الصلاة على الميت الغائب


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ذهب أهل العلم في الصلاة على الميت الغائب مذاهب، هي:

أولاً: الغائب عن البلد

1. تجوز الصلاة عليه ما لم يُصَلَّ عليه، وهذا مذهب الشافعي ومشهور مذهب أحمد.

2. تجوز الصلاة عليه، صُلي عليه في بلده أم لم يُصَلَّ عليه، وهذا مذهب طائفة من الشافعية والحنابلة.

3. يُصَلى على من له فضل وسابقة في الإسلام، وإن صُلي عليه في بلده.

4. لا تجوز الصلاة على غائب أصلاً، صُلي عليه أم لم يُصَلَّ عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والرواية الثانية عن أحمد.

 

أدلة المجيزين للصلاة على الغائب

الدليل العمدة على جواز الصلاة على الغائب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي عندما مات وأوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهي منقولة بطرق كثيرة صحيحة، وهي:

1. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات، وقال: \"استغفروا لأخيــكم\". [1]

2. وعن جابر - رضي الله عنه -: \"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكبر أربعــاً\". [2]

3. وعن جابر - رضي الله عنه - أيضاً: \"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكنتُ في الصف الثاني أو الثالث\". [3]

4. وفي رواية عن جابر عند البخاري[4]: \"قد توفي اليوم رجل صالح من الحبشة، فهلموا فصلوا عليه\"، فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن صفوف\".

5. وفي رواية لمسلم[5]: \"إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه\"، فقمنا فصففنا صفين.

6. وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن أخاً لكم\"، وفي لفظ: \"إن أخاكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه\".

هذا هو الدليل العمدة على الصلاة على الغائب، صلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، ولم يثبت أنه صلى على غائب غيره، إلا في خبر ساقط لا تقوم به حجة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إلا حديث ساقط روي فيه أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي في غزوة تبوك، لكثرة قراءته \"قل هو الله أحد\"، وهو حديث لا يحتج به). [6]

 

قال محقق جامع المسائل[7] عن هذا الحديث: (جمع الحافظ ابن حجر طرقه في الإصابة[8] وقواه بالنظر إلى مجموع الطرق في الفتح[9]، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب[10]: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة).

 

قلت: الحديث الواهي لا يحتج به لا في العقائد والأحكام ولا في غيرها، ومَن رُويَ عنه من السلف تجويز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال يعنون بذلك الحديث الحسن، حيث لم تقسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف إلا بعد الترمذي، فهو أول من قسمها هذا التقسيم، وهو من تلاميذ تلميذ الإمام أحمد.

 

و حتى الذين جوَّزوا العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال كابن الصلاح والنووي اشترطوا لذلك شروطاً، وهي كما قال النووي في الأذكار:

 * أن لا يكون ضعيفاً شديد الضعف.

 * أن لا يكون فيه أحد الكذابين.

 * أن لا يعتقد عند العمل به أن الرسول قد قاله.

 * لا يعمل به من يُقتدى به.

 

حجج المانعين للصلاة على الغائب

احتج المانعون للصلاة على الغائب في الجملة صُلي عليه أم لم يُصَلَّ عليه بحجج ضعيفة، وتأولوا صلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي بتأويلات متعسفة.

 

من تلك الحجج:

1. أنه لم يصح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى على غائب غير النجاشي: (وقد مات على عهده خلائق من أصحابه في غيبته فلم يصل عليهم، وكذلك لم يصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صلوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة.

ولهذا تنازع العلماء، فقالت طائفة: لا يصلى على الغائب، إذ لو كان سنة لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك، ولكان المسلمون يعملون بذلك في محياه ومماته). [11]

2. أن النجاشي كان بين قوم نصارى كفار، فلم يصلِّ عليه أحد، ولذلك جازت الصلاة عليه.

ويرد على ذلك بأن جمهور المانعين للصلاة على الغائب لا يميزون بين من صُلي عليه ومن لم يُصل عليه.

3. أن النجاشي رفع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان بين يديه أوطُويت له الأرض فصلى عليه.

4. صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي هذه من خصوصياته.

 

أقوال العلماء في ذلك

قال النووي - رحمه الله - عن مذاهب العلماء في الصلاة على الغائب عن البلد: (مذهبنا جوازها، ومنعها أبوحنيفة، ودليلنا حديث النجاشي وهو صحيح لا مطعن فيه، وليس لهم عنه جواب صحيح، بل ذكروا فيه خيالات أجاب عنها أصحابنا بأجوبة مشهورة، منها قولهم: إنه طويت له الأرض فصار بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجوابه أنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انخراق العادة في تلك القضية، مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله.

 

أما حديث العلاء بن زيدل ويقال بن زيد عن أنس أنهم كانوا في تبوك، فأخبر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - بموت معاوية بن معاوية في ذلك اليوم، وأنه قد نزل عليه سبعون ألف ملك يصلون عليه، فطويت الأرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب فصلى عليه ثم رجع، فهو حديث ضعيف ضعفه الحفاظ، منهم البخاري في تاريخه، والبيهقي، واتفقوا على ضعف العلاء هذا، وأنه منكر الحديث). [12]

 

وقال ابن قدامة: (وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية، فيستقبل القبلة ويصلي عليه كصلاته على حاضر..وسواء كان الميت في جهة القبلة أولم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أولم يكن، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز، وحكى بن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما، لأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها، بدليل ما لو كان في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غيبتها عنه، ولنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نعى النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه، وصلى بهم بالمصلى، فكبر عليه أربعاً، متفق عليه، فإن قيل: فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زويت له الأرض، فأري الجنازة، فقلنا: هذا لم ينقل، ولو كان لأخبر به، ولنا أن نقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه وإن رئي، ثم لو رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختصت الصلاة به، وقد صف النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم، فإن قيل لم يكن بالحبشة من يصلي عليه، قلنا: ليس هذا مذهبكم، فإنكم لا تجيزون الصلاة على الغريق، والأسير، ومن مات بالوادي، وإن كان لم يصل عليه، ولأن هذا بعيد، لأن النجاشي ملك الحبشة، وقد أسلم وظهر إسلامه، فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه).[13]

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن صلاة الغائب: (فيها للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي، وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه، والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابن أبي موسى[14] وهو ثبت في نقل مذهب أحمد رجحانها في مذهبه.

 

إلى أن قال: وقالت طائفة: بل تجوز الصلاة على كل غائب عن البلد وإن كان قد صلي عليه كما ذكرنا عن أصحاب الشافعي، وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هؤلاء: تجوز الصلاة على الغائب عن البلد سواء كان فوق مسافة القصر أو دونها، وسواء كان الميت خلف المصلى أو أمـامــه). [15]

 

قال ابن شاس المالكي - رحمه الله -: (ويشترط حضور الجنازة فلا يصلى على غائب، وقال ابن حبيب: يصلى على من أكلته السباع أو غرق). [16]

 

قال الشيخ البسام - حفظه الله - في اختياراته الجلية في المسائل الخلافية[17]: (اختلف العلماء في الصلاة على الغائب، فذهب أبو حنيفة ومالك وأتباعهما إلى أنها لا تشرع، وجوابهم عن قصة النجاشي والصلاة عليه أن هذه من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 

وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما إلى أنها مشروعة، وقد ثبتت بحديثين صحيحين، والخصوصة تحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل عليها، وتوسط شيخ الإسلام فقال: إن كان الغائب لم يصل عليه مثل النجاشي، صُلي عليه، وإن كان قد صُلي عليه، فقد سقط فرض الكفاية عن المسلمين.

 

وهذا القول رواية صحيحة عن الإمام أحمد صححه ابن القيم في الهَدي، لأنه توفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس من أصحابه غائبين، ولم يثبت أنه صلى على أحد منهم صلاة الغائب.

ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنه قال: إذا مات رجل صالح صلى عليه، واحتج بقصة النجاشي.

 

ورجح هذا التفصيل شيخنا عبد الرحمن السعدي - يرحمه الله تعالى -، وعليه العمل في نجد، فإنهم يصلون على من له فضل، وسابقة على المسلمين، ويتركون من عداه، والصلاة هنا مستحبة.

قال ابن القيم[18]: أصح الأقوال هذا التفصيل.

 

أعدل الأقوال وأرجحها في الصلاة على الغائب عن البلد

أرجح الأقوال وأعدلها في الصلاة على الغائب عن البلد ما يأتي:

1. أنه يصلى على من لم يُصل عليه في بلده لأي سبب من الأسباب.

2. لا يصلىعلى من صُلي عليه في بلده إلا وهو الثالث.

3. إن كان من أهل السابقة والعلم والفضل كما صُلي على بعض المشايخ المعاصرين - رحمهم الله - في كثير من بلاد المسلمين، كالشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ العثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني، والشيخ إحسان إلهي ظهيري، والشيخ أبو الحسن الندوي، وغيرهم.

4. لا يُصلى على بعض الحكام المحادين لله ورسوله والمعاندين لدينه صلاة الغائب إلا إذا لم يصل على أحد منهم في البلد الذي مات فيه، فيجوز لذويه أن يصلوا عليه في هذا الحال.

تصح الصلاة على الغائب بهذه الشروط، سواء كانت المسافة بين بلده وبلد من يصلون عليه مسافة قصر أم لا، وسواء كان إلى جهة القبلة أم لا، ويتوجه بالصلاة عليه إلى جهة القبلة.

 

ثانياً: الصلاة على الغائب في أحد جانبي المدينة أو أحيائها

ذهب أهل العلم في الصلاة على الغائب في البلد الواحد مترامي الأطراف نحو شرقي بغداد وغربيها، أونحو الكلاكلة والحاج يوسف في الخرطوم مثلاً، مذهبين:

1. تجوز الصلاة.

2. لا تجوز.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وجوز طائفة من أصحاب الإمامين[19] الصلاة على الغائب في البلد[20] الواحد، ثم محققوهم قيدوا ذلك بما إذا مات الميت في أحد جانبي البلد الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد لم يقيدها بالكبيرة، كما إذا مات في أحد جانبي بغداد، فصُلي عليه في الجانب الآخر، وكانت هذه المسألة قد وقعت في عصر أبي حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغـداد، فصلى عليه أبو عبد الله بن حامد وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك الفقهـاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفظ البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على أنه من مات في الجانب الواحد لا يصلى عليه فيه إذا كان غائباً، كما إذا كان الرجل عاجزاً عن حضور الجنازة لمطر، أو مرض، فإنه لا يصلى على الغائب وفاقاً، لكن بعض متأخري الخرسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغالب في البلد، وإن أمكن حضوره، وألحق ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا لم يمكن حضوره، فإن فيه وجهاً ضعيفاً بجواز الحكم عليه، فقاس الصلاة عليه في القضاء عليه، وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين الصلاة والحكم، ولا يستريب من له أدنى معرفة أن تشريع مثل هذا حدث وبدعة ظاهرة، وأمثال هذه الوجوه تخرج عند ضيق مناظرة المخالف طرداً لقياس واحترازاً عن نقض، ولا يدان الله بها.

 

وعلى القول المشهور في المذهبين، وأنه لا يصلى إلا على الغائب عن البلد، لم يبلغني أنهم حدوا البلد الواحد بحد شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارج السور، أوخارج ما يقدر سوراً يُصلى عليه، بخلاف من كان داخله، ولكن هذا لا أصل له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إما أن تكون العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة، والتيمم والجمع بين الصلاتين على قول، فلابد أن يكون منفصلاً عن البلد، بما يعد الذهاب نوع من سفر، وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يَعلى أنه يكفي خمسين خطوة.

 

و إما أن يكون الحد ما يجب فيه الجمعة، وهو مسافة فرسخ، حيث يسمع النداء، ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يعد غائباً عنها، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه.

إلى أن قال:

 

لكن أكثر العلماء كأصحاب أبي حنيفة ومالك وأكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يجوزون الصلاة في أحد جانبي البلد إن كان كبيراً على من مات في الجانب الآخر، حتى صرحوا بأن بغداد مع كونها محالّ كثيرة، ولها جانبان بينهما دخلة، ومع كون الجمعة تقام بها في مواضع من حين بنيت بغداد من زمن أبي جعفر المنصور وإلى الساعة، صرحوا مع ذلك أنه لا يُصلى في أحد جانبيها على من مات في الجانب الآخر). [21]

 

الراجح والله أعلم من قولي العلماء عدم جواز الصلاة على الغائب في المدينة الواحدة مهما اتسعت، هذا ما كان ولا يزال المسلمون عليه سلفاً وخلفاً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply