التحذير من اتباع الهوى


 

  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

وبعد:

فاعلموا أيها المسلمون أنّ كمال الإنسان لا يكون إلا بتحقيق الغاية التي من أجلها خُلق، ألا وهي عبادة الله وحده، وفي ذلك يقول - سبحانه وتعالى -: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لكن كثيراً من الناس يظن أنّ كماله لا يكون إلا بالخروج عن ما تقتضيه هذه العبودية فيتبعون أهواءهم ويفعلون كل كبيرة وصغيرة تحت مسمى الحرية. وما ذلك إلا من فرط جهلهم وعدم فهمهم للحرية الفهم الصحيح، وليت شعري هل يعلمون أنهم ليسوا أحراراً بل هم عبيد لله. وإلا فهم عبيد شهواتهم.

فالحرية ليست أن يشبع المرء رغباته وهواه بترك ما أمره الله بفعله والوقوع فيما عنه نهى الله ثم يقول: أنا حر. فلا نراه إلا سافكاً للدماء سارقاً للأموال منتهكاً للأعراض، إنها والله حرية زائفة عرجاء إنها تقود إلى الضيق في الدنيا والآخرة، فالسارق والقاتل إما أن يقضى عليهما بالسجن أو القتل في الدنيا أو العقوبة الكبيرة في الآخرة فكيف يقال عن ذلك أنه حرية؟

إن الحرية الحقيقية هي التي تحقق العدل وتنافي الظلم، وهي التي تورث الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق القيم الفاضلة وعدم التمرد على الله - سبحانه وتعالى - فالأمر أمره، والخلق عبيده، والحرية لا تعني أن تخرج المرأة سافرة تتقاذفها أعين الرجال، والحر الحقيقي هو الذي لا يملك قلبه شيء إلا محبة الله، وأما من تملكه شهوةٌ أو هوىً فهو عبدٌ أسيرٌ ذليلٌ لشهوته وهواه، ألقته الشياطين في الأرض حيران، يقول - تعالى -: {قُل أَنَدعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرٌّنَا وَنُرَدٌّ عَلَى أَعقَـابِنَا بَعدَ إِذ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي استَهوَتهُ الشَّيَـاطِينُ فِي الأرضِ حَيرَانَ لَهُ أَصحَـابٌ يَدعُونَهُ إِلَى الهُدَى ائتِنَا قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَأُمِرنَا لِنُسلِمَ لِرَبّ العَـالَمِينَ [الأنعام: 71].

وإنّ الحرية الحقيقية تكون في العبودية الكاملة لله رب العالمين فإما أن تكون عبداً للرحمن وإما أن تكون عبداً للشيطان، وعندها ستكون في غاية الذل والهوان، وقد أخذ الله العهد على بني الإنسان أن لا يعبدوا الشيطان{ أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعبُدُوا الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوُّ مٌّبِينٌ وَأَنِ اعبُدُونِى هَـاذَا صِراطٌ مٌّستَقِيمٌ} [يس: 60، 61].

فحينما يتبع الإنسان هواه في كل صغير وكبير يذل ويهان في الدنيا والآخرة يقول - تعالى -: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الحَيَواةَ الدٌّنيَا فَإِنَّ الجَحِيمَ هِىَ المَأوَى وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِىَ المَأوَى} [النازعات: 37-41].

ويقول - تعالى -: {أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلمٍ, وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَـاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

والذين يتبعون أهواءهم يضلون عن سبيل الله ويرثون العذاب المهين يقول - تعالى -: {يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَـاكَ خَلِيفَةً فِي الأرضِ فَاحكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلٌّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَابِ} [ص: 26].

إن عذاب الله يوم يقوم الأشهاد لا يدفعه الهوى ولا اللهو، وإنما يدفعه الإيمان والعمل، لقد قدم الحسن البصري على جنازة وكان معه أخ له فقال ترى لو عاد هذا الميت إلى الدنيا ماذا كان يصنع؟ قال: يزداد من الحسنات ويقلع عن السيئات. قال: إن لم يكن هو فكن أنت.

ويقول أحد الحكماء يعتب على من اتبع هواه وضيع عمره في اتباع شهواته:

ذهب العمـر وفات  * * * يا أسـير الشـهوات

ومضـى وقتك في * * *  لهو وسهود وسبـات

بينما أنت في غيك  * * * حتـى قيـل مـات

إن العمر لحظات تعد وأنفاس ترد فكيف يضيعه الإنسان في اتباع الهوى، يقول سهل بن سعد: (جاء جبريل إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيُّ به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فالمؤمن الفطن هو الذي لا يضيع عمره جرياً وراء شهوة أو هوى وإنما هو من يحرص على ما ينفعه في دنياه وآخرته.

أنت فـي دار شـتات * * * فتأهل لمماتـك

واجعل الدنيا كيوم  * * *صمته عن شهواتك

وليكـن فطرك عند  * * * الله في يوم وفاتك

أيها المسلمون، حسبنا المقارنة بين أهل التقوى من غض للبصر وصلة للرحم ومودة للجار وعطف الغني على الفقير واجتماع الأسرة وبر للوالدين وبين ما يعيشه أهل الحرية العرجاء والفجور من تفكك أسري وانهيار اجتماعي وأخلاقي، فأي الفريقين أهدى إن كنتم تعلمون؟

اعلموا أيها الأحبة في الله أن الهوى والشهوات أنواع، من أشدها على الإنسان شهوة الفرج، فهي أشد من أي هوى آخر، وقد علم ذلك بنو صهيون فجعلوا له فقرة في بروتوكولاتهم، تقول: (إنّ الشهوة هي أشد من أي هوى آخر تدمر ولا ريب كل قوى التنبؤ بالعواقب. وهي تصرف عقول الرجال نحو أسوأ جانب في الفطرة الإنسانية).

وهكذا يوجهون العالم إلى هاويته ونهايته بالتحلل الجنسي الذي يقودونه في القرن العشرين.

ولقد حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشهوة الجنسية واتباع الهوى فيها أشد الحذر إذ قال: ((إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم و فروجكم ومضلات الهوى)) رواه الإمام أحمد.

وهناك لهو الحديث فمن الناس من يشتريه ليضل عن سبيل الله كما يقول ربنا - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشتَرِى لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلمٍ, وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَـئِكَ لَهُم عَذَابٌ مٌّهِينٌ وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِ ءايَـاتُنَا وَلَّى مُستَكبِراً كَأَن لَّم يَسمَعهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقراً فَبَشّرهُ بِعَذَابٍ, أَلِيمٍ,} [لقمان: 6، 7]. وقد قال بعض المفسرين أن المراد بلهو الحديث هنا الغناء، فمن اتبع هواه وأطلق لأذنيه العنان في سماع الغناء ليل نهار فإنه يخشى عليه خاتمة السوء، فمن عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه.

فكيف يقابل ربه من مات على سماع الغناء الماجن الخليع الواصف لجسد المرأة فسوف يبعث على ذلك يوم القيامة، فيا للخزي حين يأتي الشهيد يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ويبعث المحرم يلبي: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، ويبعث ذلك الذي مات على الغناء وهو يردد ما كان يغني به.

 

يقول أحد الصالحين:

برئنـا إلى الله من معشـر  * * * بهم مرض من سـماع الغنـى

وكـم قلت يا قـوم أنتـم   * * * على شفا جرف مـا به من بنا

شفـا جـرف تحته هـوة   * * *  إلى درك كـم بـه من عنـى

وتكرار ذا النصـح منا لهم    * * * لنعــذر فيهـم إلى ربنــا

فلمـا استهانـوا بتنبيهنـا * * *  رجعنـا إلى الله في أمـرنـا

فمتنا على سنة المصطفـى * * *  ومـاتـوا على تنتنـا تنتنـا

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنّ ربي غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله وكفى. وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس، اعلموا أن المؤمن الحق يبادر اللحظات ليفوز بالجنة والتي لا يدخلها إلا المتقون {تِلكَ الجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِن عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: 63].

وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله بلا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أيسر منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).

فالمؤمن عليه أن يتقي هذه النار بكل ما يملك، لا أن يغمس نفسه فيها، وعليه أن يقاوم هوى النفس وذلك بأن يعتصم بالله - تعالى -ويلتزم فعل الطاعات وترك المعاصي، وكذلك عليه أن يصاحب الأخيار ويبتعد عن الأشرار الذين يتبعون أهواءهم، يقول - تعالى -: {وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلاَ تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَواةِ الدٌّنيَا وَلاَ تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

وفقنا الله - تعالى -لما يحبه و يرضاه.

اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين اللهم آمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply