صلاة التراويح مظهر للاجتماع أم مدخل للافتراق


بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد تميز المهرجان الرمضاني إن صح التعبير بتنوع العبادات فيه، وكان الصوم بحد ذاته مظهراً من مظاهر وحدة الأمة حيث لم يترك الشارع الحكيم لأفراد الناس أن يختاروا الأيام المعدودة التي يصومونها بل جعل لها حداً زمنياً موسميا ويوميا لجميع الناس فكان الصيام مظهرا للاجتماع، ومن العبادات التي يتجلى فيها مظهر الاجتماع وتحقق الترابط الروحي صلاة التراويح فقد كان الناس يصلونها أوزاعاً فأقلق ذلك عمر رضي الله عنه - فجمع الناس على أمام واحد، فقد روى البخاري عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال ثم خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله (1)وقد فعل عمر ذلك ليتحقق الصف الواحد وتتقارب أجسادهم لتلتحم قلوبهم وهو مفهوم (2)قوله - صلى الله عليه وسلم - لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم البخاري ومسلم-، وإن مما يحزن أن تتحول صلاة التراويح من مظهر للاجتماع إلى سبب للاختلاف، وأدهى منه أن يكون ذلك في مناطق تجمع المسلمين في بلاد الغرب حيث يواجهون التحديات الكبيرة فطائفة تصلي في مركزها إحدى عشرة ركعة وطائفة تصلي في مسجدها ثلاثاً وعشرين ركعة وجالية خلف إمامها ثلاث عشرة ركعة، اختلفوا في صف الصلاة فاختلفت قلوبهم وكان حري بهم أن يجعلوا من رمضان فرصة لائتلاف القلوب، ولاشك أن حصول مثل هذا الاختلاف في صلاة التراويح مرده إلى أمرين:

1- عدم تحرير مسألة صلاة التراويح من الناحية العلمية.

2- عدم إدراك فقه الاجتماع والمصالح العامة للمسلمين.

وخلاصة تحرير المسألة في صلاة التراويح هل هي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة أو ثلاثاً وعشرين أو أكثر من ذلك-كما هو عند المالكية-؟

أولاً: حضور صلاة التراويح في جماعة مقصد شرعي وخير من صلاتها فرادى، فقد صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ثلاث ليال ثم ترك خشية أن تفرض كما روى ذلك البخاري (3) وتركه الصلاة معللاً بخشية أن تفرض ولكن بقي استحباب الاجتماع بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزوال العلة، وبدليل السنة القولية، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -(من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)(4)، وهذا لا يتعارض مع حديث (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) (5) فهذا إنما هو في النوافل التي لم تشرع لها الجماعة أما ما شرعت لها الجماعة فصلاتها مع الجماعة أولى كالكسوف والاستسقاء والعيدين والتراويح، وإنما لم تبق مشروعية فعلها في جماعة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لما سبق من التعليل (خشية أن تفرض) وعلى هذا يتقرر أن صلاة التراويح في جماعة أفضل من فعلها في البيت فرادى وهو مذهب الجمهور (6).

 

ثانياً: كم عدد صلاة التراويح؟

جاءت الأحاديث والآثار الصحيحة تدل على أن الأمر في عدد ركعات التراويح واسع فقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما زاد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة (7) كما ثبت أنه صلى ثلاثاً عشرة ركعة (8) وقام في آخر حياته بسبع وبتسع، (9)كما جاءت روايات أخرى تدل على أن عمر - رضي الله عنه - قد أقر من صلاها أي التراويح عشرين ركعة غير الوتر.

فقد روى الإمام مالك عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بثلاث وعشرين ركعة(10)وذكر ابن قدامة بصيغة الجزم، فقال: ولنا أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة، وقد روى الحسن: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ركعة (11).

بل إنه ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر أن تصلى التراويح عشرين ركعة.

- فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً يصلي بهم عشرين ركعة (12).

فابن إسحاق هنا يثبت رواية من روى أنها أي صلاة التروايح صليت عشرين ركعة في زمن عمر - رضي الله عنه - لكنه كان يرى أن ما روي في هذا الأثر أثبت بصيغة التفضيل، وذلك لما وافقه من حديث عائشة، وحديث عائشة الذي يعنيه هو ما رواه البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً فقلت: يا رسول الله: أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة: إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي(13).

وهذه الآثار لا تعارض ما رواه السائب بن يزيد في أن صلاة التراويح في عهد عمر كانت تصلى إحدى عشرة ركعة، ومرة روى أنها كانت تصلى ثلاث عشرة ركعة، فقد روى أيضاً أنها كانت تصلى ثلاثاً وعشرين ركعة.

فقد روى البيهقي بسنده عن السائب بن يزيد أنه قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وكانوا يقرءون بالمئين، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان من شدة القيام (14).

هذه الروايات ظاهرها الاختلاف و يجاب عنه من ناحيتين:

1- الجمع: بأنه لا يستبعد أن يكون السائب بن يزيد قد علم أن عمر - رضي الله عنه - أمر أبياً وتميماً بأن يصليا للناس بإحدى عشرة ركعة في بادئ الأمر، ثم إن الناس صلوا في زمن عمر بن الخطاب ثلاث عشرة ركعة فلم يعبهم عمر - رضي الله عنه -، وأقرهم على ذلك، فروى ذلك السائب بن يزيد، ثم إن الناس بعد ذلك صلوا التراويح عشرين ركعة والوتر، فلم يعبهم عمر بن الخطاب وأقرهم على ذلك، لدليل علمه أو اجتهاد منه، فروى ذلك السائب بن يزيد، وكان معنى ذلك أن صلاة التراويح إذا صليت على صفة من تلك الصفات الثلاث، كان ذلك جائزاً ولا لوم على أحد فعل ذلك.

وقد جمع البيهقي بين الروايات بمثل هذا الجمع، فهو يقول: كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث والله أعلم(15).

وما زال المسلمون إلى يومنا هذا منهم من يصلي التراويح مع الوتر إحدى عشرة ركعة، ومنهم من يصليها ثلاث عشرة ركعة ومنهم من يصليها ثلاثاً وعشرين ركعة، لأن كل ذلك سنة.

2-الترجيح: وذلك أن الرواية المأثورة عن عمر من طريق السائب بن يزيد التي ذكر فيها أن صلاة التراويح كانت تصلى في زمن عمر - رضي الله عنه - ثلاثاً وعشرين ركعة، أيدتها روايات أخرى مروية عن السائب بن رومان ويحيى بن سعيد وحسن هو عبد العزيز، والسائب بن برقان والحسن البصري على ما ذكره ابن قدامة، ولا شك أن كثرة الطرق من أسباب الترجيح كما هو معروف في مصطلح الحديث فيكون رواية من روى أن صلاة التراويح كانت في عهد عمر تصلى عشرين ركعة والوتر هي الراجحة، ولعل ذلك كان آخر الأمر، يقول ابن حبيب من المالكية: رجع عمر إلى ثلاث وعشرين ركعة(16).

وهذه الآثار لا تتعارض مع ما روته عائشة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ما زاد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فإنها إنما تحدثت عما رأته، ورأى غيرها من الصحابة غير ذلك، أو أنها إنما أرادت الغالب فقد روت عائشة نفسها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في آخر حياته بسبع وبتسع كما سبق -عند الإمام أحمد كما أننا لو رجحنا رواية إحدى عشر ركعة وأهملنا الروايات الأخرى التي عند احمد فإنه لا يلزم التوقف عليها بحجة أن العبادات توقيفية فهذا إنما يُسلم لو لم يكن بيان للنصوص المجملة في القيام إلا هو، أما وقد ورد بيان هذا المجمل بالنص القولي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى \"(17)، وهذا فهم الصحابة حيث أدركوا أن الأمر في قيام الليل على السعة فقد جمع عمر الناس على إحدى عشرة، وثلاث عشر وعلى عشرين وعلى ثلاث وعشرين وعلى ست وثلاثين وعلى أكثر من ذلك، واجتماع الصحابة لعمر على العشرين دون نكير على عمر دليل على أنهم يدركون أن الأمر واسع فكانت العشرين سنة عمرية وقد قال النبي: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ \"(18)، كما أن الإمام مالك أدرك الناس في المدينة يصلون ستاً وثلاثين \" ولهذا فمن صلى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو عشرين أو ستاً وثلاثين فهو على السنة.

ثالثاً: لو تقرر عند بعضنا أن كل ما سبق صحيح ولكن الأولى والأقرب إحدى عشرة ركعة، وعند الآخر ثلاثاً وعشرين وعند آخر أكثر أو أقل فهل من مقتضى الشرع أو العقل أن نفترق لتحصيل الأولى والأكمل فنحقق كمالاً في سنة ونترك واجب الاجتماع في ظرف تتداعى علينا الأمم ويسعى أعداء الله أن يفرقوا صفنا؟ اللهم لا..

إن السنة القولية والعملية تدل على وجوب الاجتماع ولو على خلاف الأولى مادام الأمر ليس في أصول الدين، لتحقيق المصالح العظيمة التي تفوت بالاختلاف، \" ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين \" / سورة الأنفال 46، ومن الصبر، الصبرُ على رأي المخالف والنزول عليه لأجل الاجتماع، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: \" لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم \" (19) وهذا نص في إقامة الصف في الصلاة وهذا هو المقصد الشرعي من إطباق الأئمة على تحريم تعدد الجمعة في البلد الواحد إلا عند عدم استيعاب المكان لكل الناس، وقد فعل الصحابة الأولى لتحقيق مصلحة الاجتماع فقد صلوا خلف عثمان أربعاً في منى مع أن السنة القصر فقيل لابن مسعود كيف تصلي خلفه وهو خلاف السنة قال: الخلاف شر (20).

فعلى المسلمين عموماً إدراك هذا المعنى وإظهار الوحدة والاجتماع، وخاصة الذين يعيشون في بلاد الغرب حيث إن ظرفهم لا يحتمل هذه الخلافات والاختلافات، فليجتمعوا على صلاة واحدة وإمام واحد ولو كان غيره خيراً منه لأجل الاجتماع فقد قرر الفقهاء الصلاة خلف المبتدع والفاسق ما لم تكن بدعته مكفرة، ولم يقرروا أن على المسلمين إنشاء جماعة أخرى وهذا في زمن كانت الخلافة قائمة وشرع الله ظاهراً فماذا يكون الأمر في زماننا.

اجتمعوا أيها المسلمون صفاً واحداً وتخندقوا جميعاً أمام الهجمة الشرسة على الإسلام وتعاذروا وتغافروا وتعاونوا أو اختاروا الأخرى فتهلكوا..

وفقكم الله وسدد على الحق خطاكم

 

----------------------------------------

(1) -البخاري كتاب صلاة التراويح /باب فضل من قام رمضان (1906)

(2)-مفهوم مخالفة

(3)-كتاب الجمعة /924

(4) -انظر صحيح الترمذي للألباني /810

(5) - البخاري 5762 ومسلم 781

(6) -انظر المجموع 4/30 والمغني مع الشرح الكبير 1/799/800 وفتح الباري 4/252

(7) - البخاري 1096 ومسلم 738

(8) - صحيح ابن خزيمة 1076

(9) - رواه احمد 24088

(10) - انظر فتح الباري 4/ 253، المجموع 3/30، قال النووي: رواه مالك في الموطأ ورواه البيهقي لكنه مرسل، لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر، وانظر سنن البيهقي 2/496،. وموطأ مالك بشرحه تنوير الحوالك 1/138، وحدثني عن مالك عن يزيد بن رومان...

(11) - انظر المغني والشرح الكبير 1/799.

(12) - مصنف ابن أبي شيبة 2/393 ن حدثنا وكيع عن مالك ين أنس عن يحيى بن سعيد..

(13) - صحيح البخاري مع فتح الباري 4/251.

(14) سنن البيهقي 2/496، ذكره البيهقي بسنده إلى علي بن الجعد أنبأ ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد.. انظر المجموع 4/32، الذي قال فيه مؤلفه: رواه البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن السائب بن يزيد.

(15) سنن البيهقي 2/496.

(16) - انظر التاج والإكليل: لمختصر خليل مطبوع مع مواهب الجليل 2/ 71، ط دار الفكر الطبعة الثانية، عام 1398هـ.

(17) - البخاري (946) باب ما جاء في الوتر، مسلم (749) باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل

(18) - الترمذي (2676)، ابن ماجه (42) باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين

(19) - البخاري (685) ومسلم (436)

(20)- أبو داود(1958) وصححه الألباني صحيح أبي داود (1726) وأصل الحديث في البخاري

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply