إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 
انتكست الأمة الإسلامية ـ فـي الـقـرون الأخـيـرة ـ، وتـصـدّعـت أركــانها، وتسلط عليها أعداؤها، واستبدل الله (سبحانه وتعالى) قوتها بضعف، وعزتها بذلة، واجـتـمـاعها بفرقة وشتات، أصبحت مستباحة الحمى، مهيضة الجناح، يعبث بها العابثون، ويفـسـد فـيهـا الـمـفـسدون، تنتهك حرماتها، وتسرق مقدراتها، ويُستولَى على أرضها، وتُشَتت شعوبها، وهي لاتملك حولاً ولاطولاً...!!


في كل أرض لها مأساة، وفي كل بلد لها محنة.. أبناؤها يشردون، ودعاتها يُقَتّلون، نساؤها ترمّل، وأطفالها تُيتم..!


فما الذي جرى لها حتى وهنت، ووصلت إلى هذا المآل..؟!


مالذي جرى حتى تغيب هذا الغياب المذهل الذي أفقدها اتزانها ووجودها....؟!


تدبر قــول الله (سبحانه وتعالى) في محكم التنزيل: ((قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعاً بَعضُكُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ فَإمَّــا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلٌّ ولا يَشقَى * وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإنَّ لَهُ مَعـِـيشَــةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كـَـذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجزِي مَن أَسرَفَ وَلَم يُؤمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدٌّ وَأَبقَى)) [طه: 123-127].


إذاً هذا هو السر... وهذا هو موضع الداء..!


أعرضت الأمة عن شــرع الله (تعالى)، وهجرت كتاب الله (عز وجل) علماً وعملاً، وأدبرت عن سنة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، واستبدلتها بقوانين وضعية، واجتهادات بشرية ملفقة من الشرق والغرب.. فكانت النتيجة الملموسة التي تجنيهـا الأجيال: التخبـط والشقـاء الـذي نرى آثـاره تزداد يوماً بعد يوم..


كم ذاقت الأمة من الـبـــلاء، وأصـابها من الشدة، بسبب إدبارها وإعراضها عن شرع اللـه ووحيه المنزل؟! وكم تقـلـبــت فـي ألــــوان وألـوان من الذل والهوان..؟! تأمل حال الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها، وســـوف تجد حالةً من القلق، وعدم الاتزان تسيطر على كثير من أجزائها، وصدق المولى (جل وعلا) إذ يقول: ((أَفَمَن يَمشِي مُكِباً عَلَى وَجهِهِ أَهدَى أَمَّن يَمشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ, مٌّستَقِيمٍ,)) [الملك: 22].
إن السعادة كل السعادة، والطمأنينة كـــــل الطمأنينة، إنما هي في تعظيم شرع الله (تعالى) واتباعه والاهتداء بهديه. والشقاوة، والتخـبـط كل التخبط، إنما هو في الإعراض عن شرع الله (تعالى) والاستهانة به وهجره. قال الله (تـعالـى): ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنٌّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنٌّ القُلُوبُ)) [الرعد: 28]. ولـعـــل شهر مضان المبارك يذكر الأمة الإسلامية بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله العظيم، فقد شرف الله (تعالى) هذا الشهر بنزول القرآن، فقال: ((شَهرُ رَمَضَانَ الَذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ)) [البقرة: 185]. فالله (سبحانه وتعالى) أنزل كتابه الـعـزيز ليهتدي به الناس و يعتصموا به، فهو مصدر القوة والعزة، وأساس التمكين والـرفـعـة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق الإيمان، وصدق به أخلص التصديق، فـقـــد هداه الله وآتاه من فضله، وأعانه على كل خير، قال الله (تعالى):-((الـم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِّلمُتَّقِينَ)) [البقرة:1-2]. ومن هجره وأعرض عنه علماً وعملاً، ولم يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه، فقد أضله الله، وختم على قلبه وبـصـــره، قال الله (تعالى) ((وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِــــنَ الغَاوِينَ * وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَومِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَـلَّـهُــم يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً القَومُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُم كَانُوا يَظلِمُونَ)) [الأعراف: 175-177] وصـــدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) (1).


إن الـقـرآن الـكـريـم لـيـس آيــات تهـتـز لـها الرؤوس، وتتمايل بها العمائم، ويطرب لها الدراويش في الموالد والمآتم والاحتفالات، ولـيـس آيات تُهَذُ هَذّ الشعر، أو تنثر نثر الدقل، بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها بالسكينة والطمأنينة، وتملؤها بالثقة والثبات. وتدبرُ آيات الله (عز وجل) ومعرفة مـقـاصــدها ومراميها، والوقوف عند عظاتها وعبرها، والتفكر في معانيها وفقهها وأسرارها: نعمة عظيمة من أجل النعم التي يوفق إليها العبد المسلم. قال الله (تعالى):- ((إنَّمَا المُؤمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِـــرَ اللَّهُ وَجـِلَــت قُلُوبُهُم وَإذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ)) [الأنفال: 2] ولهذا وصف أبو عبد الرحمن السلمي الصحابة (رضي الله عنهم) بقوله: (حدثنا الذين كانوا يقرئونـنـا القرآن، كعثمان بن عفان و عبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النـبـي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا مافيها من العلم والعـمــل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً)(2). وقال عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما): (لأن أقرأ البقرة في ليلة فأَدّبّرها وأرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن أجمعَ هذرمة)(3).


وإذا طغى الران على القلـب، وانتكـس الإنسـان بعبثــه ولهـوه حجبه الله (تعالى) عن نور القرآن، وحال بينه وبين الهدى والحق، قـال الله (تعالى): ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ, أَقفَالُهَا)) [محمد: 24] وقال الله (تعالى): ((وإذَا قَـــــرَاًتَ القُرآنَ جَعَلنَا بَينَكَ وَبَينَ الَذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً (45) وَجَعَلنَا عَلَى قُــــلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِم وَقراً وَإذَا ذَكَرتَ رَبَّكَ فِي القُرآنِ وَحدَهُ وَلَّوا عَلَى أَدبَارِهِـــم نُفُوراً)) [الإسراء: 45، 46] وتوعد الله (تعالى) المعرضـين عن كتابـه العزيز بقوله (عز وجـــل): ((أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإسلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ, مِّن رَّبِّهِ فَوَيلٌ لِّلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكــــرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ,)) [الزمر:22].


وأما أهل الإيمان فقد وصفهم الله بقوله (تعالى): ((وبِالحَقِّ أَنزَلنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرسَلنَاكَ إلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرآناً فَرَقنَاهُ لِتَقرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكثٍ, وَنَزَّلنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُل آمِنُوا بِهِ أَو لا تُؤمِنُوا إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إذَا يُـتـلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَـمَـفـعُـــــولاً (108) وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعاً)) [الإسراء: 105-109].
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين يعـظـمـونــه حق التعظيم، فيؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمحكمه ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويحكمونه في جميع أمورهم.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

 

 

 

الهوامش :


1- أخرجه: مسلم، في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها. ح 1، ص 559، ح 817.


2- سير أعلام النبلاء: 4/269.


3- فضائل القرآن، ابن كثير: ص 75.
 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply