الإسلام والفصل بين السلطات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كرَّست أوروبا جميع السلطات بيد الحاكم وهو إما أن يكون الأمير أو البابا أو هما معاً، وقد ترتبت على هذا أن أصبح الحاكم فرعوناً يتباهى بمقولة الحاكم من الفراعنة: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر: 29.

ولقد ذاقت الشعوب، بل بعض الحكام أنواع الذل والهوان من تجميع السلطة بيد فرد واحد.

ولن تنسى البشرية ما حل بالإمبراطور (هنري الرابع) عندما تمسك بحقه في أن يصدر قرارات تعيين الأساقفة، فما كان من البابا (جريجوري السابع) إلا أن استخدم حقه في إصدار صكوك الغفران والحرمان، فأصدر قراراً بالحرمان ضد الإمبراطور وهذا يترتب عليه ليس حرماناً من دخول الجنة فقط، بل يؤدي إلى عدم طاعة شعبه له، لهذا رضخ الإمبراطور لسلطة البابا والذي أعلن شروطه لسحب قرار الحرمان، ومنحه الغفران، وهي أن يقف الحاكم حافي القدمين يرتدي الخيش أمام قصر البابا ومدة ثلاثة أيام، رغم الأمطار والثلوج حتى يأذن له بالمثول بين يدي البابا، فما كان من الإمبراطور إلا أن رضخ لذلك.

لهذا بدأ الفلاسفة الذين مهَّدوا للثورة ضد الاستبداد بالمناداة بالفصل بين السلطات. فأصدر الإنكليزي (جون لوك) كتابه (الحكومة المدنية) العام 1690م، وذلك إثر الثورة التي قامت في بريطانيا العام 1688م وترتب عليها إعلان الملك لوثيقة الحقوق العام 1680م. وقد طالب (جون لوك) بالفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

ولقد شاع هذا المبدأ عندما أظهره الفيلسوف الفرنسي مونتسيكو في كتابه الشهير روح القوانين الصادر العام 1748م، وبدأت فرنسا تأخذ به على مراحل يعد ثورتها الشهيرة العام 1789م. لقد قسَّم (مونتسيكو) السلطات في الدولة إلى تشريعية، وتنفيذية، وقضائية واعتبر الفصل بينها ضرورياً لمنع استبداد الحكام، وهو بذلك يخالف (لوك) الذي جعل السلطة القضائية ضمن السلطة التنفيذية.

وقد أدى الفصل المطلق بين السلطات الثلاث إلى نقد كبير من معظم فقهاء القانون العام ونادوا بالفصل المتوازن بين هذه السلطات مع قيام التعاون بينهما حتى تتمكن من تنفيذ رسالتها في انسجام وتوافق مع وجود رقابة متبادلة بينهما لضمان أن تقف كل سلطة عند اختصاصها. (1)

 

الفصل بين السلطات في الإسلام:

يرى الفقهاءالمعاصرون(2) أن الدولة الإسلامية تشتمل على سلطات عدة هي:

1 ـ السلطة التشريعية ويمارسها الإمام (الرئيس) ـ فيما يصدر من تشريعات تنفيذية للكتاب والسنَّة ويشاركه أهل الشورى في حدود ونظام الشورى الإسلامية.

2 ـ السلطة القضائية ويتولاها القضاء.

3 ـ السلطة التنفيذية ويقوم عليها رئيس الدولة أو مجلس الوزراء.

4 ـ السلطة المالية وسلطة المراقبة والتقويم يمارسها المجتمع عن طريق مجلس الشورى.

ويؤكد علماء وقادة الحركة الإسلامية المعاصرة (3) أن هذه الدولة لن تتحول إلى الحكم الديني في أوروبا أي حكومة (تيوقراطية يحكمها رجال الدين أصحاب الحق الإلهي للحاكم بوصفه ظل الله في الأرض)(4)، لأن سلطة الحاكم في الدولة الإسلامية مستمدة من الناس لا من الله، كما أن هذه الدولة لا تسمح بقيادة دكتاتورية طالما أن الشعب يستطيع أن ينحي حكامه إذا خالفوا العقد الذي بينه وبينهم والذي تمثله البيعة وفيهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، رواه مسلم.

والجدير ذكره أن (الدستور السوفييتي) السابق لا يعرف إلا وحدة السلطات، لأن (مجلس السوفييت الأعلى) تخضع له جميع السلطات والهيئات العليا، وهي الملزمة بتقديم الحساب أمامه، والمادة 108 من الدستور تنص على أن (مجلس السوفييت الأعلى) هو الهيئة العليا لسلطة الدولة، فيملك أن يحل جميع المسائل التي يدرجها هذا الدستور، ويملك إقرار الدستور وتعديله وقبول جمهوريات جديدة...وتصديق خطط الدولة وميزانية الدولة، وتشكيل الهيئات المسؤولة أمامه... وإصدار القوانين عن طريق التصويت الشعبي العام (الاستفتاء)، وهكذا مجلس السوفييت الأعلى يختص بالتشريع، وكذا التنفيذ والقضاء فهما وظيفتان تتفرعان عن هذا المجلس، وبالتالي يخضعان له، والمجلس ينبثق عن الحزب الوحيد وهو الحزب الشيوعي، يقول فقهاء الشيوعية: (ففي مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي تتلاقى جميع خطوط إدارة الدولة السوفييتية، فجميع الهيئات العليا في الاتحاد السوفييتي مسؤولة وملزمة بتقديم الحساب أمامه)(5) وبعد أن انهارات الشيوعية وانتهى الاتحاد السوفييتي وتفككت دوله، لا توجد ضرورة لبيان أخطاء هؤلاء في موضوع وحدة السلطات أو غيره.

ويكفي أنه قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بخمسة عشر عاماً سجلت في كتاب (مكانة المرأة) أن (شيوعية ماركس) ستنهار كما انهارات من قبل شيوعية (مزدك) التي ظهرت في (فارس) قبل البعثة النبوية لأن كلاهما يصطدم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها بإنكار غزيرة التملك والزواج وادعاء أن المجتمعات لن تصلح إلا بتطبيق شيوعية المال والجنس. (6) والجدير ذكره، أن (كارل ماركس) نادى بشيوعية المال والجنس العام 1847م كرد فعل لأمور أهمها:

1 ـ طمع في الزواج من أسرة غنية بعد حب استمر سراً فترة طويلة لكن أسرتها رفضت بسبب الفوارق المالية والاجتماعية بين الأسرتين فتحول إلى الحقد على الأغنياء.

2 ـ طعنه أحد الأغنياء في نادي الشعراء وأصابه بجرح في حاجبه وكان ذلك في (مدينة بون) بألمانيا العام 1835م ولما سكت الجميع ولم ينتصر له أحد زاد حقده على الأغنياء لأن خصمه منهم.

3 ـ امتلكت الكنيسة الأراضي والعبيد ونافست الأمراء في ذلك وفي ظلم الفقراء فكفر بالدين كما كفر من قبل بالزواج وبالأغنياء. (7)

ولقد أسس الشيوعيون في روسيا جمعية العام1925م باسم جمعية إنكار الألوهية، ووجهت جهودها إلى المناطق الإسلامية، وبعد سبعين عاماً من إنكار الدين ومحاربة أهله، انهارت الشيوعية وانعقدت في موسكو مؤتمرات إسلامية عالمية العام 1992م في الجامعة التي كانت تدَّعي الفكر الشيوعي وتبشر به للطلاب المبعوثين من أنحاء العالم.

 

الإسلام والسلطات الثلاث:

إن من خصائص التشريع الإسلامي أنه من عند الله- تبارك وتعالى - الذي يعلم ما كان وما سيكون، ولا يظلم أحداً ولا ينحاز في حكمه إلى أحد من خلقه. ولهذا لم يترك الله الناس للتجارب في مجال الحقوق والواجبات والحلال والحرام، وغير ذلك من الأمور التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان قال - تعالى -: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) الحديد: 25. فهذا النص القرآني أوضح أن رسل الله مكلفون بإقامة العدل بين الناس وقد حدد الله وسائل ذلك بالسلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، فالتشريع أو القانون قد رمز الله إليه الكتاب، والقضاء قد رمز الله إليه بالميزان، والتنفيذ قد رمز الله إليه بالحديد الذي هو رمز القوة، ولقد درجت التشريعات والدساتير المعاصرة على الإشادة بالفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وهو الفعل الذي ينسب إلى أوروبا، وأصوله في الإسلام، يقول (المودودي) الحديد يُراد به القوى السياسية، فغاية بعث الرسل هو إقامة نظام العدالة الاجتماعية. (8)

ويقول ابن تيمية الجمع بين الكتاب والحديد هو لتقويم من يخالف التشريع فيقوم بالحديد. (9)

ولا خلاف في أن التشريع سواء بالقرآن الكريم والسنَّة النبوية مصدرها الله تبارك وتعالى، فلا اختصاص للناس في التشريع بما يخالف القرآن والسنة، وهذا يضمن استقلال التشريع عن الناس وعن السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، فالنبي الذي كان ينزل عليه الوحي بالقرآن والسنة النبوية لا يعد مشرعاً، وبالتالي لا يكون النبي قد جميع بين السلطات كلها لأنه كان مبلغاً للتشريع، وهو القرآن والسنَّة والقرآن من الله الذي هو المعجزة الإلهية، ومن ثم كان اللفظ والمعنى من الله، ويبلغ السنَّة وهي بيانه من الله بألفاظ من النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ولقد جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين القضاء والتنفيذ بصفته هذه ولأنه معصوم من الخطأ وقد كلفه الله بالقضاء في قوله تعال: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) المائدة: 48، وفي عصره صلي الله عليه وسلم لم يفصل القضاء عن السلطة التنفيذية لأن الخصومات كانت قليلة جداً، وبهذا ظل الرسول يتولى القضاء بنفسه ثم ولاة غيره في الأقاليم فضلاً عن أن الله قد عصم النبي من الخطأ، وأن الأمة في حاجة إلى أحكامه القضائية لتكون القواعد والمبادئ لمن بعده.

 

أما من ولاهم القضاء فمنهم:

1 ـ روى أحمد وأبو داود عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن وقال له كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: (فإن لم تجد في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله، قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟)، قال: أجتهد الرأي ولا ألو، قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله).

2 ـ وروى أحمد وأبو داود عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضياً، وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، وقال: (إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيَّن لك القضاء) قال: فما زلت قاضياً وما شككت في قضاء بعد. قال ابن حزم: (هذا دعاء أن يكون الصواب هو الغالب عليه كدعائه لابن عباس أن يعلمه التأويل)

3 ـ وبعد فتح مكة عيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتَّاب بن أسيد القرشي قاضياً عليها.

4 ـ وبعث أيضاً أبا موسى الأشعري قاضياً على إقليم آخر باليمن، وبهذا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عيَّن علياً قاضياً باليمن، وعين معاذ بن جبل قاضياً بإقليم ثانٍ,، وعيَّن أبا موسى الأشعري قاضياً بإقليم ثالث، كما ولَّى عمرو بن حزم على نجران. (10)

5 ـ وأيضاً كان يولي بعض الأفراد أمر القضاء في بعض الخصومات بالمدينة فقد أسند إلى حذيفة بن اليمان القضاء في خصومة الجدار.

والجدير بالذكر أن اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء ثم إسناده إلى بعض الصحابة وجمعه بين القضاء والتنفيذ كانت له ضرورة فضلاً عن أنه نبي معصوم من الخطأ فإن ممارسته للقضاء وللتنفيذ تصبح أسوة حسنة للقضاء أو التنفيذ لآخرين هو بمثابة تدريب لهؤلاء تحت إشرافه - صلى الله عليه وسلم - وتحت رقابته والذي يصحح أي اجتهاد خاطئ ويضع القواعد التي يلتزم بها القضاة وكل ذلك بوحي من الله حيث قال في ذلك: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3 ـ4.

إنه بسبب قلة الخصومات وبسبب مبادرة المحكوم ضده بالتنفيذ لم تكن هنالك حاجة إلى استقلال السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية ولهذا ففي الحالات التي تحتاج إلى تنفيذ جبري منه إقامة الحدود، كان القاضي يشرف على التنفيذ ويسنده إلى من يأتمنه.

والجدير ذكره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأقضين بينكما بكتاب الله) لمن احتكما إليه، ثم قضى برجم المرأة المتزوجة عند ثبوت ارتكابها لجريمة الزنى، والمعلوم أن الرجم لم يرد في القرآن، إنما ورد في السنَّة النبوية، فدل هذا على أن السنَّة جزء لا يتجزأ من القرآن الكريم، لأنها بيان له والبيان يلحق بالمبين، قال الله - تعالى -: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم) النحل: 44، وقال تعال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80، وقوله - تعالى -: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر: 7 وقال - تعالى -: (إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرآناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه) القيامة: 17 ـ 19، فالله قد ألزم نفسه ببيان القرآن وتفصيل أحكامه، ولهذا فقد حفظ الله السنَّة لأنها البيان التفصيلي لأحكام القرآن الكريم.

 

----------------------------------------

الهوامش:

1 ـ عبد القادر عودة ـ الإسلام وأوضاعنا السياسية ـ ص 198، والدكتور عبد الغني بسيوني ـ أسس التنظيم السياسي، ص 269.

2 ـ عبد القادر عودة ـ الإسلام وأوضاعنا السياسية ـ ص198، والدكتور عبد الغني بسيوني ـ ص269 ـ الدار الجامعية بالقاهرة سنة 1984م.

3 ـ أسس التنظيم السياسي ـ ص 269، الدار الجامعية ـ مصر ـ 1984، والفكر التربوي للإخوان المسلمين أحمد ربيع ـ ص87 سنة 1984م.

4 ـ عبد القادر عودة ـ المال والحكم في الإسلام ـ ص105، الإسلام وأوضاعنا السياسية ـ ص89، ونحو مجتمع إسلامي ـ ص152، والعدالة الاجتماعية في الإسلام ص 107 للشهيد سيد قطب.

5 ـ الهيئات العليا للسلطة الشعبية.

للدكتور مارك شاقير والدكتور أولينج كوتافين ص6، صدر في موسكو سنة 1972م، نقلاً عن مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي للدكتور عبد الجليل محمد علي، ص 174، عالم الكتب بمصر 1984م.

6 ـ تفصيل ذلك في كتاب مكانة المرأة في الإسلام والقوانين العالمية للمؤلف الفصل الثالث عن دار القلم بالكويت ودار آفاق الغد في مصر.

7 ـ من كتاب ماركس والخلق، تأليف طلال جرجس، ص 27 ـ 37.

8ـ أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، ص 45، الدار السعودية للنشر ـ جدة ص140، 1980م.

9 ـ السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 3.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply