال: يا قومُ أسلِمواº فإنَّ محمداً يُعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر)\".

 

[5] مِن أغراض الجُودِ إعفاف المسلمين:

أخي الصائم.. هل خطر ببالِكَ هذا الشهرَ أن تُواسيَ المسلمين وتتجاوز عن المَـدِينِين؟ وترحم الفقراءَ قبل أن يسألوكº أم تنتظرُ إخوانَك المساكين حتى يستعطِفُوك؟!

 

ماذا لو تأدَّبتَ هذه الأيّامَ بأدبِ عبادِ الله الصالحين؟ وتنعَّمتَ بلذَّةِ مُواساةِ المساكين؟ كما قال القشيري: \"كان مُوَرَّق العِجلِي يَتلطَّف في إدخالِ الرِّفقِ على إخوانِه، يضع عندهم ألفَ درهم، فيقول: أمسِكُوها عِندَكم حتى أعودَ إليكمº ثم يُرسِل إليهم: أنتم في حِلٍّ, منها! \" وقال أسماء بن خارجة: \"ما أُحِبٌّ أن أردَّ أحداً عن حاجةٍ, طلبهاº لأنه إن كان كريماً أصُونُ عِرضَهُ، وإن كان لئيماً أصُونُ عنه عِرضِي! \"

 

ومَن لِفقراء المسلمين في زمانِ الجشعِ والبخل بمثل مَن حكى عنه القشيري أنّ صديقاً دقَّ عليه الباب، \"فلما خرج إليه قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمائة درهمٍ, دَينٍ, ركِبَتنِيº فدخل الدارَ ووزن له أربعمائة درهم، وأخرجها إليه ودخل الدارَ باكياً، فقالت له امرأتُهُ: هل تعلَّلتَ حين شقَّت عليك الإجابة؟ فقال: إنما أبكيº لأنِّي لم أتفقد حالَهُ حتى احتاج إلى مفاتحتي به! \"

 

ولله دَرٌّ مطرِّف بن الشخِّير، حيث قال لأصحابِهِ: \"إذا أراد أحدُكم منِّي حاجةً فليرفعها في رُقعةٍ,º فإنِّي أكره أن أرى في وجهِهِ ذُلَّ الحاجة! \"

 

[6] أساسُ الجودِ الزٌّهدُ في المتاعِ الفاني:

وما أكرمَ قولَ ابنِ المبارك: \"سخاءُ النفسِ عمّا في أيدي الناسِ أفضلُ مِن سَخاءِ النفسِ بالبذل! \" فقد ربط - رحمه الله - بين السخاء والزهدº وهما قرينانِ! ولولا الزهدُ في الدنيا وابتغاءُ ما عند اللهº ما تصدَّق رجلٌ بدرهم! كما قال الله - عز وجل -: (لن تنالوا البِرَّ حتى تُنفِقُوا مما تُحِبٌّون وما تُنفقوا من شيءٍ, فإنَّ اللهَ به عليم). وقال الصالحون: (إنما نُطعِمكم لوجهِ اللهِ لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً).

 

[7] الجودُ علامة المروءة:

فالـجُودُ صفةُ أهلِ المروءاتِ الذين يَسعَدُون بخدمةِ المحتاجين، ويَسعَون إلى إدخالِ الفَرَحِ على المسلمينِº فلسانُ حالِهم:

 

تبّت حياةُ الوادعِ السليمِ ** تِلقاء بثٍّ, من أخٍ, سقِيمِ!

 

أو والـدٍ, مُرَوَّعٍ, مضيمِ! ** أو وَلَدٍ, مُجَوَّعٍ, هَضِيمِ!

 

وواللهِ إنَّ أهلَ النجدةِ والمواساةِ والمروءةِ والوفاء أغلى من الدنيا وما فيها! لا سيما في هذا الزمانº وفي أمثالِهم قال الفرزدق:

 

يمضي أخوك فلا تلقى له خَلَفاً ** والمالُ بعد ذهابِ المالِ يُكتسَبُ!

 

فعليكَ.. أخي الصائم بالجُود والسخاء!

 

وإذا رأيتَ الباهِشِين إلى النَّدَى ** غُبراً أكُفٌّهُمُ بقاعٍ, مُمحِلِ!

 

فأعِنهُمُ وابشِر بما بَشِرُوا به ** وإذا هُمُ نَزَلُوا بضنكٍ, فانزلِ!

 

وإيّاك أخي الصائم والبخلَº فإنه من أخبث أمراضِ النفوس، كما روى البخاريٌّ عن الصدِّيقِ - رضي الله عنه - أنه قال: (وأيٌّ داءٍ, أدوأُ من البخل؟!) ولله درٌّ الشاعر حيث قال:

 

ذهبَ الذي كان الصيامُ شعاره ** ولضيفِهِ الإنزالُ والآكالُ!

 

فكأنَّـهُ رمضـانُ في إخبـاتِهِ ** وكأنه في جُـودِهِ شوّالُ!

 

[8] الـجُودُ علامةُ الأخوةِ الصادقة:

ورحم الله أبا الفرج ابن الجوزيº فقد قال في (صيد الخاطر): \"احذر كلَّ الحذر من هذا الزمان وأهلهº فما بقي مُواسٍ, ولا مُؤثِرٍ,! ولا من يهتمّ لسدّ خَلَّةٍ,، ولا من لو سئل أعطى إلا أن يُعطي نذراً بتضجٌّر ومنّةٍ, يستعبده بها المعطي بقيّة العمر! ويستثقله كلما رآه، أو يستدعي بها خدمته له أو التردّد إليهº وإنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نُجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوماً على المنبر: عليَّ ألفُ دينارٍ, وقد ضاق صدريº فمضى إليه عمرو بالليل بألف دينارٍ, وقال: اقضِ دَينَكº فلما عاد وصعد المنبر قال: نشكر لأبي عمرو فإنه أراح قلبي وقضى دَينيº فقام أبو عمرو، وقال: أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي وقد شقّ عليها ما فعلتُº فإن رأيتَ أن تتقدّم بردّه فافعل! فلما كان في الليل عاد إليه، وقال له: لماذا شهرتني بين الناس؟ فأنا ما فعلتُ ذلك لأجل الخلقº فخذهُ ولا تذكرني!

 

ماتوا وغُيِّب في الترابِ شُخُوصُهم ** والنَّشرُ مِسكٌ والعظامُ رميمُ! \"

 

[9] الجود طبعٌ وسجيّةٌ:

فالجود لا يرتبط بفقرٍ, أو غِنًى، والسخاء لا يكون في وقتٍ, دون وقتٍ,، أو حالٍ, دون حالº بل هو سجيّةٌ ثابتةٌ ومَلَكةٌ راسخة! وما أكرمَ قولَ ابن أبي حصينة:

 

ومتى رأيتَ يدَ امريءٍ, ممدودةً ** تبغي مُواساةَ الكريمِ فَواسِها!

 

خيرُ الأكفِّ السابقاتِ بجودِها ** كفُّ تجود عليك في إفلاسِها!

 

فمن للمسلمين بجوادٍ, بارٍّ, كالذي ذكره زياد الأعجم بقولِه:

 

أخٌ لك ما تراه الدهرَ إلا ** على العِلاتِ بَسَّاماً جَوادا!

 

سألناهُ الجزيلَ فما تلكَّأ ** وأعطى فوقَ مُنيتِنا وزادا!

 

فأعطى ثم أعطى ثم عدنا ** فأعطى ثم عُدتُ له فعادا!

 

مِراراً ما أعودُ إليه إلا ** تبسَّمَ ضاحِكاً وثَنَى الوسادا!

 

[10] الجُودُ رَغبةٌ في عِتقِ الرقبة من النار:

وقد حكى القرآن من أخلاق الصالحينº أنهم (يُوفُون بالنَّذرِ ويخافُون يوماً كان شَرٌّهُ مُستطيراً ويُطعِمون الطعامَ على حُبِّهِ مِسكِيناً ويتيماً وأسِيراً إنما نُطعِمُكم لوجهِ الله لا نُرِيدُ منكم جزاءً ولا شكوراً إنّا نخاف من ربِّنا يوماً عبوساً قمطريراً)!

 

وقد أخرج البخاريٌّ في كتاب (الرقاق) باب (صفة الجنة والنار) حديث عدي بن حاتم (أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر النارَ فأشاح بوجهِهِ، فتعوّذ منها، ثم ذكر النارَ فأشاح بوجهِهِ، فتعوّذ منها، ثم قال: اتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةº فمن لم يجد فبكلمةٍ, طيِّبةٍ,)!

 

وروى الشيخان عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحى وكانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماءٍ, فيها طيِّبٍ,. قال أنس: فلما أُنزِلت هذه الآية: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ الله يقول في كتابه: (لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون)º وإنَّ أحَبَّ أموالي إلى بيرحىº وإنها صدقةٌ للهº أرجو بِرَّها وذُخرَها عندِ الله! فضعها يا رسول الله حيث شئت! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"بخٍ,! ذلك مالٌ رابِحٌº قد سمعتُ ما قلتَ فيها. وإني أرى أن تجعلَها في الأقربين\" فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه)! قال النووي: \"(أرجو بِرَّها وذُخرَها) يعني: لا أريد ثمرتها العاجلة الدنيوية الفانية، بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية! \".

 

وقال القرطبي: \"في هذه الآية دليلٌ على استعمالِ ظاهرِ الخطاب وعُمُومِهº فإنَّ الصحابةَ رِضوانُ الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطابِ حين نَزلَت الآية غير ذلكº ألا ترى أبا طلحة حين سمع (لن تنالوا البر حتى تنفقوا) الآية، لم يحتج أن يقفَ حتى يَرِدَ البيانُ الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلكº فإنهم يحبون أشياء كثيرة. وكذلك فعل زيد بن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس يقال له (سَبَل) وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذهº فجاء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا في سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد (اقبضه). فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنّ الله قد قبلها منك)، ذكره أسد بن موسى. وأعتق ابن عمر نافعاً مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار. قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله - عز وجل -: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). وروى شبل عن أبي نجيح عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرىº فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله - عز وجل - يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا بما تحبون)º فأعتقها عمر - رضي الله عنه -. وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خثيم قالت: كان إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سُكَّراًº فإنَّ الربيعَ يُحِبٌّ السٌّكَّر. قال سفيان: يتأوَّلُ قولَه جلَّ وعَزَّ: (لن تنالوا البِرَّ حتى تُنفِقُوا مما تُحِبٌّون). ورُوِيَ عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالا مِن سُكَّر ويَتصدَّقُ بها. فقيل له: هلا تَصدَّقتَ بِقِيمتِها؟ فقال: لأنَّ السٌّكَّرَ أحَبٌّ إليَّº فأرَدتُ أن أُنفِقَ مما أُحِبٌّ. وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تُحِبٌّون إلا بِتَركِ ما تَشتهون، ولا تُدرِكُوا ما تأمَلُون إلا بالصبرِ على ما تكرهون! \"

 

وللهِ درٌّ ابنِ رجب، حيث قال: \"هو شهرُ المواساةِº فمن لم يقدر فيهِ على درجةِ الإيثارِ على نفسِهِ فلا يعجز عن درجةِ أهلِ المواساةِ... وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد، فدفعَ إليهِ رغيفين كان يَعُدٌّهما لفِطرِهِ ثم طَوى وأصبح صائماًن وكان الحسن يُطعِم إخوانَه وهو صائمٌ تطوٌّعاً، ويجلس يروحهم وهم يأكلون، وكان ابنُ المبارك يُطعم إخوانَهُ في السفرِ الألوانَ من الحلواء وغيرِها وهو صائمٌ! سلامُ اللهِ على تلك الأرواحº رحمةُ الله على تلك الأشباحº لم يبقَ منهم إلا أخبارٌ وآثار! كم بين مَن يمنعُ الحقَّ الواجبَ عليه وبين أهلِ الآثار!

 

لا تعرِضنَّ لذكرِنا في ذِكرِهم ** ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقعَدِ! \"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply