وماذا بعد رمضان


بسم الله الرحمن الرحيم

إن من سنة الله تعالى في هذه الحياة تعاقب الليل والنهار ، وهكذا الحياة ، شهر يعقبه شهر ، وعام يعقبه عام ، ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) وهذه الأيام تتوالى علينا ، وكل يغدو ، فمعتق نفسه أو موبقها. قال الشاعر:
تمر بنا الأيام تترى وإنما           نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلاعائد ذاك الشباب الذي مضى    ولا زائل هذا المشيب المكدر
وخير من هذا قول الله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ).
وإن من نعم الله تعالى علينا أن جعل مواسم للخيرات يكثر فيها الثواب، لمن خلصت نيته، وزكى عمله، وإن من هذه المواسم الفاضلة، شهر رمضان الذي طوى بساطه قبل أيام، الله نسأل أن يتقبله منا.
إخوة الإسلام، إنه من المعلوم أن أكثر المسلمين في شهر الصيام، يجتهدون في عمل الخيرات والمسارعة إليها، وترك المعاصي والمنكرات والابتعاد عنها وهذا بلا شك ولا ريب علامة خير وبركة . 
لكن السؤال الذي يطرح نفسه : ما حالنا بعد رمضان ؟ وهل هناك وجه مقارنة بين حال بعض الناس في رمضان وبعد رمضان ؟ ولزاماً على كل واحد منا ، أن يصدق في جوابه مع نفسه ، وأن يتجرد عن أحابيل الشيطان وتلبسه ، وأن يترك التماس الأعذار الواهية التي يسلي بها نفسه .
والجواب عن هذا السؤال ما نراه ونلمسه من حال بعضنا :

1- فبعض منا قد يكون متلبسا ببعض الآثام قبل شهر رمضان فيتأثر بروحانية الشهر وسكينة الصيام فيعزم على ترك ما سلف من ماضيه ويطلّقه طلاقاً بائناً لا رجعة فيه . وهذا الصنف إن صدق في عزمه ، فسيرى من الله ما يسره ( فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم ) فالخير كله سببه الصدق مع الله تبارك وتعالى. فيا من تلوث في أوحال المعاصي ، من سخرية وسماع ونظر إلى ما حرم الله ، وغير ذلك من الآثام ،احمد الله الذي بلغك ختام رمضان ، واجعل من هذا الشهر المبارك مرحلة تنقية وتهذيب لسلوكك وأخلاقك ، واعلم أن الله يتوب على من تاب ، قال تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) . وقال تعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) ، وقال جل ذكره : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله
يتوب عليه ) ، وقال عز وجل : ( والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) والآيات في هذا كثيرة معلومة.
وتذكر قول نبيك صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) رواه مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه . وتذكر ذاك الرجل الذي قتل مائة نفس ، فلما صدق في التوبة تاب الله عليه وغفر له .
وقد صح الخبر : أن المذنب لو بلغت ذنوبه عنان السماء ثم تاب º تاب الله عليه . فلنعزم إخوة الإسلام على التوبة النصوح ، ولنغتنم ذلك قبل فوات الأوان ، فما زالت سكينة الصيام قريبة العهد. 
2- وأما القسم الآخر من الناس فهو الذي فرط في تلك الثروة العظيمة ولم يرعها حق رعايتها ، فحرم نفسه خيراً كثيراً ، واكتسب وزراً كبيراً، وهذا الصنف ، هو الذي لم يردعه صيامه عن الآثام ، ولم يتغير عن ماضيه قبل رمضان ، بل عاد يتخبط في معاصيه وآثامه ، وأصر على ما كان عليه ، ومثل هذا يقال له : اتق الله يا عبد الله ، واعلم أن ربك مطلع عليك عالم بما تقول وما تفعل ، فدع عنك الإصرار على الذنوب وتذكر قول الله تعالى: ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) فذم الله تعالى المصر على الذنوب لقبح عمله وشناعة جرمه. 
3- وقسم آخر من الناس ، زادهم الصيام، إيماناً، فزاد حبهم للخير بجميع أنواعه، من صيام، وصدقة ، وصلاة ، وبر ، وصلة رحم ، وهؤلاء خير الأقسام وأفضلها عند الله . نسأل الله أن نكون من ألئك الذين نفعهم الله بصيامهم وقيامهم .
إخوة الإسلام . . ولّى شهر الصيام ولا ندري أندرك الشهر الآخر أم لا ( علمها عند
ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) . اللهم اجعلنا ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم .
إخوة الإسلام : كنا بالأمس نرتقب مجيء شهر رمضان، ولقد جاءنا وولى، وهكذا ، كل مستقبل في هذه الحياة سوف ينتهي ، ولكل أجل كتاب ، ولكل نبأ مستقر. 
أيها الإخوة : لقد أودعنا شهر رمضان ما شاء الله أن نودعه من الأقوال والأعمال ، فمن كان منا محسناً فليبشر بالقبول ، فإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين ، ومن كان منا مسيئاً ، فليتب إلى الله ، فالعذر قبل الموت مقبول ، والله يحب التوابين .
عباد الله : لئن انقضى شهر الصيام ، فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت ، ولئن انقضت أيام صيام رمضان ، فإن الصيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في كل وقت ، فقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب في صيام أيام غير رمضان ، ومن ذلك صيام ست من شوال ، فإن من جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام شهر رمضان وقيامه: أن يصوم عقب ذلك شكراً لله تعالى وتقرباً إليه ، وتأسياً برسوله صلى الله عليه وسلم وموافقة له فيما رغّب من الخير ، فقد ثبت في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) .
لكن يقال قبل ذلك : من كان عليه قضاء من رمضان فليبادر إلى صيامه ثم يتبعه بست من شوال ، وليتحقق له بذلك إكمال الصيام المفروض ، ويتم له إدراك فضل الست من شوال بعد ذلك . قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى بعد كلام له : ( فلا يحصل مقصود صيام ست أيام من شوال إلا لمن أكمل صيام رمضان ثم أتبعه بست من شوال ، فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم بدأ بصيام ست من شوال ، تطوعاً لم يحصل له ثواب من صام رمضان وأتبعه بست من شوال حيث لم يكمل عدة رمضان ) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وفي صيام الست من شوال أمور ينبغي التنبيه عليها : فمن ذلك أن بعض الناس يكون عليه قضاء يوم أو يومين من رمضان فإذا صامها في شوال جعلها معدودة من صيام ستة أيام من شوال وهذا خلاف الصواب .قال ابن رجب رحمه الله تعالى : ( ولا يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء رمضان º لأن صيام الست من شوال إنما يكون بعد إكمال عدة رمضان ) انتهى كلامه.
ومما ينبغي معرفته أيضاً : أن بعض الناس ، يوجب صيام الست ، وينكر ويعيب على من ترك صيامها أو صيام بعضها ، وهذا الإنكار في غير محله º لأن صيامها من باب الترغيب في الخير ، لا من باب الوجوب على المكلف. 
ومن ذلك أيضاً: أن بعض الناس يتحرج من صيام الست من شوال ، بحجة إنه إذا صامها ولو سنة واحدة ، أصبحت واجبة عليه في كل سنة بعدها. وهذا من الجهل º لأن أصل صيامها ليس واجباً في أصل الشرع ، بل من صامها فهو مأجور ، ومن ترك صيامها فهو غير مأزور ، ولكنه فرط في خير كثير.
ومن ذلك أيضاً : أن بعض الناس يعتقد أن فضيلة صيام الست من شوال تكون بعد العيد مباشرة ، وأن فضلها يقلّ فيما لو صامها في أوسط الشهر أو آخره . وهذا فيه نوع من الحرج بلا علم ، بل من شاء صامها في أول الشهر أو في وسطه أو آخره وفي كل خير.
ومثل ذلك أيضاً : أن بعضهم يظن أن فضل صيامها لا يتحقق إلا بالتتابع في أيامها وهذا كسابقه لا دليل عليه ، والأمر في ذلك واسع ، قال أهل العلم: ولا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله وهما سواء. نعم ينبغي أن يقال: إن المبادرة في أول الشهر بصومها متتابعة من باب المسارعة إلى فعل الخيرات .
فلنسارع إخوة الإسلام إلى عمل الخيرات ، فقد مدح الله من كان هذا شأنه ، فقال تعالى مادحاً لأنبيائه الذين هم صفوة خلقه : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) . وقال تعالى حاثاً عباده على ذلك : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) وأثنى على عباده المؤمنين فقال: ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ، والذين هم بربهم لا يشركون ،
والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ، ألئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) 
وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( التؤدة في كل شيء خير إلا في علم الآخرة) .
قال الطيبي: معناه أن الأمور الدنيوية لا يعلم أنها محمودة العواقب ، لقوله سبحانه : ( فاستبقوا الخيرات ) ، ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم ) .
اللهم اجعلنا من المسارعين إلى الخيرات في السر والعلن والقول والعمل .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply