مسائل الطهارة في البلاد غير الإسلامية ( 1 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الأولى:

حكم استعمال أواني الكفار

حكم استمال أواني الكفار إذا تيقن طهارتها:

اتفق الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على أنه إذا تيقن المسلم طهارة أواني الكفار، فإنه يجوز له استعمالها(1)

قال النووي في المجموع بعد ذكره لجواز استعمال أواني الكفار إذا تيقن طهارتها: (ولا نعلم فيه خلافا)(2)

 

المسألة الثانية:

حكم استعمال أواني الكفار إذا لم يتيقن طهارتها:

اختلف الفقهاء في حكم استعمال المسلم لأواني الكفار إذا لم يتيقن طهارتها ولم يغسلها على ثلاثة أقوال هي:

القول الأول: أنه يجوز استعمالها مطلقاً.

وهذا القول وجه عند الشافعية(3)، و المذهب عند الحنابلة (4).

القول الثاني: أنه يكره استعمالها.

وهذا القول مذهب الحنفية (5)، ومذهب الشافعية (6) ورواية عند الحنابلة (7).

القول الثاني أنه يكره استعمالها.

القول الثالث: أنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها.

وهذا القول مذهب المالكية(8)، ووجه عند الشافعية (9)، ورواية عند الحنابلة (10).

 

الأدلة:

أدلة القول الأول:

الدليل الأول:

قال الله - تعالى -: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) المائدة: 5

وجه الدلالة:

أنه الله - سبحانه وتعالى - أباح لنا أكل طعام أهل الكتاب، ومعلوم أن طعامهم يطبخونه في قدورهم ويباشرونه بأيديهم وهذا يدل على طهارة أوانيهم التي يطبخون بها ويستعملونها (11).

الدليل الثاني:

عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توضؤوا من مزادة مشركة)(12).

وجه الدلالة أن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مزادة مشركة يدل على طهارتها وهي من أواني المشركين مما يدل على طهارة أوانيهم.

الدليل الثالث:

عن جابر بن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بهم فلا يعاب علينا(13).

وجه الدلالة:

حيث دل هذا الحديث على استمتاع المسلمين واستفادتهم من آنية المشركين، ولم يعاب عليهم وهذا يدل على طهارتها.

الدليل الرابع:

عن أنس - رضي الله عنه - أن يهودياً دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير، وإهالة سَنَخَةٍ, (14)، فأجابه (15).

وجه الدلالة:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب اليهودي الذي دعاه إلى الطعام، ومعلوم أن الطعام يطبخ ويقدم في أواني، وهذا يدل على أن أواني الكفار طاهرةº لان أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - منها دليل على طهارتهاº لأنها لو كانت نجسة لما أكل منها النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الدليل الخامس:

عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية (16).

وجه الدلالة:

أن وضوء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ماء النصرانية الذي في جرتها دليل على طهارة آنيتهاº لأنها لو لم تكن طاهرة لم يصح الوضوء من الماء الموجود فيها، وهذا دليل على طهارة أواني الكفار.

الدليل السادس:

أن الأصل في أوانيهم الطهارة، فلا ينتقل عن الأصل إلا بدليل، ولا دليل ينقل عن الأصل فيبقى (17).

 

أدلة القول الثاني:

الدليل الأول:

عن أبي ثعلبة الخشني قال: \" أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك قال: أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل لكتاب، تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر الله عليه ثم كل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل (18).

وجه الدلالة:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأكل في آنية أهل الكتاب إلا إذا لم يوجد غيرها فإنها تغسل ثم تستعمل، وهذا يدل على كراهية استعمالها مع وجود غيرها.

ونوقش من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول:

أن السؤال كان عن الآنية التي يطبخون فهيا لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما جاء في رواية أبي داود (19).

الوجه الثاني:

أن النهي عن استعمالها مع وجود غيرها محمول على الاستحباب (20).

الوجه الثالث:

قال البيهقي: روى عن أبي ثعلبة الخشني ما دل على أن الأمر بالغسل قد وقع عند العلم بنجاسة آنيتهم(21).

الدليل الثاني:

أن الكفار لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة (22).

يناقش: بأنه لا يسلم لكم أن الكفار لا يتورعون عن النجاسة، بل إن منهم من يتورع عنها، وقد تبين لنا من الأدلة السابقة كيف توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مزادة مشركة، وكيف أجاب اليهودي الذي دعاه إلى خبز شعري وإهالة سنخة، وهذا يدل على أنهم يتورعون عن النجاسة في الأواني فالأصل طهارة أوانيهم ما لم يثبت ويعلم يقيناً نجاستها.

 

أدلة القول الثالث:

الدليل الأول:

قال الله - تعالى -: (إنما المشركون نَجَسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) التوبة: 28

وجه الدلالة:

أن الله - سبحانه وتعالى - بين في هذه الآية نجاسة المشركين، ومعنى هذا أنهم نجس وكل ما يباشروه من أوانٍ, ونحوها، فإنه يكون نجساً لنجاستهم فلا يصح استعماله قبل غسله.

 

نوقش:

بأن المراد بنجاسة المشركين في هذه الآية نجاسة اعتقادهم ودينهم المحرف، وليس المراد نجاسة أبدانهم وأوانيهم، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أدخلهم المسجد) واستعمل آنيتهم وأكل طعامهم (23).

الدليل الثاني:

عن أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقلت يا رسول الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك، قال: أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل الكتاب، تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم لك، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر الله ثم كل، وما صبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل\"(24).

وجه الدلالة:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأكل في آنية أهل الكتاب إلا إذا لم يوجد غيرها فإنها تغسل ثم تستعمل. وهذا يدل على نجاستهاº لأنها لو لم تكن نجسة لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلها.

ونوقش من ثلاثة أوجه: سبق ذكرها (25).

 

الترجيح:

بعد النظر في هذه المسألة والإطلاع على الأقوال الواردة فيها، ومعرفة أدلة هذه الأقوال، ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة من هذه الأدلة، تبين لي والله أعلم بالصواب- أن القول الراجح هو القول الأول وهو أنه يجوز استعمال أواني الكفار إذا لم يعلم بنجاستها ولم يتيقن طاهرتها -º وذلك لقوة أدلته وكثرتها وسلامتها من المناقشة، ودلالتها الصحية على محل الخلاف، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى لو عدم سلامتها من المناقشة، ولما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه من استعمال أواني الكفار في مناسبات كثيرة وعدم تحرزهم ن ذلك مما يدل على طهارتها والله أعلم بالصواب.

 

----------------------------------------

*- أستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك سعود/فرع القصيم

*ن/ع مجلة المجمع الفقهي العدد 13 /النسة الثالثة عشرة

(1) - انظر: المبسوط 1/97، حاشبة الدسوقي 1/66، الشرح الكبير للدردير1/61، المجموع 1/363، المقنع 1/155، الشرح الكبير لابن قادمة 1/155، الإنصاف 1/155، المغني 1/109 شرح منتهى الإرادات 1/26.

(2)- المجموع1/263.

(3)- حلية العلماء1/124.

(4)- المغني 1/109، الشرح الكبير لابن قدامة 1/155، شرح العمدة في الفقه 1/1109، المقنع 1/155، الإنصاف 1/155، شرح منتهى الإرادات 1/26.

(5)- البحر الرائق 8/223، المبسوط 24/27.

(6)- المهذب 1/12، المجموع 1/263 مغني المحتاج 1/31.

(7)- المغني 1/109، شرح العمدة في الفقه 1/119، الإنصاف 1/155، الفروع 1/100.

(8)- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/78، الكفار ص 178.

(9)- روضة الطالبين 1/27، حلية العلماء 1/124.

(10)- الفروع 1/100، الإنصاف 1/156.

(11)- المجموع1/264

(12)- رواه البخاري صحيح البخاري 1/881، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء، ورواه مسلم، صحيح مسلم 1/474 وما بعدها، كناب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. والحديث طويل وفيه قصة.

(13)- رواه الإمام أحمد في المسند 3/379، وأبو داود، سسن أبي داود 4/177، كتاب الأطعمة، باب الأكل في آنية أهل الكتاب، ورواه البيهقي، السنن الكبرى 1/22، كتاب الطهارة، باب التطهير في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاسة. قال الألباني: هذا إسناد صحيح إرواء الغليل 1/76، وجاء في مسند الإمام أحمد تحقيق شعيب الأرنوؤط عن هذا الحديث قوله: \" إسناده قوي \". انظر: الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد 23/292.

(14)- الإهالة: الدسم ما كان والسَّنخةُ: المتغيرة. انظر: ليان العرب 3/27 باب الخاء المعجمة، فصل السين المهملة، مادة (سنخ). وقيل الإهالة ما أذبت من الشحم. وقيل: الإلهالة الشحم والزيت، وقيل: كل دهن أو تدم به إهالة، والإهالة الودك..وقيل هو ما أذيب من الآلية والشحم.قيل: الدسم الجامد، والسنخة: المتغير الريح.لسان العربي 11/23، حرف اللام، فصل الهمزة، مادة (أهل).

(15)- رواه الإمام أحمد في المسند 3/210، 270، قال الألباني: وإسناده صحيح على شرط الشيخين \" إرواء الغليل 1/71، وجاء في مسند الإمام أحمد تحقيق شعيب الأرنؤوط عن هذا الحديث قوله: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبان وهو ابن يزيد العطار فمن رجال مسلم، انظر: المسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد 20/424.

(16)- ذكره البخاري تعليقاً فقال: وتوضأ عمر بالحميم ومن بيت نصرانية. صحيح البخاري 1/56، كتاب الوضوء، باب وضور الرجل مع أمرأته وفضل وضوء المرأة، ورواه البيهقي. السنن الكبرى 1/22، كتاب الطهارة، باب التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاسة، واللفظ له، وقال النووي: \" صحيح رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح، وذكره البخاري في صحيحه بمعناه تعليقاً \" المجموع 1/363.

(17)- انظر المجموع 1/356.

(18)- رواه البخاري، صحيح البخاري 6/219، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس، ورواه مسلم، صحيح اسلم 2/1522، كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، واللفظ له.

(19)- روى أبو داود بسنده عن أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا \" سنن أبي داود 2/391، كتاب الأطعمة، باب الأكل في آنية أهل الكتاب.

(20)- انظر: المجموع 1/265.

(21)- السنن الكبرى 1/33.

(22)- المغني 1/111.

(23)- انظر المجموع1/264-265.

(24)- سبق تخريجه.

(25)- سبق ذكر الأوجه الثلاثة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply