حسن الخاتمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

  الخطبة الأولى:

إن الحمد نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مظل له ومن يظلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبد ه ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد

أيٌّها الأخوةُ في الله:

إنَّ من تقديرِ الله - تعالى - لهذا الكونِ العريضِ حصولَ الحوادثِ وجريانَ المواقفِ، والناسُ تجاهَ تلك الأحداثِ والمواقفِ على أصنافٍ, شتىَّ، فصنفٌ من الناس اتخذوها عبرةً و مدكراً فراجعوا أنفسَهم، وقلَّبوا أوراقهَم قبل أن يحلَ بهم ما حلَّ بغيرهم، فاستعدوا لما أمامَهم، وآخرون كأن الأمرَ لا يعنيهم لا من قريبٍ, ولا من بعيد، قاسيةٌ قلوبهُم، فلا تؤثرُ فيهم المواقفُ، ولا تفزعهم الأحداثُ الرهيبةُ، وطائفةٌ أخرى أشدُ وأنكى، وأظلمُ وأطغى، فقلبوا الحقائقَ، وعارضوا الخالقَ، فراحوا يُخادعون الناسَ ويحرفون المواقفَ وفقَ شهواتهِم وملذاتهِم، وتصوراتهِم وأفكارهِم، فجعلوا من الباطلِ حقا، ومن المنكرِ معروفا، وتفانوا في محاولةٍ, لصرف الناسِ عن الاعتبار والإدكار، في مثلِ تلك الأحداثِ الكبارِ، واستغفلوا عقولَ الناسِ كأنَّهم لا يفقهون.

ومن تلك المواقفِ التي لنا معها وقفاتٌ وعبراتٌ، وعظاتٌ وعِبارات، والتي تغني عن سردِ مواقفَ مشابهةٍ, من التاريخ، ما جرى أمامَ مرأى ومسمعٍ, من ملايين الناسِ وعلى الهواءِ مباشرةً، في ليلةٍ, هي من أعظمِ الليالي، وفي ساعةٍ, هي من أشرفِ الساعات، وبينما الناسُ في طربهِم ولهوهِم، إذ دخل عليهم ملكُ الموتِ، إي وربي ملكُ الموتِ، وقد أُمرَ بقبضِ قائدهِم فقبضَ على حالةٍ, يُرثى لها - نسألُ الله - تعالى -السلامةَ والعافيةَ - وإننا إذ نذكرُ ذلك لا نشمتُ بالميتِ فقد قضى نحبه، وأفضى إلى ربهِ، واللهُ - تعالى -يتولاهُ وأعلمُ به، ونسألُ اللهَ - تعالى -أن يرحم أمواتَ المسلمين.

أمَّا بعد:

أيٌّها المسلمون: إنَّ مثلَ هذا الموقفِ المهولِ لو حُدّثَ به المصلحون لتوقفَ بعضُ الناسِ في قبولهِ وتصديقِه، وقالوا إنَّهُ كذبٌ وهراءٌ، ودجلٌ وافتراء؟ ولكن أبى اللهُ -جلَّ جلالهُ - إلاَّ أن تكونَ الآيةُ عامةً للناسِ يشهدُها الجميعُ، الكبيرُ والصغيرُ، العزيزُ والحقيرُ، يرونَ رجلاً يُصرعُ أمامَ أبصارهِم، يرونهُ يلقى حتفَهُ وهو يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ على كلماتِ التوحيد؟ كلاَّº على كلماتِ الاستغفارِ والتمجيد؟ كلاَّº بل على كلماتِ الأغاني الهابطة، يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ وهو يُبارزُ اللهَ - تعالى -بالمعاصي!! يلفظ أنفاسَهُ الأخيرةَ وهو متحضنٌ عودَهُ ومزمارَه!!

فيا للهِ ما أعظمَ هذا الموقفِ؟ ويا لله ما أجلَّ هذا الخطبِ؟!! ويا لله ما أروعَ هذا المشهدِ!! فأيٌّ إنسانٍ, يرى ذاك المشهدَ الرهيبَ ولا ترتعدُ فرائصُه!! وينخلعُ قلبُه!! وتضطربُ نفسُه!! نسألُ اللهَ - تعالى -حُسنَ الخاتمةِ، ولكن أبى الظالمون إلاَّ ضلالاً حتى قال قائلُهم: سوفَ يكونُ ارتيادُنا على خشبةِ المسرحِ الذي تُشرَّفُ بموتِك سيكونُ لنا مصدرَ فخرٍ, وإعزازٍ, نواصلُ عليه مشوارَك الذي بدأَته! إلى أن قالَ: لقد ضربتَ لنا مثلاً كيف تموتُ الأبطالُ؟ كيف تموتُ الفرسانُ في ميادينِها؟ [1]

قولوا لي بربِكم أيٌّها الناس، أيٌّ بطولةٍ, في مبارزةِ اللهِ - تعالى -في انتهاكِ حدودِه؟ وهل يستطيعُ الصمودَ والثباتَ من يُبارزُ الجبارَ بالمعاصي؟ وَلَيغُلبنَ مُغالبُ الجبارِ، ثم أيُ بطولةٍ, التي قالَ عنها سلفنُا الصالحُ: إنَّما يفعلهُ عندنا الفساقُ!! وأيُ بطولةٍ, في نشرِ عباراتِ الغرامِ والغزلِ بين المؤمنين!! أيٌّ بطولةٍ, في إضلالِ أبناءِ المسلمين!! أيٌّ بطولةٍ, في التسببِ في هتكِ الأعراضِ!! وضياعِ الأموالِ!! ثم أيٌّ فروسيةٍ, تلك التي يقصدون، أهي فروسيةُ الخنا والغرامِ؟!! أم الضربِ على العودِ والناسُ نيامٌ؟!! فتباً لتلك الفروسيةِ وسحقا، ويقولُ آخر: وفجأةً، ترجلَّ الفارسُ، مات ولكن منتصباً كما تموت الأشجارُ، وكما يمضي الأبطالُ وسلاحُهم يضمُونهُ إلى صدورهِم، مضى المطربُ الأصيلُ محتضناً عودَهُ الذي طالما دندن فأطرب..)[2] هذه شهادتهُم عليه ستكتبُ شهادتهُم ويسألون!! فأيٌّ عاقلٍ, يرجو أن يموتَ وهو يبارزُ اللهَ بالمعاصي، أيٌّ عاقلٍ, يرجو أن يُشهدَ عليه بمثلِ هذه الشهادةِ؟!! مات متحضنٌ عودَهُ الذي طالما دندنَ فأطرب!! أيٌّ عاقلٍ, لبيبٍ, يرجو أن يُبعثَ على مثلِ تلك الحالةِ المقززةِ، أناسٌ يبعثونَ يوم القيامةِ وهم يُلبون ويُهللونَ ويُكبرون، وأناسٌ يبعثونَ وهم يغنون!! أناسٌ يُبعثون وهم يتشحطون بدمائهم الزكيةِ التي سالت في سبيلِ الله!! وأناسٌ يبعثونَ وهم يحتضنون آلةَ اللهوِ والطربِ!! فرحماكَ اللهمَّ ثُمَّ رحماك، صدقَ اللهُ ومن أصدقُ من الله قيلا: ((أَفَنَجعَلُ المُسلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ * مَا لَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ)) (سورة القلم: 36، 35).

ويقولُ اللهُ - جلَ جلاله-: ((أَفَمَن كَانَ مُؤمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَستَوُونَ)) (سورة السجدة: 18).

ويقولُ آخرُ - وقبحَ اللهُ ما قال: (لم يسقط من على مسرحِ الوطنِ ميتاً بل وُلدَ حياً، لنستيقظَ نحنُ، ونتعلمَ كيف يموتُ المبدعون فداءً لترابِ هذه الأرضِ.. ) ([3])

أيٌّ إبداعٍ, في انتهاكِ حُرماتِ اللهِ!! وأيٌّ إبداعٍ, في تعدِي حدودِه!! إنَّهم دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، من أجابهَم قذفوهُ فيها، النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ليكونَّن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) وهؤلاءِ لم يكتفوا بأن جعلوا الغناءَ حلالاً، حتى جعلوهُ فخراً وإجلالا، و بطولةً وإبداعاً!! ولو قيلَ لهذا وأمثالِه: إنَّك ستموتُ في تلك الأرضِ؟ هل ستطؤها أقدامُهُ من أجلِ الوطنِ؟!! وفداءً لترابِ الوطنِ؟!! إنَّهُ الدجلُ الإعلاميُ، والصخبُ الصحفيُ، إنَّ هؤلاءِ الذين ملئوا الصحفَ ضجيجاً وهراءً، سيكونون أولَ المعادينَ لهُ في يومٍ, يجمعُ اللهُ فيه الخلائقَ ويقفونَ أمامَ الخالقِ، مصداقاً لقولِ الله - تعالى -: ((الأَخِلَّاء يَومَئِذٍ, بَعضُهُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ إِلَّا المُتَّقِينَ)) (سورة الزخرف: 67).

وإنَّ عداءَ الأخلاءِ لينبعُ من معينِ ودادِهم، لقد كانوا في الحياةِ الدنيا يجتمعونَ على الشر، ويملي بعضُهم لبعضٍ, في الضلال. ولكنَّ عند وقوفِهم بينَ يدي الجبارِ جلَّ جلالهُ يتلاومون. في ذلكَ اليوم يلقي بعضُهم على بعضٍ, تبعةَ الضلالِ وعاقبةَ الشرِ. في ذلكَ اليوم ينقلبون إلى خصومٍ, يتلاحونَ، من حيثُ كانوا أخلاءَ يتناجون!

(إلاَّ المتقين) فهؤلاءِ مودتهُم باقيةٌ، فقد كان اجتماعُهم على الُهدى، وتناصحُهم على الخيرِ، وعاقبتُهم إلى النجاة.

أمةَ الإسلام: شتانَ بين من يموتُ في ليلةِ الجمعة، وفي الثلثِ الأخيرِ من الليل، وهو قانتٌ آناءَ الليلِ ساجداً وقائماً، يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِه، وبين من يموتُ وهو متحضنٌ عودَهُ ومزمارَه!! شتان بين من يموتُ وقد خلَّف وراءَهُ علماً ينتفعُ به، وبين من يموتُ وقد خلَّفَ أكثرَ من ألفِ أغنيةٍ,!! شتَّان بين من يموتُ وهو مقبلٌ في ساحةِ الوغى غيرَ مدبرٍ,، يقاتل الكفار، ولا يُولِّيهم الأدبارَ، وبين من يموتُ وهو في أحضانِ زانيةٍ, أو فاجرة!! شتَّان بين من يموتُ وهو مرابطٌ في الثغورِ لحمايةِ حمى المسلمين، وبين من يموتُ وهو مرابطٌ على مشاهدةِ القنواتِ الفضائيةِ!! شتَّان بين من يكون آخرُ كلامِه من الدنيا كلمةَ التوحيدِ، وبين من يموتُ وآخرُ كلامِه من الدنيا ألفاظَ الغناءِ وعباراتِ الخنا، إننا لا نشهدُ لأحدٍ, لا بجنةٍ, ولا بنارٍ, إلاَّ من شهدَ لهُ القرآنُ والسنةُ، ولكننا نرجو للمحسنِ ونخافُ على المسيء، هُناك في سكراتِ الموتِ، وحشرجةِ الصدرِ. ((يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلٌّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)) (سورة إبراهيم: 27).

وسُبحان الله!! كم شاهدَ الناسُ من هذا عبرا!! والذي يخفي عليهم من أحوالِ المحتضرين أعظمُ وأعظمُ.

أيٌّها الناس: كيف يوفقُ لحسنِ الخاتمةِ من أغفلَ اللهُ - سبحانه - قلبَهُ عن ذكرِه، واتبع هواه، وكان أمرُه فرطاً؟!! فبعيدٌ مَن قلبُه بعيدٌ من الله - تعالى -، غافلٌ عنه، متعبدٌ لهواه، أسيرٌ لشهواتِه، ولسانُه يابسٌ من ذكرِه، وجوارحُهُ معطلةٌ من طاعتِه، مشتغلةٌ بمعصيتِهº أن يوفقَ لحسنِ الخاتمةِ

لقد قطع خوفُ الخاتمةِ ظهورَ المتقين، بكى سفيانُ الثوريٌ ليلةً إلى الصباح، فلمَّا أصبحº قيلَ لهُ: كلُ هذا خوفاً من الذنوب؟ فأخذَ تِبنَةً من الأرضِ، وقال: الذنوبُ أهونُ من هذا، وإنما أبكى خوفاً من سوءِ الخاتمةِ ([4]). وكأنَّ المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعاً بالأمانِ من ربِّ العالمين، ((أَم لَكُم أَيمَانٌ عَلَينَا بَالِغَةٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ إِنَّ لَكُم لَمَا تَحكُمُونَ* سَلهُم أَيٌّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ)) (سورة القلم: 40، 39).

 

قال الحافظُ أبو محمدٍ, عبدُ الحقِ الإشبيل- يرحمه الله -: واعلم أنَّ لسوءِ الخاتمةِ - أعاذنا الله منها - أسباباً ولها طرقٌ وأبواب: أعظمُها الانكبابُ على الدنيا، والإعراضُ عن الآخرةِ، والإقدامُ والجرأةُ على معاصي اللهِ - عز وجل -، ورُبَّما غلبَ على الإنسانِ ضربٌ من الخطيئةِ، ونوعٌ من المعصيةِ، وجانبٌ من الإعراضِ، ونصيبٌ من الجرأةِ والإقدام ِ، فملكَ قلبَهُ وسبي عقلَه، وأطفأ نورَهُ، وأرسلَ عليه حجبَهُº فلم تنفع فيه تذكرةٌ، ولا نجحت فيه موعظةٌ، فرُبما جاءهُ الموتُ على ذلك، فسمعَ النداءَ من مكانٍ, بعيدٍ,، فلم يتبين له المرادُ، ولا علم ما أراد، وإن كررَ عليه الداعي وأعاد، فعياذاً بالله من سوءِ العاقبةِ وشؤمِ الخاتمةِ.

أحبتي الكرام:

لقد وَهِمَ وهماً كبيراً وأخطأ خطأً فادحاً من ظنَ أنَّه لو فعلَ ما فعل، ثمَُّ قال: أستغفرُ اللهَº زالَ أثرُ الذنبِ وراحَ هذا بهذا!!

وهذا الصنفُ من الناسِ قد تعلقَ بنصوصٍ, من الرجاءِ، واتكل عليها، وتعلقَ بها بكلتا يديه، وإذا عوتبَ على الخطايا والانهماكِ فيهاº سردَ لك ما يحفظهُ من سعةِ رحمةِ الله ومغفرتِه ونصوصِ الرجاءِ، فلا إلهَ إلاَّ الله، كيفَ يجتمعُ في قلبِ العبدِ تيقنُهُ بأنَّهُ مُلاقٍ, الله، وأنَّ اللهَ يسمعُ كلامُه، ويرى مكانَه، ويعلمُ سرَّهُ وعلانيتَه، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أمرِهº وأنَّهُ موقوفٌ بين يديه، ومسؤولٌ عن كلِ ما عملº وهو مقيمٌ على مسا خطه، مضيعٌ لأوامرِه، معطلٌ لحقوقِه، وهو مع هذا يحسنُ الظنَ به!!

وهل هذا إلاَّ من خدعِ النفوسِ، وغرورِ الأماني؟!! قال أَبِو أُمَامَةَ سَهلُ بنُ حنيفٍ,: دَخَلتُ أَنَا وَعُروَةُ بنُ الزٌّبَيرِ عَلَى عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فَقَالَت: لَو رَأَيتُمَا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-ذَاتَ يَومٍ, فِي مَرَضٍ, له، وَكَانَت عِندِه سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَو سَبعَةٌ، فَأَمَرَنِي رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-أَن أُفَرِّقَهَا. قَالَت: فَشَغَلَنِي وَجَعُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنهَا، فَقَالَ: ((مَا فَعَلَتِ؟ أكنتِ فرقتِ السِّتَّةُ دنانير؟ )) فقُلتُ: لَا وَاللَّهِº لَقَد شَغَلَنِي وَجَعُكَ، قَالَت: فَدَعَا بِهَا ثُمَّ وضَعهَا فِي كَفِّهِ، فَقَالَ: ((مَا ظَنٌّ نَبِيِّ اللَّهِ لَو لَقِيَ اللَّهَ - عز وجل - وَهَذِهِ عِندَهُ؟ \" وفي لفظ: \" ما ظنٌّ محمدٍ, بربِّهِ لو لقي اللهَ وهذه عنده)) ([5])

فيا لله!! ما ظنُ أصحابِ الكبائرِ إذا لقوا الجبارَ جلَّ جلالهُ بتلك الذنوبِ العظامِ، والخطايا الجسامِ؟!! ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما ظنٌّ محمدٍ, بربِّهِ لو لقي اللهَ وهذه عنده)) ما ظنُ أصحابِ الفنِ والغناءِ إذا لقوا القهارَ وهم يحملون أوزارَهم كاملةً يومَ القيامةِ، ومن أوزارِ الذين يضلونهم بغير علمٍ, ألا ساءَ ما يزرون!!

إنَّ حسنَ الظنِ يا مسلمون ينفعُ من تابَ، وندمَ، وأقلعَ، وبدَّلَ السيئةَ بالحسنةِ، واستقبلَ بقيةَ عمرِه بالخيرِ والطاعةِ، ثم أحسنَ الظنَ، يقول الله - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (سورة البقرة: 218).

فجعل هؤلاءِ أهلَ الرجاءِ، لا الظالمين ولا الفاسقين، ويقول - تعالى -: ((ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (سورة النحل: 110).

فأخبر - سبحانه - أنَّه بعد هذه الأشياءِ غفورٌ رحيمٌ لمن فعلها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

 

الخطبة الثانية:

أيٌّها الأخوةُ في الله: كثيرٌ من الجهَّال اعتمدوا على رحمةِ اللهِ وعفوهِ وكرمهِ، وضيَّعوا أمرَهُ ونهيَه، ونسوا أنَّهُ شديدُ العقابِ، وأنَّهُ لا يُردٌّ بأسُهُ عن القومِ المجرمين.

ومن اعتمدَ على العفو مع الإصرارِ على الذنبِ فهو كالمعاند، وأيٌّ إصرارٍ, أشدُ من أن يستمرَ العبدُ على فعلِ المعازفِ أكثرَ من أربعينَ عاما.

قال معروف: رجاؤك لرحمةِ من لا تطيعُهُ من الخذلانِ والحمق.

وقال بعضُ العلماءِ: من قطعَ عضواً منكَ في الدنيا بسرقةِ ثلاثةِ دراهمَº لا تأمن أن تكونَ عقوبتَهُ في الآخرةِ على نحوِ هذا.

وسألَ رجلٌ الحسنَ فقال: يا أبا سعيد: كيف نصنعُ بمجالسةِ أقوامٍ, يخوفوننَا حتى تكادُ قلوبُنا تنقطع؟ فقال: واللهِº لأن تصحبَ أقواماً يخوفونَكَ حتى تدركَ أمناً خيرٌ لك من أن تصحبَ أقواماً يُؤمنُونك حتى تلحقكَ المخاوف.

ومن تأملَ أحوالَ الجيلِ الفريدِ - أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم- وجدهم في غايةِ العملِ مع غايةِ الخوفِ، ونحنُ جمعنا بين التقصيرِ - بل التفريطِ - والأمنِ!

فهذا الصديقُ- رضي الله عنه- يقول: وددتُ أنَّي شعرةٌ في جَنبِ عبدٍ, مؤمن.

وهذا عمرُ بنُ الخطاب قرأ سورةَ الطورِ إلى أن بلغ قولَه: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)) (سورة الطور: 7).

فبكى، واشتدَّ بكاؤه، حتى مرضَ وعادوه.

وقال لابنهِ وهو في سياقِ الموتِ: ويحك! ضع خدي على الأرضº عساهُ أن يرحمنَي، ثُمَّ قال: ويلَ أمِّي إن لم يغفرِ اللهُ ليº ثلاثا ثم قضى.

وهذا عثمانُ بنُ عفانَ- رضي الله عنه- كان إذا وقفَ على القبرº يبكي حتى تبلَّ لحيتُه.

وقال: لو أنني بين الجنةِ والنارِ، لا أدري إلى أيتهِما يؤمر بيº لاخترتُ أن أكونَ رماداً قبل أن أعلمَ إلى أيتهِما أصير.

وقرأ تميمٌ الداريُ ليلةً سورةَ الجاثيةِ فلمَّا أتى على هذه الآية: ((أًم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاء مَا يَحكُمُونَ)) (سورة الجاثية: 31).

جعل يرددُها ويبكي حتى أصبح.

وقال أبو عبيدةَ عامرُ بنُ الجراحِ: وددتُ أني كبشٌ، فذبحني أهلي، وأكلوا لحمي وحَسَوا مرقي.

ألا إنَّها دعوةٌ للجميعِ عامةً ولمن سلكَ دربَ الفنِ والغناءِ خاصة، أن يعودوا إلى ربهِم، وينتهوا عن غيِهم، وأن يتعظوا بغيرهم قبل أن يتعظَ غيرُهم بهم، فالعمرُ قصيرٌ، والموتُ قريبٌ، والموقفُ مهولٌ، والحسابُ عسير، وهي جنةٌ أو نارٌ، فتبرأُ من صنعتِك التي تقربكَ إلى النار، وتخلَ عن مهنتِِك التي تُباعدك عن الجنة، واحذر مجالسةَ المُخذِّلين، إي وربي الذين يغرونكَ بالمالِ والشهرة، والمنصبِ والجاه، أو يقعدونكَ ويسلبها، فإنَّهم لا ينفعونَك، يقول الله - تعالى -: ((إِذ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتٌّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الأَسبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنهُم كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعمَالَهُم حَسَرَاتٍ, عَلَيهِم وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) (سورة البقرة: 167، 166).

ألا إنَّها دعوةٌ للحذرٍ, من الاغترارِ بأقوالِ أهلِ الصحافةِ والدجلِ، فو الله لن يغنوا عنكَ من الله شيئا، ((يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيم)) (سورة الشعراء 89، 88).

وماذا ينفعُ العبدُ إذا ماتَ أن يقال عنه: رحيلٌ لا يليقُ إلاَّ بالكبار!! وأيٌّ إكبارٍ, أن تموتَ وأنت تبارزُ اللهَ - تعالى -بالمعاصي.

ألا إنَّها دعوةٌ للحذرِ من الزخَمِ الصحفي الذي يصورُ المنكرَ معروفاً، والباطلَ حقاً، وسوءَ الخاتمةِ شهادة و بطولةً وإقداماً، فالغناءُ محرمٌ بنصِ الكتابِ والسنةِ وإجماعِ العلماءِ، ومن ماتَ على شيءٍ, بعثهُ اللهُ عليه، كما قال- عليه الصلاة والسلام - [6]، فهل تحبُ أن تبعثَ يومَ القيامةِ على هذهِ الحالةِ؟ نسألُ اللهَ - تعالى -السلامةَ والعافيةَ، ومن أحبَّ قوماً حُشرَ معهم.

ألا إنَّها دعوةٌ للحذرِ من التعجلِ في الحكمِ على الناسِ بجنةٍ, أو نارٍ,، فأهلُ السنةِ والجماعةِ يعتقدونَ بأنَّ أهلَ الكبائرِ تحتَ مشيئةِ اللهِ - تعالى -، إن شاءَ عذبهَم وإن شاءَ عفا عنهم، ونحنُ نرجو للمحسنِ ونخشى على المسيء.

إلاَّ إنَّها دعوةٌ للحذرِ من التعلقِ بالرجاءِ وسعةِ رحمةِ الله بلا عملٍ,، فقد دخلت امرأةُ النارَ في هرةٍ,، واشتعلت الشملةُ ناراً على مَن غلَّها، وقد قُتِل شهيداً فيما يحسبه الناسُ.

اللهمَّ إنَّ نعوذُ بك من جهدِ البلاءِ ودركِ الشقاءِ، وشماتةِ الأعداءِ، وسُوء القضاء، اللهمَّ اجعل آخر كلامنا من هذه الدنيا كلمة التوحيد، ونسألكَ اللهمَّ حُسنَ الختام.

 

----------------------------------------

[1] قاله: محمد عبده في عكاظ عدد 12405

[2] قاله: شاكر سليمان شكوري في عكاظ عدد 12405.

[3] البلاد عدد 16085 بقلم محمد عبد الواحد.

[4] انظر: الحلية (7/12).

[5] أخرجه: أحمد (6/49-86-182) وقد صححه الألباني في السلسلة (3/12).

[6] رواه أحمد (3/314) والحاكم (4/348) وأبو يعلى (4/184) وصحح الحاكم إسناده.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply