لذيذ الاستمتاع بما جاء في حجة الوداع


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فهيِّا -إخوة الإيمان- نقلِّب صفحات الماضي، وشيئا من سيرته -عليه الصلاة والسلام- نستقيها من حجته المباركة، والمليئة بالدروس والعبر..

لقد حج الحبيب -صلى الله عليه وسلم- على رَحلٍ, رَث، وقطيفةٍ, لا تساوي أربعة دراهم، مع ذلك مع تواضعه وانكساره، وإخباته وإنابته، وانقياده لمولاه إلا أن الموقف كان هالة من المهابة والجلال والتعظيم..

كان معه ما يزيد على مائة ألف، وذكَرَ بعض أهل السيِّر أنهم مائة وعشرون ألفاً، عن يمينه وشماله، يملئون الأودية والفجاج..

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد ارتفع على ناقته القصواء، لا ليشمَخِّر عليهم، ولا ليرتفع، فَخُلقُهُ النبوي الشريف أعظم من هذا، ولكن حتى يراه الناس جميعاً، لأن الهدي والمناسك لا تؤخذ إلا منه..

فهو القائل: (خذوا عني مناسككم).. حج -عليه الصلاة والسلام- حجة الوداع، وسطَّرَ فيها وصاياً ودروساً وعبراً، لتكون نفعا وتوفيقا ونصراً للأمة إن هي تمسكت وعملت بها..

فمِمَّا أظهره في حجة الوداع، وجعله نبراساً للأمة من بعده أن علَّقَ المخلوق بالخالق، ورسم آيات العدل والمساواة بين الناس، وبيِّنَ حقوق الرجال على النساء وحقوق النساء على الرجال، وأظهر حتى حقوق الإماء والعبيد، وأعطى كل ذي حق حقه..

فما انتهت حجته -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن مُلأت بغذاءٍ, روحي نهل منه المسلمون، وبغمام استسقى منه كل الحجيج، فما مسَّهم الضُرٌّ حين عادوا ولا هم يحزنون، فرحين بما آتاهم الله من فضله..

إخوة الإيمان: لقد كانت هناك رسائلٌ كُثر، ووصايا جمَّة، في حجته -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك أنه خطب في الناس قائلا: (يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ, على عَجَمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى...).

أجمع الكلام وأفصحه كلامه -صلى الله عليه وسلم-.. فلا تفاضل بالأنساب، ولا تفاخر بالأحساب، فالميزان الحقيقي هو التقوى فحسب.

أبو لهب قُرَشيٌ، أخبرنا ربنا بأنه سيصلى ناراً ذات لهب، وبلالٌ الحبشي يسمعُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قرع نعليه في الجنة.

بل قد نادى -عليه الصلاة والسلام- في أهل بيته وعترته قائلاً: (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية.. يا عمَّة رسول الله سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا آل محمد.. لا يأتني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم من بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه).

هذا الكلام ـ إخوة الدين ـ قيل لأشرف نسب، لِنَسَبهِ الشريف -عليه الصلاة والسلام-.. ! إذاً فهل يرجع الناس من حجهم وفيهم من لا يزال متمسكاً بدعاوى الجاهلية، متفاخراً بحسب أو نسب؟! أم تُرِكَت هناك ورميت بلى رجعة.

هذا درسٌ من دروس الحج تلقَّاه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقبول، وواجبٌ على الأمة أن تأخذ به.. ثم تتوالى بعد ذلك الدروس النبوية في مناسك حجته -عليه الصلاة والسلام-، عبرَ خُطَبه المتفرقة فقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- وذكر الحديث بطوله في صفة الحج وفيه: (... فأجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُرِبت له بِنَمِرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمرَ بالقصواء فَرُحِّلت له، فأتى بطن الوادي.. فَخَطب الناس وقال: (إنَّ دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كَحُرمةِ يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.. ) الحديث رواه البخاري ومسلم.

فاليوم هو يوم عرفة، والتشبيه لبيان تأكيد التحريم وشدته، فدماء المسلمين حرام، والاعتداء عليها بغير حق اعتداء وتجاوزٌ وكبيرة من الكبائر، وكذا أموالهم وما يتعلق بها من أملاك ومتاع فهي حرامٌ.. فمن تعدَّى بعد ذلك فعليه القِصاص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أيها الإخوة الكرام.. أيها الفضلاء..

ثم تعالوا لننزل سوياً إلى الأسفل.. إلى ما تحت القدم.. نعم القدم.. ولكن.. القدم قَدَمُ مَن؟! وما هو الذي طُرِحَ تحتها في الحج يا تُرى. ؟

إنَّها قدما رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-، وأمَّا ما قد ألقيَ ووضعَ تحتها فهو ما بينه بقوله: (.. ألا كلٌّ شيءٍ, من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة،..).

فهل يا تُرى يليق بنا ـ عباد الله ـ أن نرجع من الحج وقد التقطنا ما قد رُمي ووضع تحت الأقدام من أعمال الجاهلية وأقوالها.. ؟ هل يُعقل هذا؟!

(كلٌّ شيء) وتعني العموم لا الخصوص (كل شيء من أمر الجاهلية) كل فعل من أفعال وأقوال الجاهلية جَعَلَه رسول الهدى تحت قَدَمه.. تحقيراً وازدراءا..

إذاً.. فلماذا لا تُزَوَّجُ البنت إلا من نفس القبيلة، وإرغامها على الزواج دون أخذ مشورتها؟ ولماذا يَفرِضُ الزوج على زوجته أن تجلس مع أخيه وهي لا تحل له؟

ولماذا تُحرمُ المرأة من الميراث؟ ولماذا التنابُزُ والتجريحُ في الأنساب، هذا قبيلي وهذا ليس بقبيلي، وهذا حُرُّ وهذا عبد؟ ولماذا التعصب للعنصرية المقيتة، هذا من قبيلتي فيُقَرَّب، وهذا من قبيلةٍ, أخرى فيُبعَد..

لماذا هذا كلٌّهُ وغيره يرجع إلى حيز الواقع بعد أن كان نسي منسيا. ؟

ألا وإن مما وضِعَ تحت أقدامه -صلى الله عليه وسلم- (الرِّبا) حيث قال: (... وربا الجاهليةِ موضوعٌ، وأول رباً أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله...).

ابتدأ في وضع ربا الجاهلية من أهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين، وسدَاً لأبواب الطمع في الترخيص.. فالرِّبا موضوع (أي متروكٌ ومسقط تحت الأقدام..).\

إخوة الإيمان.. أُناسٌ كُثُر عادوا من الحج، وقبل ذلك كانوا يتعاملون بالرِّبا.. عادوا من الحج وقد وضعوا الرِّبا.. ولكن لا تحت أقدامهم وإنما فوق رؤوسهم!.

أصبحوا ينظرون إلى الرِّبا أنه ضرورة اقتصادية، ولا مناص عنه، لا يبالون بنصوص الشرع.. بل يُمَيِّعونها ثم يُمحونها..

أيها الأحبة الأكارم.. حذار.. حذار.. لا ترفعوا شيئاً وضعه نبيكم -صلى الله عليه وسلم- تحت أقدامه، فـ(لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب. (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر.

ثُمَّ يُتابع -صلى الله عليه وسلم- وصاياه في خطبته قائلاً: (واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنَّ بأمانةِ الله، واستحللتم فُرُوجَهُنَّ بكلمة الله...).

إنه درس عظيم، وحَجَرٌ نُلقمه أفواه المارقين الناعقين بأنَّ الإسلام أضاع حقوق المرأة وأغفل شئنها ـ كذبوا والله وخابوا وخسروا ـ فهاهو الحبيب بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- في يوم الحج الأكبر، وأمام الجموع في عرفة يذكُرُ النساء، ويوصي بِهنَّ..

أوليس هو القائل: (استوصوا بالنساء خيراً).. أولم يأمر بلالاً أن ينصب له العَنَزَة فوقف في النساء خطيباً ليعِضُهنَّ ويُذَكِّرُهُنَّ؟ بلى والله..

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فيما أوصاكم به رسولكم -صلى الله عليه وسلم- في النساء.. يعود الحاج من حجه وفي نيته تغيير مسار التعامل مع الزوجة من الحَسَنِ إلى الأحسن، ومن الظلم إلى العدل والقِسط، ومن الإقتار والبخل إلى الإنفاق والسخاء في حدود المعقول..

ثم يَردِفُ -صلى الله عليه وسلم- قوله: (ولكم عليهنَّ أن لا يُوطِئنَ فُرُشكم أحداً تكرهونه) قال النووي: معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بُيُوتكم، والجلوسُ في منازلكم، سواءاً كان المأذونُ له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحداً من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك.

وهذا حكم المسألة عند الفقهاء، أنها لا يَحِلٌّ لها أن تأذن لرجل ولا امرأة، ولا مَحرمٍ, ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا مَن علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه. أ هـ

ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن فـعلنَ ذلك فاضربوهنَّ ضرباً غير مُبرِّح (يعني: شاق). قال: ولهنَّ عليكم رِزقُهُنَّ، وكِسوتُهنَّ بالمعروف.. ) هذا كُلٌّه نعرفه جميعاً ـ إخوة الإيمان ـ سواءً كُنَّا عائدين من الحج أم لم نحج لأنها توجيهات نبوية للأمة قاطبة.. من أخذ بها أخذ بحظٍ, وافر..

أيها المؤمنون.. وهذه وصية نبويةٌ من وصاياه للأمة، وهي تستمع إلى لذيذ كلامه وهو يخطب، منصتين متأملين وجهه الشريف وهو يتلألأ نوراً، إلى أن قال: (وقد تركت فيكم ما لم تضلٌّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ ).

يوصيهم نبيهم ويُؤكد عليهم ليعودوا بعد حجهم بهذه الكلمات النيرات، والحجج الساطعات، يخطُبُ فيهم وهو يُلقي آخر النظرات التي تجمعه بهم في هذا الموقف العظيم..

والذي تنزَّلت فيه قوله -تعالى-: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).. لتكون مقدِّماتٍ, لفراق الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وأحبابه، الذين سألهم: (فما أنتم قائلون؟ ).

فنطقت الأفواه في الموقف، وعَلا الضجيج من الحجيج في ذلك الجمع المبارك قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحتَ وأديت، فقال بأُصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها (أي يشير بها) إلى الناس: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد) أخرجه أبو داود وبن ماجة.

ونحن نشهد أيضاً أنه بلَّغَ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح للأمة، وما مات -صلى الله عليه وسلم- حتى جعلها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك..

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply