الرويبضة ومطاولة العلماء


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعدُ، فقد صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \" إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخَائِنُ ويُخَوَّنُ فِيها الأَمِينُ، ويَنطِقُ فيها الرٌّوَيبِضَةُ \" قِيلَ: وما الرٌّوَيبِضَةُ؟ قال: \" المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ \" اللهُ أَكبرُ وهو المُستَعَانُ

ـ أيها المسلمون ـ وَعِشنَا وَعِشتُم وَطَالَ بِبَعضِكُمُ العُمُرُ، حتى رَأَينَا مِصدَاقَ هذا الحديثِ وَاقِعًا حَيًّا بَينَ أَظهُرِنَا وَمِن حَولِنَا، نَقرَؤُهُ في جَرَائِدِنا وَصُحُفِنَا، وَنَرَاهُ في الكَثِيرِ من قَنَواتِنَا، وَنَسمَعُهُ في إِذَاعَاتِنا وَوَسَائِلِ إِعلامِنَا،، وَإِذَا لم تَكُن هذِهِ السَّنَوَاتُ التي نَعِيشُها دَاخِلَةً في السِّنِينَ الخَدَّاعَةِ فمتى تَكُونُ؟! وَإِنَّهُ بِمَوتِ كَثِيرٍ, مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَذَهَابِ الجَهَابِذَةِ المُخلِصِينَ، بَدَأَ أَولَئِكَ الحَمقَى المَأفُونُونَ يَظهَرون وَيَبرُزُونَ، وَعَلى صَفَحَاتِ الجَرَائِدِ يَسرَحُونَ وَيَمرَحُونَ، وَبِكُلِّ خَبِيثٍ, مِنَ القَولِ يَتَقَيَّؤُونَ وَلا يَستَحيُونَ، وَصَدَقَ - صلى الله عليه وسلم - إِذ قَالَ: \" إِنَّ اللهَ - تعالى- لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِن يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ، حتى إِذَا لم يُبقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ, فَضَلٌّوا وَأَضَلٌّوا \"

 

هَذِهِ هِيَ الحَالُ اليَومَ لَولا رَحمَةُ رَبِّي، بَل إِنَّ السٌّفَهَاءَ مِن خَفَافِيشِ الصَّحَافَةِ وَأَدعِيَاءِ الكِتَابَةِ اليَومَ، لم يَكتَفُوا بِضَلالِهِم وَإِضلالِ مَن سِوَاهُم مِنَ العَوَامِّ وَالمُغَفَّلِينَ، حتى أَضَافُوا إلى ذلك ولا سِيَّمَا في الأَيَّامِ المُتَأَخِّرَةِ رِقَّةً في الدِّينِ وَسُوءًا في الأَدَبِ وَصَفَاقَةً في الوُجُوهِ، فَجَادَلُوا أَئِمَّةَ الهُدَى وَكَذَّبُوهُم، وَرَدٌّوا على عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وخَطَّؤُوهُم، وَسَارُوا حَسبَمَا تُملِيهِ عَلَيهِم أَمزِجَتُهُمُ الفَاسِدَةُ، وَتَبَجَّحُوا بما تُملِيهِ عَلَيهِم شَهَوَاتُهُم العَارِمَةُ وَأَهوَاؤُهُم الزَّائِغَةُ، مُعَرِّضِينَ أَنفُسَهُم بِذَلِكَ لما صَحَّ عَن إِمَامِ العُلَمَاءِ - صلى الله عليه وسلم - حَيثُ قال: \" لَيسَ مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرحَم صَغِيرَنَا، وَيَعرِف لِعَالِمِنَا حَقَّهُ \"

وَمِن أَسَفٍ, أَن يُكَذَّبَ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيٌّونَ، وَتُنسَفَ أَقوَالُهُم وَتـُترَكَ فَتَاوَاهُم، وَيُصَدَّقَ أُولَئِكَ الخَوَنَةُ وَتُتَّبَعَ آرَاؤُهُم، وَيُؤخَذَ بِمَا يُلَبِّسُونَ بِهِ مَعَ تَفَاهَتِهِم وَحَقَارَتِهِم،، أُغَيلِمَةٌ صِغَارٌ مَا شَمٌّوا رَائِحَةَ العِلمِ وَلا ذَاقُوا حَلاوَتَهُ، يَفتِلُونَ عَضَلاتِهِم أَمَامَ جَهَابِذَةٍ, مِن كِبَارِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَمُفَكِّرِيهَا، مِنَ الذينَ أَفنَوا عَشَرَاتِ السِّنِينَ في تَعلٌّمِ العِلمِ وَتَعلِيمِهِ، وَتَألِيفِ الكُتُبِ فِيهِ وَالدَّعوَةِ إِلى اللهِ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ، وَللهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ، لَكِنَّهَا سُنَنٌ إِلهِيَّةٌ جَارِيَةٌ، وَأَقدَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مُحكَمَةٌ، وَفِتَنٌ مُمَيِّزَةٌ مُمَحِّصَةٌ، لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الكَاذِبِ، وَيَتَمَيَّزَ الخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَذهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً غَيرَ مَأسُوفٍ, عَلَيهِ، وَلا يَبقَى في الأرضِ إِلاَّ مَا يَنفَعُ الناسَ، قال - سبحانه -: \" أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ. وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ \" وقال - تعالى-: \" أَم حَسِبتُم أَن تُترَكُوا وَلَمَّا يَعلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَلَم يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ \" وقال - جل وعلا -: \" لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجعَلَ الخَبِيثَ بَعضَهُ عَلَىَ بَعضٍ, فَيَركُمَهُ جَمِيعًا فَيَجعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَـئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ \" وقال ـ جَلَّ مِن قَائِلٍ, ـ: \" أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحتَمَلَ السَّيلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيهِ في النَّارِ ابتِغَاء حِليَةٍ, أَو مَتَاعٍ, زَبَدٌ مِّثلُهُ، كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ في الأَرضِ، كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الأَمثَالَ \" وقال - عز وجل -: \" أَم حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لن يُخرِجَ اللهُ أَضغَانَهُم \" نَعَم ـ أيها المسلمون ـ يَتَدَافَعُ الحَقٌّ وَالبَاطِلُ، وَيَتَصَارَعُ الصِّدقُ وَالكَذِبُ، وَيَتَبَارَى الخَيرُ وَالشَّرٌّ، وَيَتَكَلَّمُ المُؤمِنُونَ وَيَتَشَدَّقُ المُنَافِقُونَ، وَيُدلي العُلَمَاءُ بِالأَدِلَّةِ النَّاصِعَةِ وَالحِجَجِ الدَّامِغَةِ، وَيُلقِي السٌّفَهَاءُ بِالشٌّبُهَاتِ الفَاسِدَةِ وَالتَّلبِيسَاتِ الوَاهِيَةِ \" فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلاَمِ، وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ، كَذَلِكَ يَجعَلُ اللهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ \"

وَلَكِنَّ الأَمرَ كَمَا قال إِلهُ الحَقِّ - سبحانه -: \" أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم، سَاء مَا يَحكُمُونَ \"

وكما قال - تعالى-: \" أَم نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ في الأَرضِ، أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ \" وكما قال - سبحانه -: \" أَفَنَجعَلُ المُسلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ. مَالَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ \" وكما قال - جل وعلا -: \" هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مٌّحكَمَاتٌ هُنَّ أُمٌّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاء تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلُّ مِّن عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألبَابِ \" إنهم ـ وَاللهِ ـ لا يَستَوُونَ \" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم وَيَزيدُهُم مِن فَضلِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ استَنكَفُوا وَاستَكبَرُوا فَيُعَذِّبُهُم عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا \" \" قُل يَا أَيٌّهَا النَّاسُ قَد جَاءكُمُ الحَقٌّ مِن رَبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلٌّ عَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِوَكِيلٍ, \" أيها المسلمون، إِنَّ مَا يُنشَرُ هذِهِ الأَيَّامَ في صُحُفِنَا ممَّا يَنطُقُ به الرٌّوَيبِضَةُ وَيَكتُبُهُ التَّافِهُونَ، وَتِلكَ الرٌّدُودَ التي يَتَطَاوَلُونَ بها على الرَّاسِخِينَ مِن عُلَمَاءِ الدِّينِ دُونَ تَقدِيرٍ, وَلا إِجلالٍ,، لهو عَجَبٌ مِنَ العَجَبِ، إِذ كَيفَ تُطَاوِلُ التِّلالُ الجِبَالَ؟ بَل كَيفَ يُقَارِعُ الجُبَنَاءُ الأَبطَالَ؟ وَشَتَّانَ بَينَ الغُيُومِ وَالنٌّجُومِ!! لَكِنَّهَا السٌّنُونَ الخَدَّاعَةُ التي ذَكَرَهَا مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، حَيثُ تَنقَلِبُ المَوَازِينُ وَتَختَلٌّ المَفَاهِيمُ، وَيُصَدَّقُ الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَيُخَوَّنُ الأَمِينُ وَيُؤتَمَنُ الخَائِنُ، وَتَنطِقُ الرٌّوَيبِضَةُ. إِذَا عَيَّرَ الطَّائِيَّ بِالبُخلِ مَادِرٌ وَعَيَّرَ قِسًّا بِالفَهَاهَةِ بَاقِلُ وَقَالَ السٌّهَا لِلشَّمسِ أَنتِ كَسِيفَةٌ وَقَالَ الدٌّجَى لِلبَدرِ وَجهُكَ حَائِلُ وَطَاوَلَتِ الأَرضُ السَّمَاءَ سَفَاهَةً وَفَاخَرَتِ الشٌّهبَ الحَصَى وَالجَنَادِلُ فَيَا مُوتُ زُر إِنَّ الحَيَاةَ ذَمِيمَةٌ وَيَا نَفسُ جِدِّي إِنَّ دَهرَكِ هَازِلُ إِنَّ المُتَابِعَ بَلِ النَّاظِرَ في الجَرَائِدِ في هذِهِ الأَيَّامِ، لَيَرَى إِلحَاحًا وَاضِحًا مِن كُتَّابِها عَلَى النَّيلِ مِنَ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَتَنَقٌّصًا ظَاهِرًا لأَشخَاصِهِم وَمَا يَحمِلُونَ، وَاتِّهَامًا لهم بِالجَهلِ وَعَدَمِ التَّفَقٌّهِ في الوَاقِعِ، وَتحمِيلاً لِكَلامِهِم مَا لا يَحتَمِلُهُ، وَإِذَا أَعيَتهُمُ الحِيَلُ وَسُدَّت في وُجُوهِهِمُ السٌّبُلُ زَعَمُوا خِدَاعًا وَتَضلِيلاً وَإِمعَانًا في رَدِّ الحَقِّ، أَنَّ مَا يَذكُرُهُ هَذَا العَالمُ أَو ذَاكَ لا يَعدُو أَن يَكونَ رَأيَهُ الشَّخصِيَّ وَفَهمَهُ الذَّاتيَّ، وَكَأَنَّ أَحكَامَ الدِّينِ المَبنِيَّةَ عَلى مَا قال اللهُ وقال رسولُهُ أُو على إِجماعِ الأُمَّةِ، كَأنَّهَا قد أَصبَحَت قَضَايَا سُوقِيَّةً يَكتُبُ فِيهَا مَن هَبَّ وَدَبَّ، أَو آراءَ َيُنَاقِشُها مَن هَرَفَ وَمَا عَرَفَ. أَلا فَليَعلَمِ المُسلِمُونَ أَنَّ اللهَ مُبتَلِيهِم بِهَؤلاءِ الأَفَّاكِينَ التَّافِهِينَ، وَأَنَّهُم في سِنِينَ خَدَّاعَةٍ, وَيَتَعَرَّضُونَ لِفِتَنٍ, مُتَوَالِيَةٍ,، وَأَنَّ الأَمرَ قَد وُسِّدَ إِلى غَيرِ أَهلِهِ وَالأَمَانَةَ قَد ضُيِّعَت، وَحِمى الشَّرِيعَةِ قَد صَارَ مُستَبَاحًا لِكُتَّابِ الجَرَائِدِ وَمُرتَزِقَةِ الصَّحَافَةِ، وَأَنَّهُ لا عِبرَةَ بِمَن فَسَدَ ذُوقُهُ أَو سَقُمَ فَهمُهُ (فَكَم مِن عَائِبٍ, قَولاً صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَّقِيمِ) (وَمَن يَكُ ذَا فَمٍ, مُرٍّ, مَرِيضٍ, يَجِد مُرًّا بِهِ المَاءَ الزٌّلالا) (قَد تُنكِرُ العَينُ ضَوءَ الشَّمسِ مِن رَمَدٍ, وَيُنكِرُ الفَمُ طَعَمَ المَاءِ مِن سَقَمِ) أَلا فَليَتَّقِ اللهَ المُسلِمُونَ، وَليَعرِفُوا قَدرَ عُلَمَائِهِم وَليَحفَظُوا مَكَانَةَ مَشَايِخِهِم، فَإِنَّهُم لَن يَزَالُوا بِخَيرٍ, مَا دَامُوا عَلَى ذَلِكَ،، وَالأَمرُ عَقِيدَةٌ وَدِينٌ، وَالنِّهَايَةُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَالخَاتِمَةُ فَوزٌ أَو خَسَارَةٌ، وَلَقَد تَوَافَرَتِ الأَدِلَّةُ وَتَظَاهَرَت على إِبرَازِ فَضلِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَجَاءَ مَدحُهُم على لِسَانِ الصَّادِقِ الأَمِينِ، حَيثُ قَال - سبحانه -: \" قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ \" وقال - عليه الصلاة والسلام -: \" مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطلُبُ فِيهِ عِلمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أَجنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلمِ رِضًا بِمَا يَصنَعُ، وَإِنَّ العَالمَ لَيَستَغفِرُ لَهُ مَن في السمواتِ وَمَن في الأرضِ والحِيتَانُ في جَوفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضلَ العَالمِ على العابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ على سَائِرِ الكَواكِبِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا ولا دِرهمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ, وَافِرٍ, \" وَقَال  - عليه الصلاة والسلام -: \" الدٌّنيا مَلعُونَةٌ مَلعُونٌ مَا فِيها، إِلاَّ ذِكرَ اللهِ وَمَا وَالاه وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا \" وقال: \" فَضلُ العالمِ على العابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم، إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهلَ السمواتِ والأرضِ حتى النملةَ في جُحرِها وَحتى الحوتَ لَيُصَلٌّونَ على مُعَلِّمِ الناسِ الخَيرَ \" وقال: \" إِنَّ مِن إِجلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ ولا الجَافي عَنهُ، وَإِكرَامَ ذِي السٌّلطَانِ المُقسِطِ \" وقال: \" البركَةُ مَعَ أَكَابِرِكُم \"

وَصَحَّ عَنِ ابنِ سِيرِينَ  - رحمه الله - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا العِلمِ دِينٌ، فَانظُرُوا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم...وَأَمَّا هؤلاءِ المُتَشَدِّقُونَ الأَصَاغِرُ، الخَائِضُونَ فِيمَا لا يَعلَمُونَ، فَإِنَّهُم مِن أَجهَلِ النَّاسِ وَإِن حَسَّنُوا العِبَارَةَ وَزَيَّنُوا المَقَالَةَ، وَقَد صَحَّ فِيهِم حَدِيثُ الحَبِيبِ حَيثُ قال: \" إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكم بَعدِي كُلٌّ مُنَافِقٍ, عَلَيمِ اللِّسَانِ \" وَانطَبَقَ عَلَيهِم قَولُ مَن قَالَ: زَوَامِلُ لِلأَسفَارِ لا عِلمَ عِندَهُم بِجَيِّدِهَا إِلاَّ كَعِلمِ الأَبَاعِرِ لَعَمرُكَ مَا يَدرِي البَعِيرُ إِذَا غَدَا بِأَوسَاقِهِ أَو رَاحَ مَا في الغَرَائِرِ وَمَا حُبٌّهُم لِلجَدَلِ وَاللَّجَاجَةِ، وَتَمَادِيهِم في الخُصُومَةِ وَالنِّقَاشِ العَقِيمِ، إِلاَّ دَلِيلُ ضَلالِهِم، حَيثُ قال - صلى الله عليه وسلم -: \" مَا ضَلَّ قَومٌ بَعدَ هُدًى كَانُوا عَلَيهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ \" ثم قَرَأَ \" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً \"

وَإِلاَّ لَو كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالبَحثِ عَنِ الحَقِّ، لَوَقَفُوا عِندَ المُحكَمِ مِن آيَاتِ التَّنزِيلِ وَمَا صَحَّ مِن أَحَادِيثِ الرَّسولِ، فَإِنَّ تِلكَ هِيَ حَالُ المُؤمِنِينَ الذين قال اللهُ - تعالى- فيهم: \" إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ \" أَمَّا المُنَافِقُونَ، فقد قال اللهُ فِيهِم وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ: \" وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدٌّونَ عَنكَ صُدُودًا \" تِلكَ حَالُهُم وَذَاكَ ضَلالُهُم، وَلَو تَرَكُوا الأَمرَ لأَهلِهِ لأَرَاحُوا وَاستَرَاحُوا \" وَلَو رَدٌّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم \"

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيها المسلمون ـ يَا مَن تَقرؤُونَ الصٌّحُفَ وَتَسمَعُونَ الإِذَاعَاتِ وَتَرَونَ القَنَوَاتِ، فَإِنَّكُم مُتَعَبَّدُونَ بِمَا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُهُ، عَلَى فَهمِ السَّلَفِ الصَّالحِ وَمَا استَنبَطَهُ العُلَمَاءُ، أَمَّا مُرتَزِقَةُ الإِعلامِ وَالصَّحَافَةِ، فَالحَذَرَ منهم وَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ.وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ \"

 

 الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ، فاتقوا اللهَ - تعالى- وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ الدِّينَ اتِّبَاعٌ وَلَيسَ ابتِدَاعًا، وَتَسلِيمُ قَلَوبٍ, مُؤمِنَةٍ, لا هَوَى نُفُوسٍ, مَرِيضَةٍ,، وَأَنَّ مَن بَانَ لَهُ الدَّلِيلُ فَلا يَسَعُهُ إِلاَّ اتِّبَاعُهُ، وَمَن كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَيسَ لَهُ إِلاَّ اتِّبَاعُ العُلَمَاءِ وَتَقلِيدُ المُفتِينَ، الذين عُرِفَ عَنهُمُ العِلمُ وَالتَّقوَى وَخَشيَةُ اللهِ، أَمَّا السَّيرُ وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ,، وَتَتَبٌّعُ الرٌّخَصِ وَزَلاَّتِ العُلَمَاءِ، فَمَا هِيَ حَالَ مَن نَصَحَ لِنَفسِهِ وَطَلَبَ لها النَّجَاةَ، وَأَمَّا آخِذُوا دِينِهِم وَأَحكَامِ شَرِيعَتِهِم مِنَ الصٌّحُفِ وَكُتَّابِها فَمَا لِخَسَارَتِهِم وَاستِبدَالِهُمُ الأَدنى بِالذي هُوَ خَيرٌ وَصفٌ أَدَقٌّ مِن قَولِ الشَّاعِرِ: وَمَن يَكُنِ الغُرَابُ لَهُ دَلِيلاً يَمُرٌّ بِهِ عَلَى جِيَفِ الكِلابِ.

 

وَإِنَّ ممَّا شَرَّقَت فِيهِ أَقلامُ أُغَيلِمَةِ الصَّحَافَةِ هذِهِ الأَيَّامَ وَغَرَّبَت، مَسأَلَةَ الحِجَابِ وَكَشفِ المَرأَةِ وَجهَهَا، بَوَّابَةُ الانحِرَافِ الأُولى، التي عَبرَ منها التَّحرِيرُ وَالتَّغرِيبُ إلى عَامَّةِ بِلادِ المُسلِمِينَ، والتي حَرِصَ على نَشرِهَا الكُفَّارُ في دِيَارِ الإِسلامِ لإِضعَافِ أَهلِهَا وَتَوهِينِ مَا بَقِي مِن قُوَّتِهِم، وَتَابَعَهُم عَلَيهَا أَذنَابُهُم مِنَ العِلمَانِيِّينَ وَالمُنَافِقِينَ، الذين تَتَبَّعُوا الأَقوَالَ الضَّعِيفَةَ في هذِهِ المَسأَلَةِ لِيَتَّكِئُوا عَلَيهَا وَيَتَّخِذُوهَا سِلاحًا في مُقَابَلَةِ دُعَاةِ الكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ.

ثم جَاءَ مُرتَزِقَةُ الصَّحَافَةِ وَمُحِبٌّو الشٌّهرَةِ وَلَو بِمَا يَجلِبُ الخِزيَ وَالعَارَ، فَأَجلَبُوا عَلَى الجِلبَابِ بِخَيلِهِم وَرَجِلِهِم، وَضَوضَوا وَنَعَقُوا وَنَبَحُوا \" يُرِيدُونَ لِيُطفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم، وَاللهُ مُتِمٌّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ \" أَلا فَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَى المُسلِمِ الذي يُرِيدُ السَّلامَةَ لِدِينِهِ وَالنَّجَاةَ في آخِرَتِهِ، أَن يَلزَمَ النٌّصُوصَ المُحكَمَةَ الصَّرِيحَةَ الظَّاهِرَةَ الدِّلالَةِ، وَيَدَعَ تَتَبٌّعَ النٌّصُوصِ المُتَشَابِهَةِ التي يَتَعَلَّقُ بها مَن فُتِنَ عَقلُهُ وَزَاغَ قَلبُهُº لِكَي لا يَكونَ ممَّن قال اللهُ - تعالى- فِيهِم: \" فَأمَّا الذين في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ \" وَايمُ اللهِ لَو كَانَ هَؤلاءِ الصَّحَفِيٌّونَ صَادِقِينَ أَنَّهم يُرِيدُونَ لِلمَرأَةِ في بِلادِنَا الخَيرَ، لما تَحَمَّسُوا لِنَشرِ هَذَا الرَّأيِ الضَّعِيفِ بَينَ النِّسَاءِ العَفِيفَاتِ المُتَسَتِّرَاتِ، ولما قَعَدُوا عَن دَعوَةِ المُتَبَرِّجَاتِ الفَاسِقَاتِ إلى التِزَامِ الحِجَابِ، مَعَ أَنَّ أُولِئَكَ المُتَبَرِّجَاتِ يَرتَكِبنَ المُحَرَّمَ بِالاتِّفَاقِ، وَأُولَئِكَ النِّسوَةَ المُتَسَتِّرَاتِ يَفعَلنَ الأَفضَلَ وَيَأخُذنَ بِالأَكمَلِ، وَيسلُكنَ الأَحوَطَ عَلَى الأَقَلِّ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِن زَيغِ القُلُوبِ وَانتِكَاسِ الفِطَرِ، وَنَسأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ على الحَقِّ إلى المَمَاتِ \" رَبَّنَا لاَ تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ \"

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply