ذكريات طنطاوية (2)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أذن المغرب، فأبيح لنا ما كان محرماً علينا، كنا نرى الطعام الشهي أمامنا ونحن نشتهيه، والشراب البارد بين أيدينا ونحن نتمناه ونرغب فيه، فلا نمد إليه يداً، ونكف النفس عنه، ومناها الوصول إليه، لا يمنعنا منه أحد، ولا يرانا لو أصبنا منه أحد، ولكنه خوف الله... لذلك قال الله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي). إن كل العبادات لله فما بال الصوم؟ ولماذا خصه الله بالنص على أنه له؟ لست أدري، ولكني أظن، الله أعلم، أن العبادات عمل، فأنت تستطيع أن تعملها رياء، أما الصوم فهو\"ترك عمل\"فلا يمكن أن يدخله الرياء، إلا إن جاء من يلازمك لزوم الظل فيكون معك في كل لحظة، وفي كل مكان وهذا ما لا يدخل في الإمكان، بل إن من الممكن أن يشرب العطشان من\"حنفية\"المغسلة في المرحاض، فيطفئ نار العطش في جوفه ولا يراه أحد لأنه لا يدخل أحد معه المرحاض، ويمكن أن يبتلع الماء و يتمضمض عند الوضوء، فلا يحس به أحد، ولو كان الناس حوله ينظرون إليه، لذلك كان الصيام الحق سالماً من رياء الناس، فهل هذا هو الجواب أم يقصر ذهني عن إدراك الجواب؟

 

***

 

كان يحمل الماء إلى البيوت في مكة وجدة، السقاؤون، وقد بقي ذلك في البيوت القائمة على الجبال أمامنا إلى عهد قريب، أراهم من شباك داري في أجياد، يحمل السقاء الصفيحتين ممتلئتين ويرجع بهما فارغتين، من الصباح إلى المساء، فماذا تكون حاله لو أرحته النهار كله، ثم جمعت الصفائح كلها، فكلفته أن يصعد بها الجبل مرة واحدة؟ ألا يعجز عنها ويسقط تحتها؟

هذا الذي يصنعه أكثرنا في شهر الصيام، نريح المعدة من الفجر إلى المغرب فإذا أذن المغرب شمرنا وهجمنا، نشرب ونشرب، ونأكل ونأكل، نجمع الحار والبارد، والحلو والحامض، وكل مشوي ومقلي ومسلوق، كمن يضع في الكيس بطيخاً، ثم يضع خلال حبات البطيخ تفاحاً، ثم يملأ ما بين التفاح لوزاً، ثم يفرغ على اللوز دقيقاً، حتى لا يدع في الكيس ممراً يمر منه الهواء.

هذا مثال ما نضعه على مائدة الإفطار، فيتحول ذلك شحماً نحمله ونمشي به فترى ناساً منا، (وأنا مع الأسف من هؤلاء الناس) لهم بطون حبالى في الشهر الخامس عشر! غير أن الحبلى تلد فتضع حملها، ويخف عنها ثقلها، والحبالى من الرجال لا يلدون ولا تلقى عنهم أثقالهم أبداً..

 

وهنا تظهر حكمة التراويح التي هي رياضة للجسد، وراحة للروح، ومدعاة للأجر.

ولن أجدد المعركة التي كانت يوماً في دمشق، معركة بالألسنة على المنابر، وبالأقلام في الصحف، وبالأيدي حيناً في المساجد، معركة التراويح هل هي عشرون ركعة كما يصليها المسلمون من قديم الزمان، أم هي ثماني ركعات فقط كما صح في الحديث، ولقد كنت يومئذ قاضي دمشق، وخطيب مسجد جامعتها، فقلت للناس: إن الله لم يوجب التروايح فمن صلاها ثماني فقد أحسن، ومن صلاها عشرين فما أساء، ولا ارتكب محرماً، ولا حمل إثماً، إنما يجترح الإثم من يفرق جماعة المسلمين بلا سبب، ويشغلهم عن معركتهم الأصلية، معركة الكفر والإيمان، بمعارك جانبية ما لها لزوم، يفل بها بأسهم، ويذهب بها ريحهم، ولا يصنع هذا إلا عدو للإسلام متعمد الضرر، أو ساذج قصير النظر.

 

***

 

وكان أكثر أئمة المساجد في دمشق ينقرون التراويح نقراً، يتبارون فيها سرعة، يقرؤون الفاتحة بنفس واحد، ثم يتلون (الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان) ويكبرون ويركعون، ومثل ذلك في الركعات كلها، إلا نفراً منهم كانوا يصلونها على مهل، ويناجون الله لا يعدون الركعات، ومنهم من كان يقرأ كل ليلة جزءاً من القرآن يرتله ترتيلاً، وأشهر هؤلاء إمام المشهد الحسيني في جامع بني أمية وهو فاضل من آل الحمزاوي، شيخ صالح، وكان يقصده الناس من أطراف دمشق ليصلوا معه. أما التراويح في الأموي فكانت ونحن صغار عجباً من العجب: أربعة أئمة من أتباع المذاهب الأربعة يصلون في وقت واحد، ووراء كل إمام مبلغ من أصحاب الحناجر القوية والأصوات الندية، فتختلط أصواتهم، فيسمع المقتدي بتكبيرة الانتقال من غير إمامه فيسجد وإمامه لا يزال، حتى جاء مدير الأوقاف نسيت الآن أسمه، ولكن الله لا ينسى له فعله، فوحد الجماعات، وجعل الإمامة كل ليلة لإمام، وهذا الذي لا يرضى غيره الإسلام.

وأنت إذا دخلت الأموي من بابه الشرقي، وهو أقدم الأبواب، وجدت المحراب المالكي، وهو المحراب الأصلي للمسجد، وكان يسمى محراب الصحابة، وكان الجامع قبل أن يوسعه الوليد بن عبد الملك ويبنيه البناء الذي كان إحدى العجائب في سالف العصور. كان الجامع بمقدار النصف مما تراه اليوم ولم يكن له إلا هذا المحراب، فلما بناه الوليد زاد المحراب الكبير وهو إلى جنب المقصورة في نحو منتصف جدار القبلة. وفي سنة 617هـ نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي، وقد عارض بعض الناس في نصبه ولكن ركن الدين المعظمي، ناصر الحنابلة فأقيم، وأمَّ الناس فيه الموفق بن قدامة المقدسي مؤلف المغني والكافي، ثم رفع في حدود سنة 730هـ وعوضوا عنه بالمحراب الغربي، جنب باب الزيادة، وهو الباقي إلى اليوم، أما محراب الشافعية فأقيم سنة 728 بأمر تنكز باني المسجد المعروف في دمشق.

فصارت المحاريب أربعة: محراب الخطيب وهو الكبير وإلى جنبه المنبر وهو للحنفية، ومحراب الشافعية وهو الذي يليه من جهة الغرب، ومحراب المالكية وهو في أقصى الشرق من جدار القبلة، ومحراب الحنابلة وهو في أقصى الغرب.

وكانوا قبل سنة 694 يصلون الفروض الخمسة في وقت واحد، ثم رسم للحنابلة أن يصلوا قبل الإمام الكبير، وفي سنة 819 انتقل الإمام الأول إلى محراب الشافيعة، ثم استقرت الحال على أن أول من يصلي إمام الكلاسة وهي مدرسة شمالي الأموي، ملحقة به، وهي إلى جنب مدفن صلاح الدين الأيوبي، أو لعل صلاح الدين دفن فيها. يعرف ذلك أخونا الدكتور صلاح الدين المنجد، فهو والشيخ دهمان من أعرف أهل دمشق بدمشق، ثم إمام مشهد الحسين، والمشاهد في عرف أهل الشام مساجد صغيرة ملحقة بالجامع وبابها إليه وهي جزء منه يضمها سوره، والوضع اليوم على أن يصلي إمام الشافعية أولاً ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي، وتركت الجماعات التي كانت في المشاهد(1).

وهذا كله مخالف للسنة، ومفرق للجماعة، ومن المحدثات في الإسلام، والصحيح أن المساجد التي لها إمام راتب لا يجوز أن تتكرر فيها الجماعات، وهذا مذهب الحنفية(2)، بل إن المحاريب نفسها محدثة لم تكن في القرن الأول وهو خير القرون.

 

***

 

وإذا أنا خصصت الجامع الأموي بطول الكلام عنه، لأنه أقدم مساجد الإسلام صارع النار والدمار، وثبت على الأعصار والأدهار، وتكسرت على جدرانه موجهات الزمان وهو قائم، كما تتكسر أمواج البحر على أقدام الصخرة الراسية عند الشاطئ.

ذهبت أمية بسلطانها ومالها، ولبث وحده يخلد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال وسلطان، وكان معبداً من أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوم كانوا قبلهم، نسي التاريخ خبرهم، ثم صار كنيسة للمسيح، ثم انتهى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.. وعلى أخيه المسيح بن مريم، عبد الله ورسوله، فبقي لأتباع محمد إلى يوم القيامة.

إن ذكرياتي عن رمضان مستقرها الجامع الأموي، وأبناؤه وأحفاده: مساجد دمشق. وأين تكون ذكريات رمضان إن لم تكن في المساجد؟ في حلقات العلم والوعظ في المساجد، وفي صفوف المصلين التي تملأ في رمضان المساجد؟ على أن في المساجد في رمضان ما يأباه الذوق السليم، والخلق القويم، هو النوم فيها بين الصلوات، فهل أنشئت المساجد لترى الناس نائمين فيها، مضطجعين بالطول والعرض، لا يحترسون من أن يؤذوا الناس، أنا لا أنكر أن الاعتكاف عمل مشروع، وسنة متبعة، ولكن هذا الذي يصنعه الناس ليس من الاعتكاف المشروع.

 

***

 

إن ذكرياتي عن الأموي لا أكاد أحصيها، منها ما له نظير في غيره، ومنها ما لا أعرفه إلا فيه، فمن أقدم الذكريات التي نقشت صورتها في نفسي من عهد الصغر، ثريا ضخمة جداً على هيئة قبة قطرها نحو أربعة أمتار، ليست من البلور (أي الكريستال)، ولا من الصفر أو النحاس، ولكنها قضبان متشابكة من الحديد، إذا رأيتها اليوم رأيت فيها مئات ومئات من المصابيح الكهربائية، وهذه حالها اليوم، أما حالها لما كنت في الابتدائية، قبل خمس وستين سنة فقد كانت شيئاً آخر، شيئاً يوصف ولا يرى لأنه فقد ولم يعد يوجد، كان مكان المصابيح الكهربائية سرج: كؤوس صغيرة جداً كالتي نشرب فيها الشاي، تملأ بالزيت ويوضع فيه الفتيل، وهو خيط غليظ من القطن المفتول، ولذلك سمي بالفتيل، لأن (فعيل) تأتي بمعنى (فاعل) ومعنى (مفعول).

والصورة الراسخة في الذاكرة هي صورة هذه الثريا، التي تعدل بحجمها قبة مسجد، المربوطة بحبل معلق ببكرة، ينزلونها حتى تستقر على الأرض بعد أن يبسطوا تحتها بساطاً مشمعاً لئلاً يوسخ الزيت السجاد، ثم يلتفون حولها ويشعلون الفتيل في السراج حتى تضيء السرج كلها، ثم يشدون الحبل فيرفعونها، فتراها من تحتها والسراج ترتجف شعلاتها وتتراقص مثل النجوم المتلألئة، ففي السماء الصافية، في الليلة الساكنة. ويستغرق إيقاد هذا السرج الوقت كله من المغرب إلى العشاء.

 

***

 

نشأت في دمشق، وفي دمشق عرفت رمضان، وأحببت رمضان، ثم كتب الله لي (أو كتب عليّ) أن أشرق في الأرض وأرغب، مشيت إلى أقصى الجنوب الشرقي من آسيا إلى مدينة سورابايا، وإلى فولندام في أقصى الشمال من هولندا(3)، وأن أرى رمضان حيثما سرت، لا في سنة واحدة، بل في سنوات كثيرات وأزمنة متباعدات.

في مصر سنة 1928م وأنا طالب في دار العلوم ومحرر في\"الفتح\"وفي\"الزهراء\". لما كان سكان مصر ثلث سكانها اليوم، وكانت القاهرة بربع حجم القاهرة، لما كانت القاهرة عاصمة العرب، شوارعها أنظف الشوارع، وميادينها أجمل الميادين، ومواصلاتها أسهل وأسرع المواصلات، والجامعة الوحيدة في بلاد العرب كلها كانت فيها، ولم أعد جامعتي بيروت الأمريكية واليسوعية لأنهما ليستا لنا، وكان الأزهر\"جامعاً \"للطلاب المسلمين.

وفيها حديقة الحيوان التي لا تفوقها جمالاً وسعة وعظمة إلا ثلاث حدائق في العالم، وفيها... وفيها.. فما كتبت اليوم لأعد الذي كان فيها.

وأن أرى رمضان في العراق لما كنت مدرساً فيه، تنقلت بين بغداد والبصرة وكركوك، أمضيت في الأعظمية سنة قلما استراحت روحي مثل راحتها فيها، كنت أدرس في الثانوية المركزية، وأحاضر في دار المعلمين العليا، وكنت حلقة من النحاس في سلسلة حلقاتها من خالص الذهب/ كان سلفي الأستاذان أحمد حسن الزيات ومحمد بهجة الأثري، وخلفي الأستاذ زكي مبارك، هم الذهب وأنا حلقة النحاس، وكنت أدرس في مدرسة الإمام الأعظم أبي حنيفة الذي تشرفت الأعظمية بانتسابها إليه، وكنت أنام في المدرسة وهي متصلة بالمسجد، فكان بين مضجعي المؤقت في الكلية ومضجع جسده في مدفنه ثلاثون متراً. يا سقى الله أيامي في أعظمية بغداد وأهلها. كانوا يقولون لنا:\"جايين تقشمرونا تأخذون فلوسنا وتنسونا\"ما قال ذلك خاصتهم وفضلاؤهم بل بعض العامة منهم، فها هي ذي سبع وأربعون سنة قد مرت، فهل رأيتموني يا أهل بغداد قد نسيتكم؟ هل كتب أحد عن بغداد بعد زكي مبارك، أكثر مما كتبت أنا؟ أولم أؤلف كتاباً عن بغداد حالات عواصف السياسة، وغبار تلك العواصف، بينه وبين أهل بغداد، فلم يطلع عليه إلا قليل منهم؟ وما لي بالسياسة من أرب وما كنت يوماً من أربابها ولا من أحبابها، ولكن كان ذنبي فيه أن وصفت ما رأيت، فمدحت ناساً صار مديحهم يؤذي من نـزل بعدهم منازلهم، وحل محلهم، وكذلك الدنيا: مقاعد قطار، يصعد واحد وينزل واحد.

ورأيت رمضان في البصرة ومتعت البصرة بمرأي شط العرب، وملايين من أشرف العرائس يستحممن في مائه.. عرائس النخيل في الأبلة التي هي اليوم أبو الخصيب. ألم يشهد لهن شيخ المعرة حين قال:

 

وردنا ماء دجـلة خـــــير ماء *** وزرنا أشرف الشجر النخيلا

 

وفي كركوك، لما كانت قرية أو كالقرية، وكنا نستضيء في لياليها بشمعات ثلاث لا تنطفئ أبداً، لا في الليل ولا في النهار، ولا تحت المطر، ذلك لأننا لم نكن نعرف أن الغاز الطبيعي له ثمن وأنه يمكن أن يباع، فكنا نحرقه لنخلص منه، يوم لم يكن قد ظهر لنا النفط في غير العراق.

ورأيت رمضان في بيروت سنة 1937م، وأنا مدرس في الكلية الشرعية التي غدت اليوم أزهر لبنان، وكان من تلاميذها رجال بلغوا المعالي منهم العالم المجاهد المفتي الشيخ حسن خالد. ورأيت رمضان في باكستان، وفي الهند، وفي أندونيسيا لما رحلت إليها مع بركة العصر الشيخ أمجد الزهاوي، وقد كتبت عنه بإذنه ورضاه في كتابي\"في أندونيسيا\"، وكانت رحلة لخدمة فلسطين، والتعرف بقضية فلسطين، ما قبضنا فيها مالاً ولا تسلمنا مما يجمعون قرشاً، بل أعطيناهم عنوان المؤتمر الإسلامي، وقلنا لهم: أرسلوا إليهم ما جادت أيديكم به.

قطعت حياتي قطعاً وتركت في كل من هذه البلاد فلذة منها، لي في كل واحدة ذكرى وذكريات لو جمعتها ودونتها لجاء منها أدب أخلفه بعدي، سميراً للأدباء في ليالي الوحدة، اتخذ منه أصدقاء يعرفونني من بعد موتي وأنا ما عرفتهم، ولكن ما جدوى هذا كله؟ هذا كله أبقية هنا، الأدب والشهرة والمجد، إن الذي يجدي علي وينفعني هو الذي أحمله للرحلة الطويلة التي لا محيص عنها، ولا رجعة منها، فعلام الأسى على زهرات لا تعيش إلا يوماً واحداً ثم تذبل وتموت.

إن أدون هنا ذكرياتي، بل الأقل مما بقي في ذهني من ذكريات. والفضل فيها بعد الله، لولدي الأستاذ زهير الأيوبي و\"المسلمون\"، ثم لـ\"الشرق الأوسط\"، أما أكثر الذكريات فقد سقط مني في مسالك الحياة، أو امتدت إليه فسرقته أيدي النسيان.

وجدت لرمضان في هذه البلاد كلها حقيقة واحدة، ولكن صورها مختلفة، ومن أسرار خلق الله أنه جعل التعدد في الوحدة، والوحدة في التعدد، فهندسة الوجود كلها واحدة: عينان تحت حاجبين، وجبين فوق العينين، وجعل فماً وشفتين، ولكنه لم يجعل فيها وجهين متماثلين، حتى التوأمين بينهما - لو دققت النظر- فروق، وإلا لما عرفت زوجة أحدهما زوجها.

والأحياء كلها على تعدد أنواعها، هندسة بنائها، تكاد تكون واحدة: العمود الفقري، وقفص الصدر والأطراف حتى عدد فقرات العنق في الزرافة، وفي الحيوان الذي لا يبدو له رقبة، حتى أعضاء التناسل في الذكر والأنثى هندستها واحدة على تعدد أنواع الحيوان.

أليس في هذا دليل من آلاف الأدلة على أن الصانع واحد؟ لو زرت معرض صور فيه مئات من اللوحات، نوع ورقها، وأصباغها، وطريقة ضرب الريشة فيها، كل ذلك واحد، ألا تفهم من ذلك أن مصورها واحد؟

ثم إن اختلاف صور رمضان في تلك البلدان جاء مما ابتدع الناس وأحدثوه، فالدين واحد، والصورة الأصلية، صورة مجتمع الصحابة الذي كان يشرف عليه ويهديه سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، لو بقي المسلمون عليها لما اختلفوا ولكنهم ابتدعوا بدعاً ألصقوها بالدين، وجاء العلماء فكشفوا تلك البدع، وهذا معنى الحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها دينها)، يجدده كما يغسل المرء ثوبه من الأوساخ فيعود جديداً كيوم اشتراه، فالتجديد المراد هو هذا، لا أن يأتي بدين جديد غير ما جاء به رسول الله.

وكان أصعب رمضان مرّ عليّ هو الذي قضيته في جاكرتنا، أنزل وحدي في فندق من أعظم ما رأيت من الفنادق، لي وحدي جناح أكبر من بيتي في الشام، ولكني كنت فيه في سجن، كان حاصره (زنزانه) ولكنها واسعة، أرى بعيني ولا أتكلم بفمي، أبصر من حولي الهولنديين من بقي منهم سنة 1954م، أكثرهم مع أسرهم وأولادهم، وبيني وبين أولادي ربع محيط الأرض، وجاء العيد والناس يفرحون بالعيد، وأنا أنشد مع المتنبي ما قال في العيد، وخرجت إلى ساحة مرديكا (ومعناها ساحة الاستقلال) وبنفسي من الضيق ما لو وزع على ذلك الحشد الذي لا يحصى أفراده عد لغمهم كلهم، الألعاب والباعة والأطفال، دنيا من الناس، يموج بعضهم في بعض، وأنا في دنيا من همي وغمي وضيق صدري، لا أجد من أكلمه أو أفهم عنه أو يفهم عني، وما العيد إن لم يكن معه الأنس ببلدك وأهلك وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن فيه للنفس متعة، وللقلب اطمئنان؟ إنه لا يبقى منه إلا رقم على صفحة التقويم.

وجدت ساحة كمبير كأن قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة في ليلة واحدة، لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت، كان نساء جاوة الحلوات (غير الجميلات) يختلن في الثياب العجيبة الملونة، بمثل ألوان زهر الروض، وكان لهن أفانين من التسليات والألاعيب، ولكني كنت عن ذلك كله في غفلة، كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد، بعيد عن المكان والزمان، إنه يهيم في أودية الماضي، يسرح في تلك السفوح الحبيبة من قاسيون، حتى بلغت حديقة لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء، لما يبدو عليهم من آثار السرف والترف، وكان على باب الحديقة عجوز قد أمال ظهرها ثقل ما حملت من كثرة السنين وفي يديها طفلة كأنها الفلة المتفتحة جمالاً وطهراً، في ثياب قديمة لكنها نظيفة... وكانت تنظر إلى هذا العالم كأنه غريب عنها.

.... وكان الأولاد يشترون أكلف\"الشوكلاته\"من بياع هناك، وكانت تنظر إليهم وهم يقشرون أوراقها ويأكلونها بعيون يلمع فيها بريق الرغبة المحرقة، يعقبها خمود اليأس المرير، ثم غلبها الطمع فلكزت خصر جدتها العجوز بمرفقها حتى إذا التفتت إليها، أشارت بغمزة من عينها، وحركة سريعة من يدها إلى الشوكلاتة فتبسمت الجدة بعينيها، ولكن مقلتيها كأنتا تبكيان بلا دموع، وقلبت كفيها إشارة العجز والفقر، فأشتريت لها أكبر كف من الشكولاته وذهبت فدفعته إليها، فنظرت إلي نظرة المشدوه، ثم نظرت إلى جدتها كأنها تستنجد بها تسألها، فأشرق وجه العجوز بابتسامة كأنها إطلالة الشمس في يوم كثيف الغمام، وقالت بلسانها كلاماً لم أفهم منه إلا\"تريما كاسي\"أي شكراً\"بنجاوم عمر\"أي الله يطول عمرك، وأسرعت البنت تجر جدتها تسرع بها، كأنها قطة أعطيتها قطعة لحم فهي تسرع بها، كأنما تخاف أن أندم فألحقها لاستردها منها (4).

\"لم أخسر أكثر من أجرة سيارة أركبها في نزهة أريدها، ولكني ربحت من اللذة ما لا أجده في مئة نزهة. أحسست أن ما كان في قلبي من الضيق قد انفرج، وما كنت فيه من الكرب قد زال، وأنه رفع المنظار الأسود عن عيني فرأيت بهاء الكون، وبياض النهار ووجدت العيد\"(5).

فيا أيها القراء\"ليست السعادة بالأموال ولا بالقصور، ولا بالخدم والحشم، ولكن بسعادة القلب وإن أقرب طريق إلى سعادة القلب أن تدخل السعادة على قلوب الناس وإن أكبر اللذاذات هي لذة الإحسان\"(6).

فمن أراد منكم أن يجد العيد فلن يجده في سفره إلى لندن ولا باريس، ولا بانكوك ولا نيس، بل يجده على وجوه من توليهم الإحسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من مقدمة كتابي\"الجامع الأموي\".

(2)انظر: حاشية ابن عابدين، الجزء الأول، صفحة 265، صفحة 371 من طبعة بولاق.

(3) كلمة دام في امستردام ونوتردام وغيرهما معناها سد، أن هولندا المعروفة بالأراضي المنخفضة أرض مسروقة من البحر تختبئ وراء السدود.

(4) مقاطع من كتابي\"في أندونيسيا\".

(5) مقاطع من كتابي\"في أندونيسيا\"

(6) مقاطع من كتابي\"في أندونيسيا\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply