مسائل في صيام الست


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

ثمة أسئلة تتعلق بصيام ست من شوال يتتابع طرحها من كثير من الناس في كل عام عقب رمضان حرصاً منهم على خير العلم وخير العمل ورغبة منهم في أن يُتبعوا الحسنةَ حسنةً، وقد جمعت منها جملة صالحةº ورأيت أن من المناسب البحث فيها وتحريرها حتى تكون هادية للسائلين وسراجاً للسائرين، وها هي بين أيديكم محررةً والله الموفق والمستعان.

 

المسألة الأولى: فضل صيام ست من شوال

صيام ستة أيام من شوال من الطاعات العظيمة التي يحرص عليها الموفَّقون من عباد الله بعد إتمامهم صيام رمضانº عملاً بقول ربهم - سبحانه - في خطاب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب))[1] قال أهل التفسير: فإذا فرغت من عبادة، فاجتهد وأتبعها بعبادة أخرى[2] وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الترغيب في صيامها وبيان ما أعدَّ الله في ذلك من الأجر العظيم، فعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال{من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر}[3] وعن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال{من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السَنَةِ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}[4] وخير العمل في ذلك أن يشرع المسلم في صيامها عقب يوم الفطر مباشرة ويسردها متتابعة حتى يتحقق معنى الإتباع، وقد يقول بعض الإخوان: إن زيارة الأرحام في أيام العيد تقتضي الفطر وذلك لإدخال السرور عليهم بالتناول من طعامهم وشرابهم ولا يتأتى الصيام من ثاني أيام العيد والحال هذه؟ فأقول: لا شك أن صلة الأرحام في العيد ـ خاصة ـ من أعظم القربات وخير الطاعات وإدخال السرور عليهم مقصد شرعي، فإذا رأى الموفَّق أن في إفطاره خيراً فلا حرج عليه إذ الثواب ثابت لمن صامها متتابعة أو متفرقة. قال النووي - رحمه الله تعالى -: ويستحب أن يصومها متتابعة في أول شوال فإن فرَّقها جاز[5]. أ. هـ وقال الصنعاني - رحمه الله -: واعلم أن أجرها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر. أ. هـ[6]

أما ما جاء عن مالك - رحمه الله تعالى -من كراهة صومها فذلك خشية أن يُعتقد وجوبهاº ففي الموطأ قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: {إنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك}[7] قلت: وهذا الذي تخوَّف منه مالك - رحمه الله تعالى -قد وقع فيه بعض الناسº حتى إن بعضهم ليسرد الأيام الستة عقب يوم الفطر ثم يسمِّي اليوم الثامن من شوال (عيد الأبرار) قال ابن مفلح - رحمه الله تعالى -في الفروع: سمى بعض الناس الثامن عيد الأبرار، ولا يجوز اعتقاد ثامن شوال عيدا، فإنه ليس بعيد إجماعا ولا شعائِرُه شعائر العيد، والله أعلم[8]. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: وهذا اليوم الثامن يسميه العامة عندنا عيد الأبرار أي الذين صاموا ستة أيام من شوال. ولكن هذا بدعة، فهذا اليوم ليس عيداً للأبرار ولا للفجار. ثم إن مقتضى قولهم: أن من لم يصم ستة أيام من شوال ليس من الأبرار، وهذا خطأº فالإنسان إذا أدى فرضه فهذا بر بلا شك، وإن كان بعض البر أكمل من بعض[9]. أ. هـ قال الزرقاني - رحمه الله تعالى -: قال مطرف: فإنما كره مالك صيامها لذلك، فأما من صامها رغبةً لما جاء فيها فلا كراهة. ثم قال: وقيل لم يبلغه الحديث، أو لم يثبت عنده، أو وجد العمل على خلافه. ويحتمل أنه إنما كره وصل صومها بيوم الفطر، فلو صامها أثناء الشهر فلا كراهة. [10] قال ابن عبد البر: وأنكر ـ يعني مالكاً ـ صيام ست من شوال إنكاراً شديداً. [11]

 

المسألة الثانية: الصيام بنية القضاء وصيام ست من شوال:

هل يجوز الجمع بين قضاء رمضان وصيام ست من شوال في عمل واحد؟ أي من كان عليه قضاء ستة أيام من رمضان هل يجزئه لو صامهن ونوى معهن صيام ست من شوال؟

هذه المسألة هي المعروفة عند العلماء بمسألة التشريك[12] ـ أي الجمع بين عبادتين بنية واحدة ـ وخلاصة ما ذكروه أن التشريك يصح في الوسائل أو فيما يتداخلº كما لو اغتسل الجنب يوم الجمعة بنية رفع الجنابة وغسل الجمعة معاً، فترتفع جنابته ويحصل له ثواب غسل الجمعة. وكذلك لو كانت إحدى العبادتين مقصودة لذاتها والأخرى غير مقصودة كما لو دخل داخل المسجد فصلى سنة الفجر ونوى معها تحية المسجد، إذ الأخيرة غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود شغل المكان بالصلاة وقد حصل، بخلاف ما لو كانت العبادتان مقصودتين لذاتهما كمن أراد قضاء سنة الفجر بعد طلوع الشمس ونوى معها سنة الضحى فلا يصح إذ كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى مطلوبة لذاتها، ومثله ما يسأل عنه الناس من الجمع بين الصوم الواجب ـ أداءً أو قضاءً أو نذراً أو كفارةً ـ مع صيام مستحب كصيام ست من شوال إذ كل منهما مقصود لذاته فلا يصح التداخل والجمع بينهما بنية واحدة. ثم إن الفريضة أهم من النافلة بغير شك لقوله - تعالى -: {وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضت عليه[13]}، ولذلك قال كثير من العلماء: إن من جمع بين قضاء رمضان وصيام ست من شوال في عمل واحد فإنه يقع قضاء عن رمضان فقط. وقال بعضهم ـ ومنهم ابن حزم الظاهري ـ لا يصح عن أحدهما. قال - رحمه الله -: ومن مزج نية صيام فرض بفرض آخر أو تطوٌّع، أو فعل ذلك في صلاة أو زكاة أو حج أو عمرة أو عتق لم يُجزِه لشيء من ذلك وبطل ذلك العمل كله، صوماً كان أو صلاة أو زكاة أو حجاً أو عمرة أو عتقاً إلا مزج العمرة بالحج لمن أحرم ومعه الهدي فقط فهو حكمه اللازم له. أ. هـ[14]

هذا وفي المسألة خلاف يسير حيث ذهب بعض أهل العلم إلى صحة الجمع بين نية القضاء وصيام ست من شوالº لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى}[15] وهذا قد نواهما جميعا، ففي الشرقاوى على التحرير للشيخ زكريا الأنصاري - رحمه الله تعالى -: ولو صام فيه ـ أي شوال ـ قضاء عن رمضان أو غيره نذراً أو نفلاً آخر، حصل له ثواب تطوعها، إذ المدار على وجود الصوم في ستة أيام من شوال ـ وإن لم يعلم بها أو صامها عن أحد ـ لكن لا يحصل له الثواب الكامل المترتب على المطلوب إلا بنية صومها عن خصوص الست من شوال، ولا سيما من فاته رمضان لأنه لم يصدق أنه صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال. [16]أ. هـ وفي حاشية الخطيب على البيجرمي: قوله: (وصوم ستة من شوال) أي وجود صوم ستة أيام من شوال وإن لم يعلم، أو صامها عن نذر أو نفل آخر أو قضاء عن رمضان أَو غيره. [17]

 

المسألة الثالثة: من صام بنية نافلة شوال هل يجزئه عن قضاء ما عليه من أيام رمضان؟

لو كان على إنسان قضاء ستة أيام من رمضان مثلاً فصامهن في شوال بنية صيام الستة أيام من شوال فهل تجزئه عن القضاء؟

دلَّت النصوص على أن تعيين النية في صوم الفرض شرط في صحته، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - {من لم يُجمِعِ الصيام من الليل فلا صيام له} رواه الخمسة، قال الحافظ - رحمه الله تعالى -في بلوغ المرام: ومال النسائي والترمذي إلى ترجيح وقفه[18] قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: والظاهر أن النفي متوجِّه إلى الصحة لأنها أقرب المجازين إلى الذات[19]. أ. وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة، قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: ولا يصح صوم إلا بنية إجماعاً، فرضاً كان أو تطوعاًº لأنه عبادة محضةº فافتقر إلى النية كالصلاة، ثم إن كان فرضاً كصيام رمضان في أدائه أو قضائه، والنذر والكفارة، اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا ومالك والشافعي. أ. هـ[20] وعليه فلا بد أن يعيِّن مريدُ صيام الفرض النيةَ من الليل بأن ينوي أنه يصوم غداً قضاء أو نذراً أو كفارة، ولو صام بنية النفل فلا يجزئه عن الفرضº إذ النفل لا يقوم مقام الفرض.

 

المسألة الرابعة: هل يجوز البدء بصيام ست من شوال قبل قضاء رمضان؟

جمهور العلماء من الحنفية[21] والمالكية[22] والشافعية[23] على جواز التطوع قبل القضاء، وكذلك الإمام أحمد في رواية، قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: وهذا القول أظهر وأقرب إلى الصواب. [24] على اختلاف بينهم في كراهة ذلك أو جوازه بلا كراهة، ودليلهم أن القضاء واجب على التراخي ولا يشترط المبادرة به في أول الإمكان[25]º لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: {كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان. قال يحيى ـ الراوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ـ الشغل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -}[26] قال النووي - رحمه الله تعالى -: أي يمنعني الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وفي رواية {إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شعبان} تعني أن كل واحدة منهن كانت مهيِّأةً نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى يريده، ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، وقد يكون له حاجة فيها فتفوته عليه، وهذا من الأدب. [27]أ. هـ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء كان لعذر أو لغير عذر. أ[28]. هـ وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: القاعدة الحادية عشرة: من عليه فرض هل له أن يتنفل قبل أدائه بجنسه أم لا؟ قال: هذا نوعان: أحدهما: العبادات المحضة، فإن كانت موسعة جاز التنفل قبل أدائها كالصلاة بالاتفاق، وقبل قضائها أيضاً كقضاء رمضان على الأصح، وإن كانت مضيَّقة لم تصح على الصحيح.

هذا ما تيسر لي جمعه، أسأل الله أن ينفع به من اطلع عليه، وأن يجعله في ميزان الحسنات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وعلى آله وصحبه أجمعين

 

-------------------------------------------

[1] سورة الشرح/7

[2] الجامع لأحكام القرآن 20/108

[3] رواه مسلم برقم 1984

[4] رواه ابن ماجه برقم 1705 قال الشوكاني: وأخرجه النسائي وأحمد والدارمي والبزار.

[5] المجموع شرح المهذب 6/427

[6] سبل السلام شرح بلوغ المرام 1/582

[7] الموطأ 1/311

[8] الفروع 3/108

[9] الشرح الممتع 6/468

[10] شرح الزرقاني 2/203

[11] الكافي لابن عبد البر/129

[12] القواعد لابن رجب/ 24

[13] رواه البخاري برقم 6021

[14] المحلى 4/302

[15] رواه البخاري برقم 1 ومسلم برقم 3530

[16] الشرقاوي على التحرير 1/427

[17] حاشية البيجرمي على الخطيب 2/406، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج 2/1

[18] بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 1/562

[19] نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 4/233

[20] المغني 3/8

[21] الدر المختار 2/423

[22] مواهب الجليل 2/417

[23] تحفة الطلاب 1/430

[24] الشرح الممتع 6/448

[25] شرح النووي على صحيح مسلم 4/278

[26] رواه البخاري 1814 ومسلم 1933

[27] شرح النووي على صحيح مسلم 4/278

[28] فتح الباري 4/191

* رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply