نفحات العشر الأواخر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الاعتكاف.. ليلة القدر..صدقة الفطر وصلاة العيد منح ربانية ومعارج إيمانية.

 ها هي العشر الأواخر من الشهر المبارك قد أظلتنا، وها هي نفحاتها قد هبت علينا ترجو منا البر والوفاء، والاجتهاد مع الخوف والرجاء، ها هي تفتح لنا ذراعيها عسى أن نعوض بعض ما فاتنا من أجر، وأن نجبر ما أصابنا من كسر.

إنها الأيام المباركة التي فيها ليلة هي خير من ألف شهر، أيام القيام والتهجد والدعاء والذكر والاستغفار والصدقات، وأيام العتق من النار، والفوز برضا الله الغفار. فهنيئاً لمن تعرض لها، ويا حسرة على من أضاع ما مضى ولم يعزم على إدراك ما بقي من أيام الشهر الفضيل:

رمضان ولى مسرعا                                  للصائمين مودعــــــــا

عــاد الكــريم لـــربه                                   فاسكب عليه الأدمعا

يقول النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: \"ألا إن لربكم في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها، فلعلها أن تصيب أحدكم فلا يشقى بعها أبداً\".

وهل هناك نفحات أطيب أو أعبق من نفحات العشر الأواخر؟ هل هناك أيام أو ليالٍ, أزكى وأطهر من الليالي التي أنزل الله تعالى فيها كتابه الكريم على قلب نبيه الأمين – صلى الله عليه وسلم -؟

ليت شعري، من ذا يرفع الغشاوة عن أعيننا فنبصر الخير، ونستنشق ريح الجنة؟ من ذا الذي يأخذ بأيدينا قائلاً: هيا بنا نؤمن ساعة!

من ذا الذي يعين المرء على طاعة ربه في هذه الأيام المباركات، والليالي الكريمات؟ من ذا الذي يأخذ بيد أخيه إلي حيث جنة الدنيا ومستراح العارفين؟

إن في العشر الأواخر لفضلاً عظيماً وخيراً كثيراً وعطاءً من الرحمن جزيلاً، إن فيها من الحدائق الفيحاء ما ينعش الروح الكليلة ويشفي الأبدان السقيمة ويذهب العلل الجسيمة، وفيها من روائح الجنة ما لا يشمه إلا من طهر قلبه من رائحة الدرهم والدينار، وإن فيها من الأنوار والتجليات ما لا يراه إلا من أزال عن عينيه الغشاوات، فطالعت الأنوار وأبصرت أفضال العزيز الغفار.

فهيا بنا نتعرض لهذه النفحات العاطرة ونطوف في هذه الحدائق الزاهرة، نقتطف منها ما عساه أن يكون زاداً لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)(الشعراء).

 

الاعتكاف:

وهو لزوم بيت الله تعالى بقصد الطاعة والذكر، وهو رياضة روحية وتزكية نفسية وتطهير للقلب والعقل من أعراض الدنيا وأوشاب الشهوة، وركون إلى جنب الله تعالى وفرار إليه: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين\"50الذاريات. وهو لزوم لباب الله – تعالى- رجاء رحمته ومغفرته، وإظهار الفقر إليه، رجاء رضاه سبحانه وتعالى. ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر، حين كان يقول لابنه عبدالله وهو على فراش الموت: يا بني، ضع خدي على الأرض، عسى الله أن يطلع على فقري وضعفي، فيرحمني.

إلهي لا تعذبني فإني                    مقر بالذي قد كان مني

وما لي حيلة إلا رجائي                  وعفوك إن عفوت وحسن ظني

فكم من زلة لي في البرايا              وأنت علي ذو فضل ومنِّ

إذا فكرت في ندمي عليها               عضضت أناملي وقرعت سني

يظن الناس بي خيراً وإني              لشر الناس إن لم تعفُ عني

من ذا الذي طرق باب الرحمن فما أجابه؟ من ذا الذي لزم أعتابه فأغلق دونه رحابه؟ من ذا الذي استغفره فلم يغفر له؟ من ذا الذي استطعمه فلم يطعمه، من ذا الذي استقرضه فلم يقرضه؟ من ذا الذي استكساه فما كساه؟ من ذا الذي سأله فما أعطاه؟

أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون 62.(النمل).

والاعتكاف عبادة قديمة كان يؤديها أصحاب النفوس الشفافة، والقلوب الرقيقة. روى البخاري أن عمر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له – صلى الله عليه وسلم -: \"أوفِ بنذرك\".

وكان – صلى الله عليه وسلم - كما روى البخاري يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماًً .

 

ليلة القدر:

قال – تعالى-: \"إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5)\" (سورة القدر).

وهي ليلة عظيمة الشأن، جليلة القدر، سامية المقام، وحسبنا أن الله تعالى اختارها لينزل فيها القرآن الكريم، دستوره الخالد، ومنهجه الشامل وحجته البالغة على خلقه أجمعين.

روى أحمد وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال – صلى الله عليه وسلم- : \"قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني\".

ومن حكم إحياء هذه الليلة بالعبادة، تذكٌّر نعمة الله علينا بإنزال القرآن فيها هديً للناس، وبينات من الهدى والفرقان. ولنتذكر قول الرسول- صلى الله عليه وسلم -: \"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه\".

ومن الطاعات والنفحات المرتبطة بشهر رمضان ارتباطاً وثيقاً، والتي يمكن أن نعدها من نفحات العشر الأواخر فيه كذلك صدقة الفطر وصلاة العيد:

 

صدقة الفطر:

وهي ما يخرجه المسلم من ماله للمحتاجين طهرة لنفسه، وجبراًً لما يكون قد حدث في صيامه من خلل.

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: \"فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين\" (رواه أبو داود).

وحكمة فرضها سد خلة المعوزين، والتوسعة على الفقراء والمساكين، وإدخال الفرحة في قلوبهم، وإغناؤهم عن السؤال في هذا اليوم الكريم، وفيها ترجمة عملية لمعنى التراحم والتكافل بين أبناء الإسلام.

أما عن مقدارها ووقت إخراجها وعمن تُخرج وغير ذلك فهذا كله مبسوط في كتب الفقه، فليرجع إليها من شاء.

 

صلاة العيد:

لم يغفل الإسلام أهمية العيد لدى أبنائه، فهو ظاهرة اجتماعية ضرورية لكل أمة، هو أيام فرح وسرور، ومرح وحبور، هو مكافأة لمن صام الشهر خير الصيام، وقامه حق القيام.

عن أنس - رضي الله عنه - قال: \"قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال – صلى الله عليه وسلم -: \"قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر\". (رواه أبو داود).

أما عن التكبير وحكم صلاة العيد، ووقتها وكيفيتها.. فذلك كله أيضاً مبسوط في كتب الفقه.

فيا أخي المسلم: ها هي الجنة قد دنا قطافها، وهبت رياحها، وتزينت لك حورها، واستعد لخدمتك غلمانها، ها هي النفحات تهب عليك من كل صوب، والعطايا والهبات تأتي عليك من كل فج، من فيض القدير، بفضل جوده وكرمه.

ها هو رمضان يلملم ما تبقى من أيامه عازماً الرحيل، صاعداً بأعمال العباد إلى الله القدير، ترى ماذا سيقول عنا رمضان؟ هل سيذكرنا بالخير، ويتمنى لو طال فينا أمده، وامتد بيننا أجله؟ ترى هل سيحزن لفراقنا لأنه وجد منا كل ترحاب، وسعد بصحبة الأهل والأحباب؟ ترى هل سيبكي لفراقنا لأننا أنزلناه وهو الضيف الكريم منزلته أم أنه سيفرح لفراقنا وعودته إلى ربهº لما عاناه بيننا من غربة وما وجده بيننا من وحشة؟

ألا فليتعرض لنفحات ربه كل مسلم حريص على طاعته، وليستعد للقائه كل مؤمن مشتاق إلى جنته. وإن هذه الأيام والليالي لهي أيام وليالي الزاد الحقيقي، وقد صدق الله تعالى إذ يقول: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى\" واتقون يا أولي الألباب 197  (البقرة).

يريد المرء أن يُعطى مناه                ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي               وتقوى الله أفضل ما استفادا

 

وقد صدق القحطاني في قوله:

يوم القيامة لو علمت بهوله             لفررت من أهل ومن أوطان

يوم تشققت السماء لهوله             وتشيب منه مفارق الولدان

يوم عبوس قمطرير شره                 في الخلق منتشر عظيم الشان

يوم يجيء المتقون لربهم               وفداً على نُجب من العقيان (1)

ويجيء فيه المجرمون إلى لظى       يتلمظون تلمظ العطشان

فيا أيها المهملون الغافلون: تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون، انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب، قبل هجوم هازم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب ومشتت الأحباب، فياله من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا له من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيراً ولا يوقر كبيراً ولا يخاف عظيماً ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هو أعظم من السؤال والجواب، ووراءه هول البعث والحشر وأهواله الصعاب.

فاللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك واجعلنا من عبادك المتقين.

 

___________________________________

الهامش

(1) والنجب هي خيار الإبل، والعقيان هو الذهب الخالص المكاثف.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply