القرض والدين ( 2 - 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

خطر الدين

الحمد لله رب العالمينº خلق عباده فضرب آجالهم، وقدر أرزاقهم، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحيِيكُم هَل مِن شُرَكَائِكُم مَن يَفعَلُ مِن ذَلِكُم مِن شَيءٍ, سبحانه وتعالى عَمَّا يُشرِكُونَ} [الرٌّوم: 40] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيمº فما من سراء إلا وهو مانحها، ولا من ضراء إلا وهو كاشفها {وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ, فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضٌّرٌّ فَإِلَيهِ تَجأَرُونَ} [النحل: 53] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسولهº فارق الدنيا حين فارقها ولم يخلف مالا ولا متاعا، ودرعه مرهونة عند يهودي في شيء من شعير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله - تعالى -وأطيعوه {قُل يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُوا فِي هَذِهِ الدٌّنيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ,} [الزٌّمر: 10].

أيها الناس: فاوت الله - عز وجل - بين عباده في المال والجاه والقوة، وجعل بعضهم في حاجة بعض، فالأقوياء والأغنياء محتاجون إلى الضعفاء والفقراءº لإدارة ممالكهم، وتشغيل مصانعهم، ونماء تجاراتهم. والضعفاء والفقراء محتاجون إلى الأقوياء والأغنياء لتشغيلهم وإدارتهم، وتحصيل أرزاقهم منهم، وهكذا جعل الله - تعالى -رزقه دولة بين الناس يتداولونه بأنواع من الزراعة والتجارة والصناعة والإدارة وغير ذلك.

ومن طبيعة البشر أنهم لا يبذلون المال بلا عوض، ولا ينفقونه من دون عوائد دنيوية أو أخروية يرجونها من وراء إنفاقهم {وَاللهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ, فِي الرِّزقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزقِهِم عَلَى مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَهُم فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71].

ولما كان حال الناس كذلكº شرع الله - تعالى -لهم من الأحكام الشرعية المباحة ما يكون عونا لهم على تبادل المال من البيع والشراء والهبة والإهداء والصدقة والقرض الحسن وغير ذلك مما هو عوض عن التبادل المحرم من الربا والرشا والاحتكار والسرقة والغصب والنهبة وغير ذلك.

والفقير قد يحتاج إلى المال في وقت لا يجده، والغني قد لا يجد من يشتري بضاعته بالعاجل، فأحل الله - تعالى -المداينة بين الناس، وبيع حاضر بآجل، وفق شروط وضوابط تسد حاجة المحتاجين، وتمنع الوقوع في الحرام {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَينٍ, إِلَى أَجَلٍ, مُسَمًّى فَاكتُبُوهُ} [البقرة: 282] وبفضل هذا التشريع العظيم يسد الفقراء حاجاتهم المستعجلة، ويروج التجار بضائعهم الكاسدة، وتدور الأموال بين الناس.

والقرض الحسن له منزلة من الدين عظيمة، وقد رتب عليه عظيم الأجر والثواب باحتساب إقراضه لأخيه من الصدقات مع أنه لا ينقص من ماله شيء، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.

ولما كان المال عزيزا على الناس، يعدلونه بنفوسهم، ويستهلكون في تنميته جهدهم وأوقاتهم، ويدافعون عنه بأرواحهم، ومن قتل دون ماله فهو شهيد كما أن من قتل دون نفسه فهو شهيدº فإن الشريعة الغراء شرعت ما يحفظ لأهل الحقوق حقوقهم بعقود يجب الوفاء بها، ويعاقب من أخل بها بعقوبات في الدنيا والآخرة.

 

وبسبب محبة المال، والخوف عليه من الضياعº قد يحجم الدائنون عن الدين، والمقرضون عن القرضº لما يجدونه من استهانة المدينين والمقترضين بحقوقهم، ومماطلتهم في تسديد ما عليهم، فتغلق أبواب من المنافع والمصالح بين الأغنياء والفقراء، وتزول ثقة بعضهم ببعض، لأجل ذلك جاء في الشريعة وعيد شديد في حق من يضيع حقوق الناس، ويأكل أموالهم بالباطل، وتواردت النصوص على ذلك، وحذرت من التوسع في الدين والقرض لمن لا يجد سدادا فيحمل نفسه ما يعجز عن سداده، ولا يعذر بذلك، بل يبقى في ذمته حتى بعد موته، وقد يحبس عن الجنة بسبب ما عليه من الحقوق.

وبلغ من تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقوق الناس أنه كان في أول الإسلام يترك الصلاة على من عليه دين ليس له وفاءº كما روى سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه) رواه البخاري.

 

وروى جابر - رضي الله عنه - فقال: (توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حقَّ الغريمِ وبَرئَ منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن بردت عليه جلده) رواه أحمد.

ولما فتح الله - تعالى -على المسلمين الفتوح، واغتنوا بعد الحاجة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي مما أفاء الله - تعالى -عليه ديون الدائنين ويصلي عليهم، وكان هذا الفعل منه - عليه الصلاة والسلام - سنة لمن بعده من الخلفاء والأمراء أن تقضى ديون المدينين من بيوت المال، روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسألُ: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حُدِّث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال - عليه الصلاة والسلام -: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته) رواه الشيخان.

قال العلماء: في هذه الأحاديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة، وإنما ترك الصلاة على المدينين ليحرض الناس على قضاء ديونهم في حياتهم، ويبرئوا ذممهم من حقوق الناسº لئلا تفوتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم.

وقد يَحبس الدينُ صاحبه عن دخول الجنة مع استحقاقه لها برحمة الله تعالىº كما جاء في حديث سمرة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر فقال: هاهنا من بني فلان أحد؟ ثلاثا، فقال رجل: أنا، فقال: إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه) رواه أحمد، وفي رواية لأبي داود قال - عليه الصلاة والسلام -: (إن صاحبكم مأسور بدينه).

وروى الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).

وعن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: الكبر والدين والغلول) رواه أحمد.

وبلغ من خطورة الدين أن الشهيد الذي بذل نفسه وربما ماله في سبيل الله - تعالى -لا تسقط عنه أموال الناس، بل تبقى في ذمته بعد استشهاده، فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الجهاد، ورغبهم فيه، وحثهم عليه، فقال رجل: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل - عليه السلام - قال لي ذلك) رواه مسلم من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -.

وجاء في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) وفي رواية: (القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين) رواه مسلم.

وعن محمد بن جحش - رضي الله عنه - قال: (كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: سبحان الله! ماذا نُزِّل من التشديد؟ فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته: يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نُزِّل؟ فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أُحييَ ثم قتل، ثم أُحييَ ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه) رواه النسائي.

ومن كان للناس عليه حقوق كان وفاؤه يوم القيامة من حسناته وسيئاته، وفي حديث المفلس: أن من أسباب إفلاسه يوم القيامة: وأخذ مال هذا، وجاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من مات وعليه دين فليس بالدينار ولا بالدرهم ولكنها الحسنات والسيئات) رواه أحمد.

وإذا عزم المسلم على وفاء ما عليه من ديون، وأداء ما عليه من حقوقº فإن الله - عز وجل - يكون معه في ذلك، ويعينه عليه وييسره له مهما كثر ما عليه، ولا سيما إذا كانت ديونه عن ضرورة أو حاجة من نفقات واجبة أو مستحبة. بخلاف من يستدين من غير حاجة، أو لأجل المفاخرة بكماليات زائدة عن حاجته، وأقبح منه من يستدين لفعل محرم فإنه لا يعان على سداد ما عليه، عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى) رواه ابن ماجه. وعن ميمونة - رضي الله عنها - قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد يَدَّان دينا فعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه) رواه النسائي.

ومن قبيح الفعل، وعظيم الإثم: أن ينوي المستدين حال استدانته الغدر بأخيه، وعدم الوفاء له، وكم في هذا الفعل من دناءة وخيانة؟! ومقابلة إحسان أخيه إليه بإساءته هو له؟! وكم فيه من إغلاق لأبواب البر والخير بين الناس؟! ولا يفعل ذلك إلا من ضعف دينه، وذهبت مروءته، وانحطت أخلاقه.

وتبلغ الدناءة ببعض الناس مبلغا يفاخرون فيه بهذا العمل الحقير، ويعدونه فطنة وكياسة، وبابا من أبواب الكسب، وما هو والله إلا غدر وخيانة، وأكل لأموال الناس بالباطل. ومن فعل ذلك بالناس فلن ير خيرا لا في نفسه ولا أهله وولده، ولا فيما أخذ من أموال بالكذب والمخادعة، بل تكون أمواله وبالا عليه في الدنيا والآخرة.

وهذا واقع مشاهد في كثير ممن أكلوا أموال الناس بالباطل. وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.

وعموم الحديث يفيد أن الإتلاف يلحقه في الدنيا والآخرة، نسأل الله - تعالى -العافية والسلامة، ونعوذ به من موجبات غضبه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [البقرة: 196].

أيها المسلمون: كثير ممن يتخوضون في المال الحرام، ويغصبون الناس حقوقهم، ولا يؤدون لهم ما عليهمº لا يدركون خطورة التساهل في حقوق الناس. والواحد قد يعفو عن أخيه، ويُسقط حقه إذا علم عجزه عن السداد. أما إذا رآه يماطل ويخادع فإن نفسه لا تسمح عنه، وإن ترك المطالبة به في الدنيا فإنه سيطالبه به في الآخرة.

 

ويكفي عذابا في الدنيا لهذا الصنف من الخونة الغدارين: ما يعيشونه من حالة الخوف والترقب والتخفي والاستتار، بسبب ملاحقة الدائنين لهم، وجرهم إلى الشرط والمحاكم، وإهانتهم بقبيح الألفاظ والألقاب، وفضيحتهم في أهلهم وجيرانهم (وليٌّ الواجد ظلم يبيح عرضه وعقوبته) فلا بارك الله في مال تكون هذه عاقبته. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الدين) رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

ولفداحة الدين، وما ينتج عنه من مشكلات في الدنيا والآخرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله - تعالى -منه، ففي حديث عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال - عليه الصلاة والسلام -: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري. وفي حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء) رواه النسائي.

وجاء عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال: (رق الحر الدين) واشتهر عند الناس أن الدين همُّ بالليل وذل بالنهار، والسلامة من حقوق الناس سلامة من كل هذه المآثم والإهانات.

فحري بالعاقل أن لا يتوسع في الدين، ولا يلجأَ إليه إلا عند الحاجة، ولا يحملَ نفسه ما لا يقدر على سداده.

فإذا استدان وثَّق ذلك في كتاب، وضمنه وصيتهº لئلا يفجأه الموت وحقوق الناس في ذمته لا يعلم بها إلا هو.

ثم يجتهد في السداد ولو ضيق على نفسه وولده، فمنعهم ما زاد عن ضروراتهم وحاجاتهم من النفقات، وترك التوسعة عليهم حتى يقضي ما للعباد في ذمته، ويسأل الله - تعالى -المعونة على ذلكº ومن صدق في ذلك أعانه الله - تعالى -، ومن استعان بالله - تعالى -أعانه على ما يثقلهº فإن الله - تعالى -لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply