حكم زواج المسلم بالكتابية ( 4 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

تتمة أدلة المانعين من زواج المسلم بالكتابية مطلقاً

الدليل الثاني: ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - من النهي عن زواج المسلم بالكتابيات كما مضى عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس - رضي الله عنهم -، فقد نهى عمر - رضي الله عنه - طلحة وحذيفة عن إمساك امرأتيهما الكتابيتين وغضب غضباً شديداً وهم أن يسطو عليهما و عندما قالا له: نحن نطلق ولا تغضب قال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء، و معنى هذا أن نكاحهن باطل عند عمر - رضي الله عنه -.

و نقل ابن جرير عن ابن عباس ما يدل على تحريم نكاح الكتابيات كغيرهن من الوثنيات، وأما ابن عمر فقد صرح بأنه لا يعلم شركاً أعظم من قول النصرانية ربها عيسى وهو عبد من عباد الله، فهذه الآثار دالة على التحريم.

الجواب:

وأجاب الجمهور على ذلك بأجوبة:

منها: أن عمر - رضي الله عنه - إنما كره ذلك ولم يحرم، وقد صرح بعدم التحريم عندما أمر حذيفة أن يفارق امرأته اليهودية، فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن(1)

وذكر ابن جرير - رحمه الله - عن ابن عباس رواية أخرى تدل على أنه يرى جواز نكاح المسلم الكتابية فقد روى عنه بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: \" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن\" ثم استثنى نساء أهل الكتاب، فقال: \" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب \" حل لكم \" إذا آتيتموهن أجورهن \".

كما أنه ذكر عن عمر - رضي الله عنه - القول بالجواز، فروى بسنده عن زيد ابن وهب، قال: قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. ثم قال: وإنما كره لطلحة و حذيفة ـ - رضي الله عنهما - ـ نكاح اليهودية والنصرانية، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما ثم روى بسنده عن شقيق، قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه: خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: \" لا أعلم أنها حرام و لكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن\"(2)

فهذه الروايات تدل أن غاية ما قصده عمر وابن عباس هو الكراهية ولم يريدا التحريم وبذلك يجمع بين الروايات عنهما.

وأما ابن عمر فقد روي عنه الكراهية، فقد روى عنه نافع أنه كان لا يرى بأساً بطعام أهل الكتاب وكره نكاح نسائهم، ولما سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال: إن الله حرم المشركات على المسلمين قال: فلا أعلم من الشرك شيئاً أكبر، أو قال أعظم من أن تقول ربها عيسى وهو عبد من عبيد الله. قال الجصاص - رحمه الله - ـ بعد أن ساق ـ الروايتين: فكرهه في الحديث الأول، ولم يذكر التحريم، وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء، وإنما أخبر أن مذهب النصارى شرك، ثم ذكر عنه رواية أخرى استنبط منها أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان متوقفاً في الحكم، فروى بسنده عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: إنا بأرض قوم يخالطنا فيها أهل الكتاب، فننكح نساءهم، ونأكل طعامهم قال: فقرأ علي آية التحليل وآية التحريم، قال: قلت إني أقرأ ما تقرأ، فننكح نساءهم ونأكل طعامهم فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم...\".ثم قال الجصاص: قال أبو بكر: عدوله بالجواب بالإباحة والحظر إلى تلاوة الآية دليل على أنه كان واقفاً في الحكم، غير قاطع فيه بشيء، وما ذكره عنه من الكراهة يدل على أنه ليس على وجه التحريم، كما يكره تزوج نساء أهل الحرب من الكتابيات لاعلى وجه التحريم. (3)

و كذا زعم ابن المرابط تبعاً للنحاس أن كلام ابن عمر محمول على كراهية التنزيه أو التوقف، ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه كما قال الحافظ ابن حجر(4).

تلك هي الآثار التي ذكرها أهل هذا المذهب محتجين على تحريم زواج المسلم بالكتابية، وهذه أجوبة المبيحين عليها.

وبهذا يعلم أنه لم يوجد دليل يقوى على معارضة آية المائدة الدالة على الإباحة.

إشكال وجوابه:

أشكل على البعض في هذه المسألة ما يحصل في نفس الزوج من المحبة لزوجته وكذا الأبناء مع أن الله أمر بمعاداة الكفار و عدم مولاتهم كقوله - تعالى -: \" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض.. \"الآية (5)

الجواب:

إن الله - تعالى -الذي أمره بمعادة الكافرين وعدم مولاتهم هو الذي احل له نساء أهل الكتاب وهو يعلم - سبحانه - ما يترتب على ذلك فالمحبة الطبيعة لا تضره وإنما يضره أن يحبها لدينها وعاداتها واخلاقها التي تخالف الإسلام وحكمه كحكم أمه وأبيه المشركين.

و الخلاصة: أن زواج المسلم بالكتابية التي لم تخرج عن دينها إلى الوثنية أو الإلحاد، جائز مع الكراهة إذا تزوجها في دار الإسلام ـ وهي الذمية ـ والدليل الراجح مع الجمهور الذين رأوا الجواز.

 

----------------------------------------

(1) أحكام القرآن للجصاص (1/333).

(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/376 378).

(3) أحكام القرآن (1/332-333).

(4) فتح الباري (9/416-417)

(5) المائدة (51)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply