حجة النبي صلى الله عليه وسلم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثدييَّ وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة فقام في نِساجةٍ, ملتحفًا بها كلما وضعها على منكِبهِ رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المِشجَب فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، فقال بيده تسعًا، فقال: إن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حاجّ فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف أصنع، قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ, وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به فأهلَّ بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلبيته، قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم -عليه السلام- فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: "ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد و قل يا أيها الكافرون، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله الله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جُعشُمٍ, فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبدٍ,، فشَبَّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبدٍ, أبدٍ,، وقدمٍ, عليُّ من اليمن ببُدنٍ, النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوجد فاطمة -رضي الله عنها- ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: إنَّ أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مُحَرِّشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أُهِلٌّ بما أهلَّ به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن والذي أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة، قال: فحلَّ الناس كلهم وقصروا إلا النبي-صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منًى فأهلوا بالحج وركب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمَيَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فُرشَكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون"؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئًا، ثم ركب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس، السكينةَ السكينَة" كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأدرف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيمًا، فلما دفع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مرت به ظُعُنٌ يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن مُحسِّر فحرَّك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجلعت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوًا فشرب منه.

زاد في رواية أخرى في هذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووفقت ههنا وجَمعٌ كلها موقف".

هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (2950)، وأخرجه أبو داود في كتاب المناسبك باب صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- (1905)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك باب حجة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- برقم (3074).

 

شرح الحديث:

قال الإمام النووي عن هذا الحديث (حديث جابر) وهو حديث عظيم مشتمل على جُمَلٍ, من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، ثم قال: قال القاضي: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرَّج فيه من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه، قوله: "عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر... " إلى قوله: "... فصلى بنا".

قال النووي: هذه القطعة فيها فوائد منها:

-       أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان ونحوهم أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أن ننزل الناس منازلهم.

-       وفيه إكرام أهل بيت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كما فعل جابر بمحمد بن علي.

-       استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما مرحبًا.

-       ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه، وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه، وقوله: وأنا يومئذ غلام شاب فيه تنبيه على أن سبب فعل جابر ذلك التأنيس لكونه صغيرًا، وأما الرجل الكبير فلا يحسن إدخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه.

-       جواز إمامة الأعمى البصراء ولا خلاف في جواز ذلك.

-       أن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره.

-       جواز الصلاة في الثواب الواحد مع التمكن من الزيادة عليه.

-       جواز تسمية الثدي للرجل وفيه خلاف لأهل اللغة منهم من جوزه، ومنهم من قال يختص الثدي بالمرأة ويقال في الرجل "ثندؤة".

-       وقوله: "في نساجة" هي بكسر النون وتخفيف السين وبالجيم، ووقع في بعض النسخ "ساجة" بغير نون، والساجة ثوب كالطيلسان والنساجة الثوب الملفق، وكلاهما صحيح. والله أعلم.

وقوله: "ورداؤه إلى جنبه على المشجب" المِشجَبُ: أعواد تعلق عليها الثياب.

وقوله: "أخبرني عن حجة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- هي بكسر الحاء وفتحها، والمراد حجة الوادع.

-       وقوله: "فقال بيده فعقد تسعًا فقال: إنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مكث تسع سنين لم يحج": يعني مكث بالمدينة بعد الهجرة تسع سنين لم يحج فيها.

قوله: "ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاج": معناه أعلَمَهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام، ويشهدوا أقواله وأفعاله،

ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد، وفيه أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها.

قوله: "كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال النووي: قال القاضي: هذا مما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج لأنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم بالحج وهم لا يخالفونه، ولهذا قال جابر: "وما عمل من شيء عملنا به"، ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إليهم، ومثله تعليق عليٍّ, وأبي موسى إحرامهما على إحرام النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأسماء بنت عميس: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي": فيه استحباب غسل الإحرام للنفساء، والاستثفار أن تشد في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وفيه صحة إحرام النفساء والحائض وهو مجمع عليه. والله أعلم.

قوله: "فصلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثم ركب القصواء" قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتي الإحرام ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري أنه استحب كونها بعد صلاة فرض لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح.

وقوله: "ثم ركب القصواء" قال ابن قتيبة: كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- نوق: القصواء والجدعاء والعضباء، وفي حديث آخر غير هذا خطب على ناقة خرماء، وفي حديث ثالث: كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة لا تسبق تسمى "مخضرمة" قال القاضي: وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة، ونقل القاضي عن محمد بن إبراهيم التيمي التابعي وغيره أن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قوله: "نظرت إلى مد بصري" معناه منتهى بصري، وأنكر بعض أهل اللغة مدَّ بصري، وقال: الصواب (مدى بصري)، قال النووي: وليس هو بمنكر، بل هما لغتان والمد أشهر.

قوله: "بين يديه من راكب وماش": فيه جواز الحج راكبًا وماشيًا، وهو مجمع عليه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قوله: "وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله" قال النووي -رحمه الله-: معناه الحث على التمسك بما أُخبركم عن فعله في حجته، وقال الألباني -رحمه الله-: "فيه إشارة لطيفة إلى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يبين للناس ما نزل عليه من القرآن، وأنه هو وحده الذي يعرف تأويله وتفسيره حق المعرفة وأن غيره -حتى من الصحابة- لا يمكنه الاستغناء عن بيانه -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- في هذه الحجة -كغيرها من العبادات- يتتبعون خطاه -صلى الله عليه وسلم- فما عمل من شيء عملوا به" انتهى ملخصًا من حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- (ص54).

قوله: "فأهلَّ بالتوحيد" يعني قوله: "لبيك لا شريك لك"، وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك، فقد كان المشركون يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك". وبين جابر رضي الله عنه تلبية رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمدَ والنعمة لك والملكَ، لا شريك لك".

قوله: "وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلٌّون به فلم يردَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- شيئًا منه ولزم رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- تلبيته"، نقل النووي عن القاضي عياض أن في ذلك إشارة إلى ما روي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر كما روي عن عمر رضي الله عنه في ذلك أنه كان يزيد: "لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك مرغوبًا إليك" وعن ابن عمر: "لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل" وعن أنس: "لبيك حقّا تعبدًا ورقًّا" قال القاضي: قال أكثر العلماء: المستحب الاقتصار على تلبية رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وبه قال مالك والشافعي، ولا بأس بالزيادة، فقد أقرها رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-.

قوله: "حتى أتينا البيت" فيه بيان أن السنة للحاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات ليطوفوا للقدوم وغير ذلك.

قوله: "حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا"، فيه أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفة يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه، وفيه أن الطواف سبعة أشواط، وفيه أن السنة الرَّمَلُ في الثلاثة الأشواط الأولى والمشي في الأربعة الأخيرة، والرمل عبارة عن إسراع المشي مع تقارب الخطا، وهذا يكون في طواف القدوم في الحج وفي طواف العمرة، وكذلك لاضطباع في هذا الطواف سنة وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن ويجعل طرفيه فوق عاتقه الأيسر ويكون عاتقه الأيمن مكشوفًا.

قوله: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم -عليه السلام- فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت" قال النووي: فيه دليل على ما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، فإن لم يكن خلف المقام ففي المسجد وإلا ففي مكة وسائر الحرم، وهما سنة على الصحيح.

قوله: "وكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يقرأ فما الركعتين: قل هو الله أحد، و قل يا أيها الكافرون معنى هذا أن محمد بن علي يروي ما رواه جابر عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ركعتي الطواف، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وبعد الفاتحة في الركعة الثانية: قل هو الله أحد.

قوله: "ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا"، فيه دليل أنه يستحب للطائف طواف القدوم أو أطواف العمرة إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه، ثم يخرج من باب الصفا ليسعى، واتفقوا على أن هذا الاستلام سنة وليس بواجب ولو تركه لم يلزمه شيء.

قوله: "فلما دنا من الصفا قرأ: إن الصفا... " إلى قوله: "... ثم نزل إلى المروة" قال النووي -رحمه الله-: في هذا اللفظ أنواع من المناسك: منها أن السعي يشترط أن يبدأ من الصفا، ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا وهذا الرَّقي مستحبُّ ليس بشرط ولا واجب، ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة حتى يرى البيت إن أمكنه، ويذكر الله -تعالى- الذكر المذكور ويدعو، ويكرر الذكر والدعاء ثلاثًا.

قوله: "ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة" فيه استحباب السعي الشديد في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين الآن، فإذا جاوزهما مشى باقي المسافة، وهذا السعي مستحب وليس بواجب وهو الإسراع.

قوله: "فقام سراقة بن مالك جُعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبدٍ," فيه دليل على أن العمرة دخلت في أشهر الحج لأبد الأبد، وبه أبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- قول الجاهلية: "إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور".

قوله: "فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها" فيه إنكار الرجل على زوجه ما يراه من نقص في دينها لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره.

قوله: "إني أهِلٌّ بما أهَلَّ به رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فيه جواز تعليق الإحرام بإحرام كإحرام فلان.

قوله: "فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي"، إنما قصروا ولم يحلقوا لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج، فلو حلقوا لم يبق شعر، فكان التقصير هنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر.

قوله: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج" يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة.

قوله: "فخطب الناس" فيه استبحبا الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع وهو سنة باتفاق جماهير العلماء.

قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" معناه متأكدة التحريم شديدته، وفي هذا دليل لضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسًا قوله: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع..." إلى قوله: "كله" فيه إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها وأنه لا قصاص في قتلها، وأن الإمام أو غيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله، فهو أقرب إلى قبول قوله، وقوله في الربا: "موضوع كله" أي الزائد عن رأس المال.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" فيه الوصية بالنساء والحث على مراعاة حقهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقوله: "بكلمه الله" أي الإيجاب والقبول، وقيل معناه قوله -تعالى-: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقيل: المراد كلمة التوحيد، وقيل: المراد بإباحة الله والكلمة قوله -تعالى-: فانكحوا ما طاب لكم من النساء.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" معناه: ألا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلاً أجنبيّا أو امرأة أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك. قال النووي: وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه.

قوله: "ثم ركب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف.... إلى قوله حتى غاب القرص". فيه تعجيل الذهاب إلى الموقف إذا فرغ من الصلاتين، ومنها الوقوف راكبًا وهو جائز وقيل أفضل، واستحباب الوقوف عند الصخرات، وقد ظن بعض العوام أنه لابد من صعود الجبل وهذا خطأ، فقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الصخرات وقال كما في آخر الحديث وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ففي أي جزء من عرفة وقف الحاج أجزأه. واستحباب استقبال القبلة، وأن يبقى واقفًا حتى تغرب الشمس ويتحقق كمال غروبها ثم يفيض إلى مزدلفة، فلو أفاض قبل الغروب صح وقوفه وحجه ويجبر ذلك بدم، وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الوقت صح وقوفه، ومن فاته ذلك فاته الحج، وأما قوله: "وجعل حبل المشاة" فحبل المشاة مجتمعهم، وحبل الرملِ ما طال منه وضَخُمَ.

وقوله: "وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله". معنى شنق: ضَمَّ وضيق والمَورِك هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه. وقوله: "ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة" أي: الزموا الطمأنينة، فإذا وجد فرجة يسرع كما ثبت في الحديث الآخر.

قوله: "حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا" فيه فوائد منها أن السنة للدافع من عرفة أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء، فلو صلاهما في عرفات في وقت المغرب أو في الطريق أو في موضع آخر وصلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل، وقال أبو حنيفة: يشترط أن يصليهما في مزدلفة وعند مالك لا يصليهما قبل المزدلفة إلا من به عذر أو بدابته بشرط كونها بعد مغيب الشفق، ومنها: أنه يصلي الصلاتين بأذان واحد وإقامتين، ومنها أنه لا يفصل بينهما بنافلة وهذا معنى قوله: "لم يسبح بينهما".

قوله: "ثم اضطجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة" فيه أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر نسك وهو واجب على أصح أقوال العلماء يجبر تركه بدم، والسنة أن يبقى في مزدلفة حتى يصلي بها الصبح، إلا الضعفة فيسن لهم الدفع قبل الفجر، ويصدق المبيت على قضاء معظم الليل، قال النووي -رحمه الله-: والسنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما يسن الأذان والإقامة لهذه الصلاة، وكذلك غيرها من صلوات المسافر، وقد تظاهرت الأدلة الصحيحة على الأذان والإقامة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر كما في الحضر.

قوله: "ثم ركب القصواء... إلى قوله: ودفع قبل أن تطلع الشمس" فيه أن الوقوف عند المشعر الحرام من مناسك الحج وأنه لا يزال واقفًا فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدّا.

قوله: "وأردف الفضل بن عباس... إلى قوله: حتى وضع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل" فيه الحث على غض البصر عن الأجنبيات وغضهن عن الرجال الأجانب، وفيه أن من رأى منكرًا وأمكنه إزالته بيده لزمه إزالته إن لم يَكفِ فيه القول.

وقوله: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة" الجمرة التي عند الشجرة هي جمرة العقبة، وفيه أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة، وفيه أن الرمي بسبع حصيات، وأن تكون مثل حصى الخذف يعني قدر حبة الفول أو الحمص ونحوها. وفيه أن يسن التكبير مع كل حصاة، وفيه رمي كل حصاة على حدة، ولا يجوز أن يرمي السبع جملة واحدة، وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى عن يمينه ومكة عن يساره، وفيه أن يوم النحر فيه رمي جمرة العقبة فقط ولا يشرع رمي غيرها في ذلك اليوم.

وقوله: "ثم ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر" هذا الطواف هو طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين وأول وقته من بعد نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق ويكون ذلك ضحوة يوم النحر، قال النووي ولا وقت لآخره، وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفة، فلا يصح قبله، ويجوز تأخيره وجمعه مع طواف الوداع. والله أعلم.

وقوله: "فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم" إلى قوله: "فشرب منه" أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "انزِعوا" فهو بكسر الزاي ومعناه استقوا بالدلاء، وأما قوله: "فأتى بني عبد المطلب" فمعناه أتاهم بعد فراغه من طواف الإفاضة. وقوله: يسقون على زمزم معناه يغرفون بالدلاء ويصيبونه في الحياض ونحوها ويجعلونه سبيلاً للناس، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم" معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس أن ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا العمل، وفيه استحباب شرب ماء زمزم.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف" فهذا بيان رفقه -صلى الله عليه وسلم- بأمته وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم فإنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر لهم الأكمل، والجائز، فالأكمل موضع نحره ووقوفه والجائز كل جزء من أجزاء منى وعرفة ومزدلفة.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply