حبذا .. لو فقهنا الحج


بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

على مشارف قريتنا وفي نهاية يوم الخميس من كل أسبوع، اعتدنا أن نقف مع باقي الأطفال ننتظر القادمين من السوق الأسبوعي محمّلين بالبضائع.. باع منهم من باع واشترى منهم من اشترى.. فكسب منهم من كسب، وخسر منهم من خسر، فقدِم بعضهم سعيداً وجاء بعضهم منكسراً حزيناً.

واليوم وبعد عشرات السنين رأيتني أقف على مشارف البلاد لأرى فلول الحجيج وقد عادوا من رحلتهم الكبرى... وأرى في عيونهم تلك التعبيرات التي كنت أراها في عيون القادمين من السوق.. منهم فرِحٌ بما كسب من رضا الله ومغفرته فهو عائد كيوم ولدته أمه، فمطعمه حلال وملبسه حلال... ولقد كان في حجه صابراً محتسباً، فلم يرفث ولم يفسق ولم يجادل، فهو عائدٌ من ضيافة ربه فرِحٌ متهلل وكأنه قد سمع - بآذان قلبه سمع - الرحمن يقول له لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، غير مأزور، فهو فرحٌ برضوان ربه، متمسك بما أنعم عليه بفيض نعمه، عازمٌ على أن يتمسك بالنور الذي تلألأ في وجهه ولا يعود أبداً إلى سابق عهده.

 

والآخر عائد مهزوماً نفسياً (فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) أنفق ماله وبذل جهده ولكنه عاد محمّلاً بأوزاره وأوزاراً مع أوزاره، فهو في حجه لم يكُف عن الجدال، ولم ينته عن الفسوق، و لم يتحرى النية، ولم يتحرى الحلال في ماله، ولم ينّق قلبه من أمراض القلوب.. فكأنه يشعر بيديه وقد رُدتا إليه خائبتين بعدما رفعهما ملبياً، وكأنه سمع صوتاً يهز كيانه وحده - بين الحاضرين الباكين الخاشعين المتذللين - ويقول له وحده: 

لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مأجور، فهذا خسر الدنيا والآخرة، خسر وقته، وخسر جهده وماله، فلقد ذهب إلى هناك، ذهب مع الذاهبين ولكنه كان يحمل حقده وضغينته وعنصريته وتفاخره بمنصبه وجاهه وجنسيته بين جنبيه، ثم عاد مع العائدين وهو ما زال يحمل ما كان يحمل، ويعتز بما كان يعتز، ويتفاخر بما كان يتفاخر به من جنس ونوع وجاهلية، ويصر على ما كان يفعل من معاصي، ويحلم بالعودة لممارسة الرذيلة، ويتباهى بقدرته على الغش والخديعة والتلاعب، ونصب الفخاخ، والإيقاع بالآخرين، والطعن من الخلف.

 

فيا ليتنا فقهنا حكمة الحج ومشروعيتة.. فهو لم يُفرض لكي يذهب الناس ليُعذبوا نفسياً وجسدياً بين طواف وسعي ورمي، ووقوف على الجبال طوال النهار، ومبيت في الصحراء طوال الليل يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ولا لكي ينفق الناس أموالهم في تنقلهم وإقامتهم.

 

ولكنه مؤتمراً سنوياً عامّاً لكل مسلمي العالم يأتيه مندوبون من كافة الأقطار الإسلامية ليجددوا البيعة لهذا الدين ويجددوا الانتماء لهذا الدين ويجددوا الولاء لهذا المكان، ولهذه الرسالة وليعلنوا لأنفسهم وللعالم أجمع أنهم ومن خلفهم من المسلمين سائرون على نفس الخطى التي سار عليها رسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم -، سائرون على نفس الخطى الحسية والمكانية، سائرون على نفس الخطى النفسية والمعنوية والعقائدية.. وليقتبسوا الهدى والنور من النبع الأول للهدى والنور، ومن المحض الأول للرسالة والرسول، وليعودوا بعدها سفراءً إلى بلادهم وإلى ذويهم (ليسيروا على هدى ذلك النور الذي اقتبسوه) حتى المؤتمر القادم من العام القادم، وهكذا كان الحجيج من الرعيل الأول يذهبون إلى هناك ليتعلموا المزيد عن الإسلام ويجددوا البيعة على الثبات عليه، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقابل الوفود هو وأصحابه فيسألون ويناقشون ويبايعون، ثم يعودون إلى بلدانهم سفراء لهذا الدين.

 

فهل شعر حجيجي اليوم بهذه المعاني! هل شعروا بأنهم وهم قرابة الثلاثة ملايين لابد أن يعودوا بعد الحج أحسن مما ذهبوا إليه وأتقى مما ذهبوا! هل شعروا بأنهم لابد أن يتمسكوا بما اختلج في قلوبهم من معانٍ, وأحاسيس وروحانية وشفافية عانقتها أرواحهم في هذه الرحلة! هل شعروا بأنهم لابد أن يتمسكوا بالدين وتعاليمه ويعضون عليه بالنواجذ لأنهم- من خلصت حجته منهم عاد كيوم ولدته أمه فلا بد أن يتمسك بهذه الفرصة، فلقد مُحيت ذنوب عشرات السنين! هل شعروا بأنهم كانوا سفراء لبقية من لم يكتب لهم الحج ليعودوا لهم محمّلين بمعانٍ, جديدة وبدفعةٍ, جديدة نحو الإيمان الصادق! هل شعروا بأنهم لابد أن ينتشروا بين الناس مصححين ما أفسده الدهر، مذيبين ما تراكم على قلوبهم من ران ليأخذوا بأيديهم نحو ما شعروا به من سمو الروح وشوق للجنة.

 

فوالله ثم والله لو فقهنا ذلك ما كنا قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التفكك والتشرذم والحزبية والعنصرية والسطحية الفكرية والميوعة العقائدية، فالعام تلو العام، والحج بعد الحج، والعمرة بعد العمرة، والسفراء بعد السفراء، والسفراء غير السفراء، كل هذا لو فقهنا وعلمنا وصلحت نوايانا لكنا قد تغَيرنا وغَيرنا وتأثرنا وأثَرنا.. ولكن للأسف أصبحنا - وكما حذرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - غثاءٌ كغثاء السيل.. أفواج ذهبت للحج، أفواج تطوف، وأفواج تسعى، وأفواج تتدافع، وطائرات تنقل الحجيج من وإلى الأراضي المقدسة، وسيارات وحافلات وبواخر.. حالة طوارئ واستنفار في أجهزة الأمن والمطارات ومواقف السيارات.. جوازات سفر وتأشيرات وموافقات، ومسموحات وممنوعات، وشيكات ومراسلات.. أفواج بالملايين، ونفقات بالملايين، ولكن! وآهٍ, مِن لكن! لكنها القلوب.. قلوبٌ شتى، مختلفة ومتخالفة، جامدة غير متآلفة، وانقسامات وعرقيات، وفرق وعنصريات، وطبقيات ومحسوبيات، وحُفر يحفرها الأخ لأخيه، وفخاخ ينصبها الزميل للزميل، وأحقاد يحملها الجار لجاره.. ومن كان غير هؤلاء وهؤلاء فهو تائه غافل لاهٍ, عما يحدث لدينه ووطنه، لا يهمه النار التي تحوم حول بيته وولده، لا يدري بل لا يُتعب نفسه بأن يحاول أن يدري أن النار آكلته وولده وبيته لا محالة.

 

آهٍ, ثم آهٍ,.. آهٍ, لو تلاحمت قلوبنا.. آهٍ, لو أزيل الران من عليها.. آه لو صفت النفوس.. آه لو خلُصت النوايا.. آه لو تحررنا من جاذبيتنا للأرض وعلاقتنا بالطين.. آه لو سمت الأرواح.. آه لو ذابت الشحوم في سبيل الله، آه لو تعانقت الأرواح بدلاً من تعانق الكروش، آه لو خفقت بالحب القلوب.. أه لو فقهنا درس الحج، والعبرة من الحج، وآه لو عملنا بما فقهنا، وتحرينا عمّا جهلنا، لعدنا كما كنا خير أمةٍ, أخرجت للناس.

 

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply