شكوى رمضانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

ها هي هذه الأيام وقد أقبل علينا فيها شهر الصيام، هذا هو موسم التقوى الذي جعله الله - سبحانه و- تعالى - لأمة الإسلام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، هذه ليالي الإيمان والذكر والبر والإحسان، هذه أوقات الطاعة والمنافسة في الخيرات والإنفاق في سبيل الله..

 

هذا موسم التطهر والمغفرة من الذنوب والخطايا، هذه أيام وليال مباركات وموسم عظيم الخيرات، هذه شعيرة وفريضة مباركة جعلها الله لعباده المؤمنين رحمة منه وتفضلاً، تجديداً لإيمانهم، وتقوية لعزائمهم، وتربية لنفوسهم، وصياغة لعقولهم، وتذكيراً بأمتهم، وتأكيداًَ على وحدتهم، ومنافع أخرى نعلم منها ما نعلم ويخفى علينا ما يخفى.

 

ورغم هذا الخير العميم الذي ساقه الله إلينا إلا أننا نرى صوراً من التقصير، وألواناً من المخالفات، ونرى نماذج من التكاسل والتخلف عما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في هذه المواسم المباركة، ولذلك لا يخفى على المسلم الفرق الكبير والبون الشاسع بين ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام وسلف الأمة - رضوان الله عليهم - في اغتنام الأوقات، و المسارعة إلى الخيرات، وبين ما حل بالأمة من ضعف الإيمان، ومن تقصير في الطاعات، ومن إغراق في الشهوات ومن تعد على الحرمات.

وهذا هو رمضان يشكو حاله ها هو رمضان يعاتب المقصرين من أبناء هذه الأمة، ولذلك وقفاتنا اليوم في أول يوم من أيام هذا الشهر وبداياته قبل أن يمضي شيئاً فشيئاً فينتصف، ثم يتحول إلى نصفه الثاني ويوشك أن ينقضي، فمن غانم ومن محروم ومن مغفور له ومن آثم مأزور، ولذلك صور هذا التقصير وهذه الشكوى كثيرة جداً:

 

صور التقصير

أولاً: عدم القيام بالفريضة وعدم الأداء للصيام والفطر في شهر رمضان

وقد يقول قائل: وهل هذا موجود في أمة الإسلام؟ بل قد يتساءل بصورة أخص: هل هذا موجود في المجتمعات التي تعيش في جزيرة العرب قرب الحرمين الشريفين؟ نقول بكل أسى وأسف: إنها ظاهرة موجودة، وإنها تزيد عاماً بعد عام، رغم كثرة الخير وإقبال المصلين ودعاء الداعين وقنوت الساجدين، نرى ذلك - وللأسف الشديد - في بعض الشباب الذين غرقوا في الشهوات وأعرضوا عن أمر الله - عز وجل -.

إن ترك فريضة من الفرائض وركن من الأركان هو كبيرة من أعظم الكبائر، وإن المستحل لهذا الأمر يعتبر كافراً خارجاً عن ملة الإسلام، وإن المتهاون المستهتر يكون على خطر كبير أن يخرج من الدين أيضاً لأنه يستهزأ بشرائع الله ولا يأبه بحكم الله ولا يكترث بما شرعه الله وأوجبه على العباد، ولذلك ليكن أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا موضع النقد والزجر الشديد وموضع الوعظ والتذكير ثم التنبيه والتحذير، ثم يكن بعد ذلك أخذهم بجريرة فعلهم حتى لا يسهلوا للناس ترك الطاعات وحتى لا يجرئهم على الاعتداء على أوامر الله - سبحانه و تعالى -.

 

ثانياً: عدم شهود الجماعات وأداء الصلوات في الأوقات

ولئن كانت هذه الظاهرة ليست منتشرة انتشاراً كبيراً بحمد الله - عز وجل - فإن الظواهر الأخرى التي يشكوا منها رمضان، والتي يعتب فيها على أهل البر والإيمان هي ذلك التخلف، فبعد المعرضين يأتي المتخلفين، الذين يتخلفون عن العبادات وعن شهود الجماعات ويقصرون في الطاعات، فتجد كثيرين ممن يصومون لا يحرصون على أداء الصلوات في الجماعات ولا أدائها في الأوقات، فتجد هؤلاء قد جعلوا الصيام كأنه حمل ثقيل فإذا بهم يجدوا أنفسهم قد عجزوا معه عن أن يقوموا بفعل من أفعال الخيرات وأن يغتنموا هذه الأوقات.

 

ولذلك نجد أيضاً بعض من يصومون ولا يصلون، وما فقهوا أنه لا ثمرة للصيام إلا بالصلاة وأنه لا تمام ولا كمال لأداء هذه الفريضة إلا مع ما أوجب الله من سائر الفرائض، بل لا تتم إلا بما ندب الله إليه من كثير من الطاعات والمندوبات التي يكمل بها الإيمان ويعظم بها أثر صيام رمضان، ولذلك هذه الجماعات التي تزيد - بحمد الله - في رمضان، نعلم كذلك أن هناك من يفرض ومن لا يشهد المساجد إلا في الجمع مع أن هذا الأمر قد ذكر أهل العلم وجوبه عند أكثرهم وأن الجماعة واجبة وأنه لا عذر للمتخلف عنها وأنه ناقص في أجره بل ربما يلحقه الإثم إذا لم يلحق جماعة المسلمين ولم يشهد مساجدهم ولم يغشهم في صلواتهم ودعائهم وتبتلهم لله رب العالمين.

 

وفي الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤكد وجوب الجماعة ولزومها: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية).

فإذا كانوا الثلاثة في بادية وهم متفرقون لزمهم أن يجتمعوا وأن يصلوا في الله في الجماعة فكيف بالمدن والحواضر التي ملأت بحمد الله بالمساجد، والتي يُؤذّن فيها كل يوم خمس مرات ويدعى فيها إلى الصلاة ويندب فيها إلى الفلاح.

ومع ذلك يتخلف المتخلفون ويقصر المقصرون وكنا من قبل هذا الشهر لا نرى وجوهاً كثيرة ترتاد المساجد ثم نراها في أول الشهر، وتتناقص - للأسف الشديد - بعد مرور أيامه وبعد تتابع لياليه، ثم لا تلبث إلا من رحم الله أن تنقص بعد انقضاء الشهر وتترك المساجد خاوية على عروشها تشكوا إلى الله قلة عُمّارها، وتندب ذهاب ساجديها وتالي القرآن فيها، فما بالكم يا عباد الله تتركون الخير الذي ساقه الله إليكم، والأماكن التي جعلها مواضع لبيوته - عز وجل - وجعل فيها مضاعفة الحسنات ونزول الرحمات، وجعل فيها دعاء الملائكة وتتابعهم من الأرض إلى أعلى السماوات.

 

فما بال العبد لا يفطن إلى خيره، ولا يفكر في عاجل أمره وآجله! ما بالنا وقد زهدنا فيما عند الله من الثواب! ما بالنا وقد استغنينا عما ساقه الله لنا من الخيرات، ونحن نعلم أنا قد حملنا فوق ظهورنا أوزاراً مع أوزار كثيرة لا يعلمها إلا الله!.

والنبي - عليه الصلاة والسلام - والصحابة والسلف - رضوان الله عليهم - مع كونهم أبعد الناس عن المعاصي كانوا أسبق الناس إلى الطاعات، وكانوا أكثر الناس منافسة في الخيرات وأن أحدهم ربما يمرض المرض الشديد فيؤتي به وهو يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف لئلا تفوته الجماعة رغم أنه قد عذر بعذر من الله - عز وجل - إلا أنه لا يجد في هذا العذر فرصة سانحة ليتخلف عن هذا الأمر العظيم وعن هذا الأجر الكبير.

 

ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً خطورة هذه الظاهرة وهي الاكتفاء بالصلوات في البيوت دون شهود الجماعات في المساجد، قال - عليه الصلاة والسلام - كما صح في مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصليها هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)، فهل نحن ندعي حب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أم أننا نحبه حقيقة.

 

لو كان حبك صادقاً لأطعته **** إن المحب لمن يحب مطيع

 

فهو النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي قد اشتد غضبه وتعاظم غيظه وتزايد زجره وتهديده وتوعده ووعيده لمن تخلف عن الجماعة، كما قال فيما صح عنه - عليه الصلاة والسلام -: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة في المساجد فأحرق عليهم بيوتهم)، فهل نحن نريد أن نكون ممن همَّ النبي أن يحرق بيوتهم من شدة إنكاره عليهم.

 

ورغم أننا في رمضان كذلك يشكو من هؤلاء الذين يتخلفون عن الجماعات حتى في أعظم موسم من مواسم الخير والطاعات وحسبنا أن بعضاً منا يستسلم لنومه ويركن لراحته ويفوت صلاة أو اثنتين كما يفوت الناس الفجر في غير رمضانº فإننا نجد كثيرين يفوتون الظهر والعصر في رمضان وحسبنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: (من ترك صلاة العصر عمداً فقد حبط عمله).

وما أخبر عنه - عليه الصلاة والسلام - أن من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله، أي كالذي ينقلب إلى بيته فيجد أهله قد ماتوا عن بكرة أبيهم، ويجد ماله قد تلف فلم يبق منه شيء، فما أعظم خسارته! وخسارة هذا الذي ضيع الصلاة أعظم، ولذلك يشكو رمضان من هؤلاء المتخلفين المقصرين.

 

ثالثاً: التبرم والكسل

ويشكو ثالثة من المتبرمين الكسالى الذين لا يجدون في هذا الشهر إلا صورة من الإرهاق والتعب،ويصورون رمضان على أنه معول من معاول هدم القوة والنشاط وإضعاف العمل والإنتاج، فلا تجدهم إلا نائمين، ولا تراهم إلا متكاسلين، ولا تسمع منهم إلا كلام المتبرمين، ولا شك أن الذي يعمل الطاعة من غير نية خالصة ومن غير محبة صادقة لن يأتي بها على تمامها، وأنه ينقص عليه من أجرها، فالذي يصوم وهو يستثقل الصوم ويطلب الأيام والليالي ليخرج منه وليبعد عنه وليتخلص منه إذا جاز التعبيرº فإنه ما أدرك العبادة حق إدراكها ولا عرفها حق معرفتها ولا ذاق لذتها ولا شعر بحلاوتها ولا نال عظيم أجرها.

 

ولذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض هؤلاء عندما قال: (كم من صائم ليس له من صيام إلا الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب)º لأنه لم يخلص لله ولأنه ما قام إلى هذا العمل إلا وهو متبرم متضايق، نفسه حرجة وصدره ضيق وقلبه نافر ونفسه غير قابلة فما كأنه يؤدي عملاً إلا وهو مكره، وقد وصف الله أهل النفاق عياذاً بالله فقال - جل وعلا -: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا).

 

فإلى الذين يجعلون هذا الشهر شهر الصوم شهر الرخاوة والكسل نقول: قد جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في رمضان فكان فيه يوم الفرقان، ثم كان فيه يوم الفتح الأعظم، ثم تتابع طريق أمة الإسلام يشهد بأن شهر رمضان هو شهر القوة والعزة.. هو شهر النصر والتمكين.. هو شهر القوة والجهاد.. هو شهر النشاط والفتوة.

\"فلا تُمِت علينا ديننا\"قالها عمر - رضي الله عنه - حينما رأى بعض الشباب وهو يمشي مشية متماوتة يسحب رجله وهو مطأطئ رأسه، فكان عمر يعلوه بدرته على أم رأسه ويقول:\"لا تمت علينا ديننا\"، فليس في الإسلام تماوت ولا ضعف، بل قوة وعزة، وليس فيه طأطأة ولا مسكنة بل فيه إخبات وتواضع مع قوة إيمان وعزة بهذا الإسلام.

فإلى أولئك أيضاً إليهم شكوى رمضان ومقارنته بينهم وبين المجاهدين الذين عمروا هذا الشهر فكانوا رهبان الليل فرسان النهار.

 

رابعاً: الصور المعكوسة والظواهر المنكوسة

كذلك تتوالى شكوى رمضان من صور كثيرة في مجتمعاتنا يعجب لها المرء أيما عجب ويحار فيها العقل أيما حيرةº لأن هذا الشهر جعل ليختص بمزيد من الخير والطاعات، وإذا بالحال ينقلب رأساً على عقب، ونرى كثيراً من الناس يخصونه بغير ما أراد الله له وبغير ما شرعه فيه وبغير ما ندب إليه، ولذلك من هذه الصور المعكوسة والظواهر المنكوسة ما يشكو منه رمضان.

 

1 ـ إكثار الطعام والشراب

فكثير من الناس ما علموا أن الصوم دورة في فطم النفس عن شهواتها وتعودها أن تترفع عن ملذاتها وتقوية إرادتها إزاء شهواتها، وأن الصوم لم يشرع ليكون ختامه أكل حتى التخمة وشراب حتى البطنة دون أن يفقه ما ينبغي أن يشارك فيه الفقراء والمساكين والمحرومين الذين لا يجدون قوت يومهم والذين يبيتون على الطوى، بل لا يتذكر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وقد وصفته عائشة - رضي الله عنها - ووصفت حاله فكانت تقول: كان يمر الهلالان والثلاثة وما يوقد في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار شهران أو ثلاثة ولا يطبخ فيه طعام ولا دسم. قيل لها فما كان؟ قالت: الأسودان التمر والماء.

 

وصح عند البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه كان صائماً في يوم من الأيام تطوعاً فأوتي له بطعام الإفطار فنظر إليه فإذا فيه أكثر من صنفين من الطعام فطأطأ رأسه - رضي الله عنه - باكياً وانخرط في بكاء طويل، قالوا له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت مصعب بن عمير - رضي الله عنه -: مات يوم مات في أحد ما وجدنا ما نكفنه به إلا بردة إذا غطينا رجلاه بدا رأسه وإذا غطينا رأسه بدت قدماه وإني أخشى أن نكون ممن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.

 

فما بالنا ونحن نجمع على موائدنا ليس صنفين ولا ثلاثة بل ربما خمسة وعشرة ونأكل حتى لا يبقى في بطوننا موضع لطعام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه فإن كان لا بد فاعل فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه).

فتفطنوا أن الصيام ليس غاية وسبباً نجوِّع فيه أنفسنا، فلسنا مثل أجلكم الله الحيوانات التي تجوع فتطلع فلا يكون لها هم إلا أن تلتهم الطعام إلتهاماًً.

 

وأعجب العجب الذي أراه وترونه أن كثيرين يقضون ما بين العصر إلى المغرب هذا الوقت المبارك وقت نزول الملائكة ووقت الغروب والذكر ووقت التسبيح بالآصال يقضونه وهم طوابير طويلة لأوقات عديدة، ولساعات متتابعةº ليشتروا أصنافاً من الطعام هم عنها في غنى ولا حرج ولا ضير ولا حاجة أن تكون موائدهم، ولكن بعض الناس جعلوا هذا الشهر شهراً وضعوا له فرائض من عند أنفسهم وأنه لا بد أن يكون في طعام الإفطار كذا وكذا وأنه لا يتم الإفطار إلا بوجود كذا وكذا، فشغلوا أوقاتهم وشغلوا أفكارهم وكأنه هذا الشهر موسم أنواع الأطعمة يتفرغ الناس لها وتستعد المطاعم بها، ويضيع الناس أوقاتهم فيها فانصرفوا عن العبادة والطاعة إلا من رحم الله، فما أعظم شكوى رمضان منا وقد قلبنا آياته وقد عكسنا حسناته!

 

وهو شهر ينبغي أن يقل فيه الشراب والطعام، وأن يتعود فيه الإنسان على الجوع والعطش وعلى الترفع عن الدنيا، وعلى الصبر على ما يحل به، فالله نسأل أن يفقهنا في هذا الدين وأن يبصرنا بالحكم والغايات فيما شرع لنا من فرائض الدين.

 

الخطبة الثانية

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

وإن من أعظم مواسم التقوى شهر رمضان المبارك، الذي جعله الله - عز وجل - معيناً لا ينضب لكثير من الخيرات، ولكن شكواه مُرَّة كما أشرت من هذا الانعكاس والارتكاس.

 

2 ـ غشيان الأسواق وكثرة نزول النساء إليه

ومن ذلك ما يغشى فيه الناس الأسواق وما يكثر فيه نزول النساء إليها، وكأنه ليس هناك وقت وليس هناك مجال لقضاء الحاجات إلا في الليالي المباركات، وتزداد هذه الظاهرة والعياذ بالله عندما تدخل العشر الأواخر، وعندما يشتد أهل الإيمان في الطاعات والعبادة، ويقطعون ليله تسبيحاً وذكراً قياماً وركوعاً وسجوداً، ويقطعون أوقاتهم تضرعاً وابتهالاً لله - عز وجل - وبكاء وخشية من الله - عز وجل - وسؤالاً لنيل أعظم الثواب وأعظم البركات في ليلة القدر.

 

وفي هذه الليالي تشتغل الأسواق كما لم تشتغل في غيرها من الليالي، ويكثر نزول النساء وتكثر المنكرات والمحرمات والمعاكسات والتبرج وغير ذلك، ويختص شهر رمضان في مجتمعاتنا على وجه الخصوص في رمضان كذلك بأن الليل يشغل في أكثر أحيانه وفي أواخر الشهر على وجه الخصوص بغير ما أراد الله - عز وجل -، ولذلك نجد هذه الظاهرة التي يدمي لها القلب وعندما يكون الإنسان ـ وقد رأيت ذلك بأم عيني ـ في رمضان في العشر الأواخر في بيت الله الحرام، ويرى احتشاد المصلينº حتى لا يبقى مكان في البيت الحرام فإذا خرج ليقضي حاجة أو ليتوضأ أو كذا رأى أضعاف أضعاف ذلك العدد، وهم يرتادون الأسواق ويتكلمون بفارغ الكلام ويفعلون كثيراً من الأفعال المحرمة المنكرة في كثير من الأحوال إلا من رحم الله، ولذلك هذه الظاهرة كأنها نوع مخالفة عما ينبغي أن يكون في شهر رمضان، ونوع قلب لما أراده الله - عز وجل - لا سيما في العشر الأواخر من أن يكون هناك مزيد التفرغ للطاعة والاغتنام للخير.

 

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صح عند مسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)، أي إذا فيها كما هو الغالب ما حرم الله - عز وجل -، وقد ورد أيضاً عند الطبراني وغيره بإسناد حسن: (خير البقاع المساجد وشر البقاع الأسواق).

ومن هن أولئك النساء ومن هم أولئك الرجال الذين يحيون هذه الظاهرة؟ إنهم أنا وأنت وزوجي وزوجك وابنتي وابنتك وأختي وأختك وقريبتي وقريبتك، فليكن كل امرئ مسؤول عن نفسه وليكن قائماً بحق من استولاه الله أمرهº فإنه - عليه الصلاة والسلام - قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فلماذا يؤجل الناس حوائجهم إلى شهر رمضان ولماذا يؤخرونها إلى العشر الأواخر، بل ليلة العيد يقضونها حتى صباحها وحتى شروق شمسها دون أن يذكروا الله - عز وجل - بل هم في لهو وصفق في الأسواق نسأل الله السلامة.

 

لماذا - أيها الأخوة - نقدر ونقر ونغض الطرف عن هذه الظواهر المعكوسة، وهذه الأعمال المرفوضة التي كأنها أصبحت سنة من سنن رمضان، كأنه كما نرى ونشاهد لا بد أن يزداد في أوقات العمل في ليالي العشر الأواخر، وكلما زادت العشر الأواخر قرباً من آخر الشهر كلما زاد العمل حتى إذا كانت الليالي الأخيرة واصلوا الليل بالنهار عجباً لأمة يساق لها الخير في مواطن العبادة وفي المساجد وفي بيوت الله ويضاعف لها الأجر وتوعد بليلة القدر ثم تعرض عن ذلك كله وتذهب لتشتري ثياباً مبهرجة ولتشتري طعاماً تملأ به البطون أو لتشتري ألعاباً تلهي بها الأطفال.

 

عجباً للعقول كيف سخفت؟ عجباً للبصائر كيف طمست؟ عجباً للمسلم كيف لا يفطن لما فيه خيره فلا يحرص لما فيه أجره؟ كيف لا ويبقى ما ينبغي أن يتقي من عذاب ا لله وسخطه؟ نسأل الله السلامة.

هذه الظاهرة لو أننا جميعاً أصحاب المتاجر والأعمال وحتى على مستوى المسؤولين الرسميين في الحكومة أن يمنعوا هذه الظاهرة بأن تغلق الأسواق في أوقات معينة، فيعلم الناس أنهم إذا أرادوا حاجتهمº فإن هذا الوقت هو المتاح وبعد ذلك ليس هناك أسواق إذاً لا نقمع الناس في بيوتهم وتفرغوا لعبادتهم، وعلى أقل تقدير لم يعلنوا بالمعاصي في شهر الخير والبركة وفي العشر الأواخر وفي ليلة القدر والناس ساجدون.

 

هناك من يغازل ويعاكس والناس يدعون، وهناك من يغني ويدندن والناس يسبحون وهناك من يشتم ويلعن، كيف تتنزل علينا الرحمات وكيف ننال الخيرات، ونحن نعلم في مجتمعاتنا بشكل عام بهذه المنكرات ولا نرى لها مُنكِراً ولا نرى لها معارضاً ونتقبلها حتى ألفناها وحتى تعودنا عليها وحتى أصبحنا لا نرى رمضان بدونها ولا نعرفه بغيرها، ينبغي أن يكون كل مسلم قائماً بهذا الأمر سيما ونحن في أول الشهر نحن في بدايته فليكن كل مسلم قائماً بأمر من ولاه الله عليهم.

فإذا أراد أن يشتري أهله شيئاً فليشتره في نهار رمضانº فإن النهار فيه وقت مديد وليقتصد في مشترياته، إن كان ولا بد مشترياً وكان محتاجاًº فإن ما في هذا الشهر من الخير أعظم من أن يفوّت في تفكير في أنواع الملابس أو مقاساتها، أو ينتظر كما يفعل أهل الأسواق وأهل المتاجر والملابس على وجه الخصوص لا يخرجون البضائع الجديدة إلا في آخر الشهر، وتظل النساء و للأسف الشديد يفكرون في آخر الشهر ليشترين الموديلات الجديدة والألوان الجديدة والتشكيلات الجديدة، وينصرفن من أعظم اجر وأغنم خير ساقه الله في ليلة القدر.

 

فهل ترون لو أنا نظرنا إلى مجتمع الصحابة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم هل كنا نرى أحداً في الليل يصفق في الأسواق أو يتلهى على المنتزهات أو يتمشى على البحار أم أن الناس كلهم يغتنمون اللحظة والثانية ولا ينتطرون في أي وقت ولا يضيعون أي جهد إلا فيما يرضي الله - عز وجل - لأنه وقت قصير وليالي معدودة يوشك أن تنقضي، فيخرج الناس فإما غانم وإما محروم نسأل الله - عز وجل - السلامة، إن هذه الظواهر التي عكسنا فيها الآية والتي غيرن فيها الأمور ينبغي أن تكون موضع إنتباهنا وموضع إنكارنا وموضع مقاطعاتنا لو قاطعنا نحن جميعاً الأسواق الذي نرتاد المساجد نحن وأسرنا لما ملأت بهذه الأعداد المتكاثرة ولما رأينا هذا الإزدحام الذي يدل على خواء في العقول وعلى ضعف في الإيمان وعلى بلادة في التفكير وعلى عدم معرفة بالمصلحة الدنيوية والأخروية نسأل الله - عز وجل - السلامة.

ولذلك ينبغي لنا أن نسمع لهذه الشكاوي من رمضان، وأن نكون جميعاً عاملين على تغيير هذه الظواهر وعلى هذه الصور التي فيها نقص، والتي فيها تغيير لحكمة الله، والتي فيها تفريط في اغتنام ما أراد الله.

ونحن في أول الشهر أكررها ثانية ونرى الإقبال كثيراً، ونرى الصفوف في التراويح كثيرة، ثم ما تلبث أن تتناقض! أين الهمم العالية؟ أين العزائم الماضية؟ أين الثبات على الخير؟ أين خير الأعمال أدومها وإن قلّ؟ ولا تكن أيها - العبد المؤمن - من يُقبِل في أول رمضان وأوله خير ولكن الخير أعظم في آخره، فلا تكن ممن يأخذ القليل ويقنع ثم يستغني عن الكثير فيفوته خير كثير فالله نسأل أن يوفقنا للصيام والقيام وأن يعيننا على الذكر وتلاوة القرآن.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply