التعارض الظاهري للنصوص


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

سنتناول في هذا المبحث - إن شاء الله - التعارض والنسخ وما يتعلق بهما، مركِّزين النظرة على السنة ونصوصها، لطبيعة المقالات التي نكتبها: \"مسائل في السنة\".

 

أولاً: التعارض: هو: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر، وتقابل الدليلين سواء أكانا من الكتاب أو من السنة أم من الإجماع أم من القياس، ولكن الغالب أن المراد بهما - أي بالدليلين - ما كان من الكتاب أو من السنة.

{شرح الأصول من علم الأصول- لابن عثيمين}

فأحد الدليلين يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر، كأن يدل أحد الدليلين على الجواز والآخر على المنع.

فإن كان التعارض بين الدليلين من كل وجه بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فهذا هو التناقض- التعارض الكلي-، أما إذا كان التعارض بين الدليلين من وجه دون وجه بحيث يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه فهذا هو التعارض الجزئي.

وهذا التعارض بين النصوص هو في الحقيقة تعارض ظاهري، وإلاَّ فالنصوص مبرأة من التناقض، يقول الله - تعالى -عن القرآن: \" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا \" {النساء: 82}

وكذلك أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة مبرأة من التناقض والاختلاف لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من التناقض والاختلاف بإجماع الأمة، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد، قال - تعالى -: \" وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى \" {النجم: 3، 4}.

وكذلك إجماع الأمة لا يمكن أن يتناقض، فلا ينعقد إجماع على خلاف إجماع أبدًا، فإذا علم أن أدلة الشرع لا تتناقض في نفسها، فإنها أيضًا لا تتناقض مع بعضها، بل إنها متفقة لا تختلف، متلازمة لا تفترق.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الكتاب والسنة والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول - صلى الله عليه وسلم - موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلاَّ من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما في سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك.

وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقًا موافقًا لما في الكتاب والسنة، لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فينزل عليه وحي القرآن ووحي آخر هو الحكمة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: \"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه\".

ولا يوجد مسألة ينعقد الإجماع عليها إلا وفيها نص. \"مجموع الفتاوى: 19-195\"

فأدلة الشرع حق والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا. \"إعلام الموقعين\"

وكذا لا يوجد تعارض بين الأدلة الشرعية والعقل، بل إن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، إذ أن خالق هذا العقل هو الذي أنزل الشرع: \" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير \" الملك: 14\". \"مجموع الفتاوى - ابن تيمية\".

فإذا كان الشرع مبرأً من التناقض (التعارض الكلي)، فمن أين إذًا ينشأ التعارض؟

يقول الشيخ ابن عثيمين: يوجد التعارض لأحد هذه الأمور الثلاثة:

الأول: القصور في العلم.

الثاني: القصور في الفهم.

الثالث: التقصير في التدبر.

\"شرح الأصول: لابن عثيمين\".

فعلى الناظر في الشريعة أمران (كما يقول الإمام الشاطبي في الاعتصام):

أحدهما: أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها اعتبارًا كليًا في العبادات والعادات.

والثاني: أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيعٍ, واحد، ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أداه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف فوجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله - تعالى - قد شهد أن لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلّم من غير اعتراض.

\"الاعتصام (1-250) للشاطبي\"

 

الطرق المعينة على دفع التعارض:

الواجب درء التعارض بين أدلة الشرع ما أمكن، ومن الطرق المعينة على ذلك:

1- التثبت من صحة الدليل.

2- الاطلاع على مصادر الشريعة وتتبع الأدلة واستقراؤها والنظر إليها مجتمعة، فلا بد من جمع العام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، والناسخ مع المنسوخ، وهذا لا يتم إلاَّ بتتبع نصوص الكتاب والسنة، ولو اقتصر على بعض ذلك لحصل التعارض، ولابد من معرفة روايات الحديث وألفاظه فإن بعضها يفسر بعضًا، وكذلك القراءات الثابتة.

3- العلم بلغة العرب وما فيها من دلالات ومعان، فإن فهم النص وسياقه وعمومه وخصوصه، وحقيقته ومجازه، مما يزيل كثيرًا من الإشكالات ويدرأ كثيرًا من التعارضات.

\"معالم أصول الفقه. للجيزاني\"

 

خطوات دفع التعارض:

إذا ظهر التعارض، فالواجب على الترتيب:

1- محاولة الجمع بينهما ما أمكن كأن يحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد، والجمع يكون لأدنى مناسبة، لأن العمل بالدليلين خير من إسقاط أحدهما، والسواد الأعظم من إيهام التعارض يدفع بالجمع.

وكان ابن خزيمة- رحمه الله - يقول: يا أيها الناس فليأتني من أي بقاع الأرض أي رجل يقول إن هناك خبرين يتعارضان وأنا أؤلف له بينهما.

2- في حال عدم القدرة على الجمع بينهما، ننتقل إلى النسخ، فننظر في المتقدم والمتأخر فيقدم المتأخر زمننًا على المتقدم للعمل به.

3- في حالة عدم التوصل لمعرفة الناسخ من المنسوخ، وكان هناك منافاة بين النصين، فإذا أعمل أحدهما أهمل الآخر، فحينئذٍ, يصار إلى الترجيح، فيتعين ترجيح أحد النصين على الآخر بوجه من وجوه الترجيح.

4- في حالة عدم التمكن من الترجيح نطلب الدليل في المسألة من غيرها.

5- إذا لم نتمكن من ذلك فعلينا التوقف، والرجوع إلى من هو أعلم.

\"التأسيس: لمصطفى سلامة، ومعالم أصول الفقه: للجيزاني\"

 

النسخ

النسخ في اصطلاح المتقدمين أوسع من اصطلاح المتأخرين، فالمتقدمون يطلقون النسخ على رفع الحكم بجملته وعلى رفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد.

أما النسخ في اصطلاح المتأخرين: فهو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ, عنه، أي رفع الحكم بجملته، أو هو باختصار رفع حكم متقدم بحكم آخر تالٍ, متأخر.

 

كيفية معرفة النسخ

يعرف النسخ بما يلي:

1- تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر بالآخرة\". \"صحيح مسلم\".

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرًا\".

\"رواه مسلم 977\"(1).

2- تصريح الصحابي مثل قول عائشة - رضي الله عنها -: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات.

\"صحيح مسلم\"

3- بمعرفة التاريخ، أي المتقدم من المتأخر، نحو قوله - تعالى -: \" الآن خفف الله عنكم \"الأنفال: 66\"، فلفظ الآن يدل على تأخر الخطاب الشرعي المقترن بها، وكذلك قوله - تعالى -: \" فالآن باشروهن \"البقرة: 187\".

4- إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ، وهذا منسوخº كنسخ صوم يوم عاشوراء (وجوبه) بصوم شهر رمضان. \"إرشاد الفحول: للشوكاني، ومعالم أصول الفقه: للجيزاني، والتأسيس: لمصطفى سلامة، وشرح الأصول: لابن عثيمين\".

 

الحكمة من النسخ:

الله - سبحانه وتعالى - يفعل ما يشاء: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب \"الرعد: 39\"، وله - سبحانه - الحكمة البالغة والملك التام: ألا له الخلق والأمر \"الأعراف: 54\"، ونحن كمكلفين علينا السمع والطاعة، وقفنا على الحكمة أم لا نقف عليها لقصور عقولنا، وقد تكلم العلماء في الحكمة من النسخ، فمما قالوه:

1- الرحمة لخلقه والتخفيف عنهم والتوسعة عليهم، وهذه الحكمة تتضح في نسخ الأثقل بالأخف، كما قال - تعالى -: \" يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا \"النساء: 28\"، مثل نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار في قوله - تعالى -: \" إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين \"الأنفال: 65\".

بمصابرة المسلم اثنين من الكفار، في قوله - تعالى -: \" الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين.

2- تكثير الأجر للمؤمنين وتعظيمه لهم، وهذه الحكمة تتضح في نسخ الأخف بالأثقل، كنسخ التخيير بين الصوم والإطعام في قوله - تعالى -: \" وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين \"البقرة: 184\"، بتعيين إيجاب الصوم في قوله - تعالى -: فمن شهد منكم الشهر فليصمه \"البقرة: 185\".

3- أن يكون النسخ مستلزمًا لحكمة خارجة عن ذاته، وذلك فيما إذا كان الناسخ مماثلاً للمنسوخ، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام فهذا يستلزم حكمة بالغة وهي احتجاج اليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: تعيب ديننا وتصلي لقبلتنا، واحتجاج المشركين بقولهم: تدعي أنك على ملة إبراهيم - عليه السلام - وتصلي لغير قبلته.

ومن الحكمة أيضًا: تمييز قوي الإيمان من ضعيفه، كما قال - تعالى -: \" وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله \"البقرة: 143\".

4- الامتحان في نسخ الأمر قبل التمكن من فعله، وذلك مثل أمر الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أن يذبح ابنه ثم نسخ هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم، والحكمة من ذلك الابتلاء، قال - تعالى -: إن هذا لهو البلاء المبين \"الصافات: 106\". \"الفقيه والمتفقه: للخطيب البغدادي، ومعالم أصول الفقه: للجيزاني، بتصرف\"

 

أقسام النسخ:

ينقسم النسخ بالنظر إلى دليله إلى أقسام متعددة، يمكن جمعها في قسمينº قسم متفق على جوازه، وقسم وقع فيه الخلاف.

أما القسم المتفق عليه فهو:

- نسخ القرآن بالقرآن.

- نسخ السنة المتواترة والآحادية بمتواتر السنة.

- نسخ الآحاد من السنة بالآحاد من السنة.

وأما القسم المختلف فيه فيمكن بيانه في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: نسخ القرآن بالسنة، وقد ذكر الشيخ الشنقيطي أن جمهور الأصوليين على جوازه واختاره هو، وذهب الإمام الشافعي وأحمد وابن تيمية وابن قدامة إلى أن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن مثله.

وحجة الجمهور: أن الجميع وحي من الله - تعالى -، فالناسخ والمنسوخ من الله - تعالى -، وإن أظهره الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وحجتهم بأن آية التحريم بعشر رضعات نسخت بالسنة.

 

المسألة الثانية: نسخ السنة بالقرآن:

ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن، وذهب الإمام الشافعي إلى أن السنة لا ينسخها إلا سنة مثلها.

وقد مثل الجمهور للوقوع بأمثلة كثيرة منها:

- التوجه إلى بيت المقدس وهو ثابت بالسنة ونسخ بالقرآن: فول وجهك شطر المسجد الحرام \"البقرة: 144\".

- تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلاً ثابت بالسنة، ونسخ بالقرآن: فالآن باشروهن \"البقرة: 187\".

 

المسألة الثالثة: نسخ المتواتر بالآحاد:

ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه لا يجوز نسخ المتواتر- من القرآن والسنة- بالآحاد من السنة.

وذهب الشنقيطي - رحمه الله - إلى جواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد طالما كان الحديث صحيحًا ثابتًا.

ومثّل لذلك بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر في قوله - تعالى -: \" قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به \"الأنعام: 145\". \"مذكرة الشنقيطي، ومعالم أصول الفقه\"

ورجح الشيخ العثيمين - رحمه الله - نسخ المتواتر بالآحاد، فقال: والراجح أن لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى، فالمقارنة بين الناسخ والمنسوخ، فإما أن يكونا على حدٍ, سواء، وإما أن يكون الناسخ أقوى، وإما أن يكون المنسوخ أقوى، لكن الناسخ ثابت، على القول الراجح.

\"شرح الأصول: لابن عثيمين\"

 

الترجيح:

هو تقوية أحد الدليلين على الآخر، ولا يصار إليه إلا بعد محاولة الجمع بين الأدلة المتعارضة، فكما علمنا فإن الجمع مقدم على الترجيح، ولا يجوز ترجيح أحد الدليلين المتعارضين على الآخر بدون دليل، إذ أن ترجيح أحد الدليلين بلا دليل تحكم، وهو باطل، ولا يجوز في دين الله التخير بالتشهي والهوى بلا دليل ولا برهان.

\"فتاوى ابن تيمية: 13\"

ومحل الترجيح هو الظنيات، حيث إن التعارض لا يكون إلا بين دليلين ظنيين فقط، فلا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقًا. هكذا حكى الزركشي في \"البحر\". \"إرشاد الفحول\"

فكذلك الترجيح لا يكون إلا بين دليلين ظنيين، إذ الترجيح فرع التعارض.

 

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد نهى عن الانتباذ في أوعية الدَّبَاء (وعاء من القرع اليابس)، والحنتم (نوع من الجرار الخضر)، والنقير (وعاء من جذع منقور)، والمقير (وعاء مطلي بالزفت)، ثم بعد ذلك رخص لهم.وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خصَّها بالنهي لسرعة إسكار (تخمر) ما يوضع فيها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply