الصوم وعقيدة المسلم


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تمتد معاني العقيدة الإسلامية في نسيج فعل المسلم، وتبدو خلفية لجميع ما يأتيه وما يدعه، والإيمان في ذاته معنى مستكن في نفس صاحبه، لا يدري صدقه, أو كذبه إلا الله تعالى، وقد عاتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسامة بن زيد عتابًا شديدًا لما قتل رجلاً نطق بالشهادة عندما تمكن منه أسامة في قتال، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ \"هل شققت عن قلبه..\"؟!

 

ولكن الإسلام لم يكتف بأن يقول إن الإيمان سر، فكل واحد يمكن أن يدعي أن في قلبه هذا السر، فيسهل تخريب المجتمع المسلم والاندساس بين صفوفه، كما تصبح شخصية المسلم شيئًا مائعًا لا يميزه عن غيره شيء ذو بال، ولذلك فرض الله جل وعلا أن تكون هناك شواهد بارزة ظاهرة لهذا الإيمان، هي ليست قاطعة بأن صاحبها مؤمن حقًا، إلا أنها شواهد مرجحة لذلك: \"إذ رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان\".

 

كما أن أداء الشعائر بصورة علنية يقدم للعالم صورة مرئية للإسلام، ويسهم في الدعوة إلى الله، ولو لم يقصد المسلم، وقد كان هذا مجلبة لخير كثير، وخاصة في مجتمعات الغرب، وكان كذلك بابًا واسعًا للتنكيل بالمسلمين، في البلاد الشيوعية السابقة خاصةً، لأنهم يعلمون سطوة المظهر الاجتماعي الأسر والصوت المرتفع لهوية المسلم، حينما يؤدي المسلمون شعائر دينهم: من صلاة وصيام وحج وذبح أضاح.

إفراد المعبود:

القاعدة العقدية الأساسيةº لأداء الشعائر في الإسلام تستند إلى كلمة الشهادة: لا إله إلا الله، فهذه الكلمة إفراد للمعبود سبحانه، الذي لن يكون المسلم عبدًا له حقًا، إلا إذا أولاه مطلق الطاعة، فلا يرد له أمرًا، ولا يتعدى له حدًا، وإن أنساه الشيطان رجع واستغفر.

 

فالله – تعالى- حينما يفترض على المسلم صيام شهر رمضان _شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه…) ـ فإن العبودية تقتضي التزام الأمر، لا رده، ولا المجادلة حوله.. وليس هذا مصادرة للعقل الإنساني، بل نحن نفكر ونفهم من الداخل، دون أن يعنى التفكير أننا نتشكك، بل نحن فقط مجرد باحثين عن حكم الله تعالى (العليم الحكيم).. وماذا يدعون إلى التشكك وقد أدركنا بالحجج القاطعة منذ البداية بأن الخطاب الذي نسمعه من القرآن إنما و كلام الجليل تعالى، الذي تعبدنا له بشعائر الصيام وغيره؟

 

حكمة المعبود:

وهناك قاعدة أخرى عامة تتصل بالشعائر جميعها, وبإيمان المسلم، وهي اتصاف أفعال الخالق تعالى كلها بالحكمة، فأعمال الشرع التي نعبد الله تعالى بها لا غموض فيها، ولا شبه بينها وبين طقوس الأديان الأخرى التي لا يدرك لها معنى، وإنما أمور الشرع الإسلامي إما أن لها حكمًا ظاهرة باهرة، وإما أنها مطلوبة لهدف عام، هو اختبار مدى طاعة العبد لربه، حتى ولو لم تبد له حكمة فيما يؤمر به وينهي عنه ذلك لأن مدى الدين أوسع من مدى العقل، وليس من الصواب أن نحبس الدين داخل معطيات العقل المحدودة.وحتى هذه العبادات التي لا تبدو لها حكم ظاهرة ومباشرة لدى الناس، قد نجد لها حكمًا عميقة لدى آخرين، وما لا نجد له حكمة مباشرة عند أحد، فلا يبدو أبدًا نوعًا من الأعمال, أو الطلاسم الغامضة التي لا تلتقي معها أي من المدارك البشرية.

 

وبالتطبيق على الصيام نجد لبعض أعماله حكمًا ظاهرةً، ولبعضها الآخر لا نجد مثل ذلك، فالصيام ـ أولاً ـ يلفت الإنسان إلى وجوه تميزه التي تسمو به عن مشابهة السوائم, والعجماوات، فلا يكون كل طلبه أن يشبع غرائزه، بل هو يقوم بمهمة الإنسان المتميزة ـ حتى عن مهمة الملائكة أنفسهم ـ فيعبد الله ويعمر أرضه، أي ينفذ أوامر الكتاب المقروء (القرآن) ويحاول النفاذ إلى قوانين الخالق في كتابه المشهود (الكون) ليستعملها فيما ينفع، وهو في كل عابد: حينما يسجد لله عابد، وحينما يزرع شجرة عابد.. حينما يسبح الله على أصابعه تسبيحةَ عابد، وحينما يمسك أنابيب الاختبار في معمله عابد.. وكذا حينما يرتل القرآن، وحينما يحرس أبواب الوطن..

 

والصوم شعيرة تؤدي في مدى زمني محدد (أيامًا معدودات): لا هي بالقصيرة فتمر بلا أثر، ولا هي بالطويلة فتمل, أو تؤلف الألف الذي يضيع أثر الفريضة الجليلة ـ وتلك حكمة عظيمة.

 

ومن حكم الحكيم سبحانه في فرض الصيام أيضًا أنه ليس امتناعًا عن أنواع معينة من الطعام ـ كما هو في بعض الأديان الأخرى ـ لأن الأطعمة يمكن أن يسد بعضها مسد بعض، فلا يؤتي الصيام أثره التربوي.

 

وكذلك ينفع الصيام الجسد، فيخرج العديد من أجهزته الحيوية عن عملها الراتب الذي تقوم به طوال العام لتواصل بعد ذلك دورها الوسائلي بيسر أكثر، فلا يصبح الجسد عبئًا يعطل الإنسان، فيحمل همومه كلما هم بعمل من أعمال الاستخلاف التي أنيطت به: العبادة بالأعمال، والعبادة بالأعمار.

 

وإذا سألنا أنفسنا: ما الحكمة في اختيار شهر رمضان بالذات لتؤدى فيه عبادة الصيام؟ ـ أتى الجواب واضحًا في قول الله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيها القرآن …) فنزول القرآن مناسبة جليلة، وليس هنالك احتفالً به أنسب من أداء شعيرة الصيام، التي تسموا بالروح والقلب، وتقلل من سلطان الجسد، وهذا هو الجو المناسب للقرآن.

 

ولكن إذا سألت: لماذا أنزل القرآن في هذا الشهر بالذات؟ لم تجد إجابة، إلا أنها مطلق إرادة الله تعالى، ولو نزل في غير شهر رمضان لبقي السؤال: لماذا نزل في هذا الشهر بالذات؟

 

أما لماذا اختير الصيام دون غيره من الشعائر الموسمية ـ الحج والزكاة ـ ليرتبط بنزول القرآن، أو ليبدو كاحتفال بنزول القرآن؟ ـ فلهذا من الحكم أعظمهاº إذ إن الزكاة عمل موسمي حولي يتفاوت موعده من مزك إلى آخر ولا يستطيعها كل أحد، وأما الحج فمرتبط باستطاعة لا تتوافر إلا في قلة، كما أنه فريضة العمر، بينما الصيام تتسع فيه دائرة الاستطاعة، وتضيق جدًا دائرة العجز عنه، كما أنه عمل موسمي يناسب أن يحتفل المسلمون من خلاله بالقرآن ونزوله.

 

زادهم إيمانًا:

إن الإيمان بمعنى التصديق بعقائد معينة ـ في ذاته ـ لا يزيد ولا ينقص، ولكن الذي يزيد وينقص هو الثقة المحيطة بهذا التصديق، أو درجة اليقين التي تميز تصديقًا عن آخر، فترى تصديق البعض بعقائد الدين كالرماد الذي لا يصبر على أي ريح، وترى تصديق آخرين تسليمًا بغير دليل (العامة) وتتسامى المقامات حتى تجد تصديقًا صاحبة كالمعاين لما في الغيب، ولذلك قال أحد السلف: \"لو كشف لي الغيب ما ازددت يقينًا\" ويسبق ذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح عن الإحسان: \" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك\".

 

وزيادة الثقة فيما يصدق به المؤمن من العقائد: لها علاقة مباشرة بأعمال الإسلام وشعائره، وعلاقة تبادلية تكتسب فيها العبادات وذاقها الخاص من قوة الإيمان، ويزداد المؤمن يقينًا, وثقة بما يؤمن به من خلال حفظه, ومحافظته على شعائر الإسلام، وهنا لا ينفك الإيمان عن العمل، يقول المازني صاحب الشافعي: \"الإيمان قول وعمل، وهما شيئان ونظامان وقرينان، لا يفرق بينهما: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان\".

 

والعلاقة التبادلية بين الصيام والإيمان ـ زيادة ونقصًا فيهما ـ تبدو في المقارنة بين صيام إنسان وآخر، فصاحب الإيمان القوى أرعى لحرمة الصيام، وأكثر صونًا لمقامه، كما أن الصيام يربي النفس على (المراقبة) وهي معنى من معاني العقيدة: حينما يرتفع صاحبها في مقامات التصديق والإيمان، فيرقى إلى درجة \"الإحسان\" كما أن الصوم فيه تضحية بترك المطعم, والمشرب وشهوة الفرج،  وحرص أكثر على عدم مخالفة أوامر الله تعالى, وكما ضحيت من أجل أحد, زدت به صلة, وارتباطًا، والصائم يضحي من أجل مولاه، ولا يشعر في ذلك بامتنان على ربه، بل يقوى لديه الإحساس، بنعم المنعم سبحانه وتعالى.

 

وللصيام بعض الخصوصيات في الإسلام، جاء كثير منها في السنة فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه\".

 

وفي البخاري عن أبي هريرة ـ أيضًا ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: \"الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله, أو شاتمه, فليقل: إني صائم ـ مرتين ـ والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه, وشرابه من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها\".

 

يقول القرطبي عن حديث: \" إلا الصوم فإنه لي، إن كل أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصوم فإنه مناسب لصفة من صفات الله\" وكأن الصائم يتقرب إلى الله بأمر هو متعلق بصفة من صفات الله لذلك نسب الله الصوم إلى نفسه, ونسب جزاء الصوم إليه - سبحانه وتعالى-.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply