النفاق والمنافقون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره..

إخوةَ الإيمان:

 يُخطئُ من يَظنٌّ أنَّ النفاقَ الذي أفاضَ القرآنُ في الحديثِ عنهُ، وأنَّ المنافقين الذين أسهبَ القرآنُ في التحذيرِ منهم، كان يُمثلُ مرحلةً تاريخيةً انقضت بدخولِ الناسِ في دين أفواجاً، فالعصرُ الذهبيُ للبشريةِ عامة وللمسلمين خاصة - الذي شهِدت الأرضُ طهرتَ أيام الرسالةِ المحمديةِ، لم يخلُ من ظُلمِ النفاقِ وظُلماتِه، فهل تُعصمُ منه العصورُ التالية؟

إنَّ جوهرَ النفاقِ وطينةَ المنافقين واحدةٌ على مرِّ العصور، ولكن الفرقَ في الظروفِ المتوفرةِ للمنافقين بين الأمسِ واليوم، فالنفاقُ في مراحلِ تمكين الدين وغلبةِ المسلمين كان ذُلّاً يَستخفي، وضعفاً يتواري، وخضوعاً مقموعاً، يمثلهُ عمالقةٌ في الظاهرِ وفي الحقيقةِ هم أقزامٌ ورؤوسٌ أزلام، وهي حياتٌ وعقاربٌ موطوءةٌ تكادُ ألاَّ تنفثَ السمَّ إلاَّ وهي تلفظُ الحياة، كان تمكينُ الدينِ وقتَها يُمكنُ المؤمنين من جهادِ أولئك المنافقين الأسافلِ باليدِ واللسانِ والقلب، وإقامةِ الحدودِ، وكان القرآنُ ينزلُ كاشفاً لخبايا نفوسهم، وخبثَ طويتهم، ولذا فلا يُرى أحدُهم إلاَّ وهو محاصرٌ مكدود،، ومحذورٌ أو مجلود، أو معتذرٌ مكشوفٌ؟

 أمَّا اليوم فالنفاقُ صرحٌ مُمرد، وقواعدُ وجيوشٌ تتحرك، وقلاعٌ تُشيَّد، إنَّهُ اليومَ دولةٌ بل دولٌ، ذاتُ هيئاتٍ, وأركانٍ,، وأحلافٍ, وتكتلات، معسكراتٌ وسلطانٌ سلطانٌ سياسي واقتصادي، وإعلاميُّ وثقافي، يُمارسُ الضرارَ في كلِّ مضمار؟!

 ومن هُنا- معاشرَ المسلمين وجبَ الحذرُ والتحذيرُ من النفاقِ وكشفِ المنافقين، ويكفيكَ يا أخا الإسلام- أن تُطالعَ في القرآنِ وفي صحيحِ السنةِ والسيرةِ النبوية كشفَهم وملامحَهم وأساليبَهم

فبضاعتُهم الحلفُ والكذب: ((أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَومًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِم مَّا هُم مِّنكُم وَلَا مِنهُم وَيَحلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُم يَعلَمُونَ)) (سورة المجادلة: 14).

وسيِماهم لمزُ المطَّوعين من المؤمنين، إنَّهم بُخلاء جُبناء، حائرون مترددون كالشاهِ العائرةِ بين الغنمين، [مسلمٌ والنسائي جامع الأصول 11/571] وهي المترددةُ بين قطيعين، لا تدري أيٌّهما تتبع، مذبذبون في توجهاتِهم وسلوكياتِهم، لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاء، [النهاية: 3/1328]

منكوسةً فطرُهم، أو يأمرون بالمنكرِ وينهونَ عن المعروف، ومعوجةٌ أخلاقُهم إذ يحلفون على الكذبِ وهم يعلمون، ومطبوعٌ على قلوبِهم فهم لا يفقهون، مظاهرُ جوفاءَ، رعاديدُ عند المواجهةِ واللقاء ((وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مٌّسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ, عَلَيهِم هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ)) (سورة المنافقون: 4).

أركسهُم الله بما كسبوا، وفي الفتنةِ سقطوا، يُقلِّبون الأمور، ويسخرون بالمؤمنين، ومن هَلَعِهم وفَرَقهم: (({لَو يَجِدُونَ مَلجَأً أَو مَغَارَاتٍ, أَو مُدَّخَلاً لَّوَلَّوا إِلَيهِ وَهُم يَجمَحُونَ} (سورة التوبة: 57)

 ألسنتُهم ظاهراً مع المسلمين، وقُلوبُهم مع الكافرين، ((وَيَحلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُم لَمِنكُم وَمَا هُم مِّنكُم وَلَكِنَّهُم قَومٌ يَفرَقُونَ)) (سورة التوبة: 56).

يخشونَ الدوائرَ ن ويُسارِعون في موالاةِ الكافرين، وشعارُهم ((نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ)) (سورة المائدة: 52).

يُحبون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، ورؤوسُهم يُمارسون إكراه فتياتهم على البغاء؟

فتاريخُهم حاملٌ بإفسادِ المرأة، وشرٌّهم سابقٌ في إشعالِ الفتنة.

إنَّهم عيونُ الأعداءِ على المسلمين، كما وصفهم الطبري (جامع البيان 30/ 70) وابن الجوزي (زاد الميسر 8/286) والواقعُ يُثبتُ يوماً بعدَ يومٍ, أنَّ نكبةَ الأمةِ بالمنافقين تسبقُ كلّ النكباتِ، فالكافرُ الظاهر على خطرهِ وضررهِ يعجزُ في كلِّ مرةٍ,ٍ, أن يواجهَ فيها أمةَ الإسلام، أو أن ينفردَ بإحرازِ نصرٍ, شاملٍ, عليها ما لم يكن مَستُوراً بجيشِ المنافقين يُخلِصُ لهم في النصحِ، ويفتحُ لهم الأبوابَ، ويُذللُ أمامَهم العقباتِ، وقاتلَ اللهُ المنافقين كم جَنوا على بلادِهم وأبناءِ جلدتِهم من الويلاتِ والنكبات، ومن يُهنِ اللهُ فما لهُ من مكرم، وقاتلَ اللهُ المنافقين أنَّى يؤفكون.

 

معاشرَ المسلمين

إنَّ الحديثَ عن المنافقين يطولُ، كيف لا وآياتُ القرآنِ صرَّحت بذكرِ النفاقِ والمنافقين في نحوِ سبعٍ, وثلاثين آية، وفصّلت، وفرَّعت في الكلامِ عنهم أضعافَ ذلك من الآياتِ، موزعةً على إحدى عشرةَ سورة ([1])

أمَّا الحديثُ عن (من في قلوبهم مريض) فكثيراً أيضاً، وهؤلاءِ المرضى للقلوبِ فئةٌ من المنافقين، وفئةٌ أخرى رديفةٌ لهم، ومخزونٌ احتياطي لهم.

 ومن هُنا وجبَ الحذرُ من مرضِ القلبِ بالشهوةِ أو الشبهة ومعالجةُ ذلك عاجلاً بالصدقِ والإيمانِ والمجاهدةِ، ذلكم أنَّ المتأملَ في حديثِ القرآن عن مرضى القلوبِ، يُمكنُ أن يستنتجَ أنَّ هؤلاء لديهم الاستعداد، لأن يكونوا منافقين معلومي النفاق بما لديهم من شهوةٍ, أو شبهة، فهم قومٌ ضعِيفوا الإيمانِ إلى أدنى حدٍ,، حتى إنَّ أحوالهم تكادُ تنقلبُ إلى معسكرِ النفاقِ الصريحِ، لفرطِ قنوطهم وفتورهم، وقلة يقينهم، ولشدةِ تعلقهم بالدنيا ومطامعها.

ويُقال أنَّ مرضى القلوبِ يُمارسون تطرفاً صارخاً باتجاهين، فهم يتطرفون في بُغض أهلِ الدين، وإساءةِ الظنِ بهم، ويتطرفونَ في الدفاعِ عن الكفارِ وحسنَ الظنِّ بهم، وهذا جوهرُ مرضِ القلبِ (عبد العزيز كامل: جهاد المنافقين: البيان: شهر 1/1422)

ألا ففتِّشوا عن أنفسكم ومدى ولائِكم ومحبتكم للمؤمنين وإن كانوا ضعفاء مقهورين، وبغضُكم وبراءتُكم من الكافرين، وإن كانوا ظاهرينَ مُتسلطين، وخلِّصوا أنفُسَكم في قلوبِهم من النفاق وسمات المنافقين.

عبادَ اللهِ: ومن واقعِ السيرةِ النبوية ومواقفَ المنافقينَ في عهدِ النبوة، يستطيعُ القارئُ الفطنُ أن يرصدَ تعاونَ المنافقين مع أكثر من طرفٍ,، فهم مع المُشركين على المسلمين، وهم حُلفاءُ بل إخوانٌ لليهود بنص القرآن وهم مُتحالفون مع الأحزابِ وهم عونٌ للنصارى في حربهم ضدَّ المسلمين وإليكم البيانُ

 ففي غزوة أحدٍ, حين جاءت قريشٌ بكبريائها، تريدُ الثأرَ لتقلاها في بدر، قامَ المنافقونَ وفي أحلكِ الظروف بخذلان المؤمنين، وانسحب زعيمُهم عبدُ الله بنُ أبي بثلثِ الجيش، ودخلَ المدينةَ بأتباعهِ تاركاً المسلمينَ وحدهُم في ساحاتِ الجهاد، يُواجِهون عدواً يفُوقُهم في العددِ والعُدة الحربية، وهذا الانسحاب المُخزي أوشكَ أن يوقعَ الفشلُ في طوائف من المؤمنين، قال اللهُ عنهم ((إِذ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُم أَن تَفشَلاَ وَاللّهُ وَلِيٌّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ)) (سورة آل عمران: 122).

وأحدثَ هذا التراجعُ المُذلُ من المنافقين اختلافاً بين المؤمنينَ في التعاملِ مع المنافقين، فرقةٌ تقولُ نقتلهم، والأخرى تقولُ لا نقتلهم، فأنزل اللهُ ((فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ وَاللّهُ أَركَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهدُوا مَن أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)) (سورة النساء: 88).

وحينها قال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّها طيبةُ وإنَّها تنفي الخبثَ كما تنفي النارُ خبثَ الفضةِ)) أخرجهُ أحمد والشيخان (في تفسير سورة النساء (خ) ومسلمٌ في المنافقين)

أمَّا المنافقون فقد ظنوا باللهِ الظنونَ السيئةِ، وكشفَ القرآنُ خبيئتَهم فقال - تعالى -: (({ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيكُم مِّن بَعدِ الغَمِّ أَمَنَةً نٌّعَاسًا يَغشَى طَآئِفَةً مِّنكُم وَطَآئِفَةٌ قَد أَهَمَّتهُم أَنفُسُهُم يَظُنٌّونَ بِاللّهِ غَيرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمرِ مِن شَيءٍ, قُل إِنَّ الأَمرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ الأَمرِ شَيءٌ مَّا قُتِلنَا هَاهُنَا قُل لَّو كُنتُم فِي بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ القَتلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم وَلِيَبتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُم وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ)) (سورة آل عمران: 154).

وحين انكشفت المعركةُ وأصيبَ من أصيبَ من المؤمنين، تشفى المنافقونَ وسُرٌّوأ لمصابهم، واشتركوا مع اليهودِ في المشاعرِ الفاسدة، قال ابنُ حجر \" حين بكى المسلمون على قتلاهم سُرَّ المنافقون، وظَهَرَ غَشَشُ اليهودِ، وفارت المدينةُ بالنفاق، فقالت اليهودُ لو كان نبياً ما ظهروا عليه، يعني المشركين - وقال المنافقون لو أطاعونا ما أصابهم هذا؟ [الفتح: 7/347].

بل جعلوا يقولونَ لأصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- لو كان من قُتلَ منكم عندنا ما قُتل، وهم يَهدِفون إلى تفريق المسلمين، والتخذيل عن مصاحبةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-، وأنَّى لهم ذلكَ مع قومٍ, قالوا لمن قال لهم: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل!

عبادَ اللهِ، أمَّا علاقةُ المنافقين باليهودِ، فيكفي تعبيرُ القرآنِ عنها، يقول - تعالى -((أَلَم تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلَا نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ)) (سورة الحشر: 11).

إنَّهم بحكم القرآن إخوانٌ لليهود، وهم جَاهزونَ للخروجِ معهم لو أُخرجوا، ومستعدُون للقتالِ معهم، ولو باللسانِ إن قُوتلوا؟ فهل بعد هذا من نصرةٍ, وتقاربٍ, بين المنافقينَ واليهود،، ومن رامَ تفصيلَ ذلك فليقرأ في تفسيرِ الآية، وليقف عندَ حوادثَ السيرةِ النبوية.

والمنافقونَ كذلكَ مُصانِعون للنصارى، وفي غزوةِ العسرةِ ظهر تخذيلهم للمسلمين وتعظيمُهم للنصارى، فقد قال أحدُهم \" يغزو محمد بني الأصفر (أي الروم)، واللهِ لكأني انظرُ إلى أصحابهِ مُقرنين في الحبال\"،

 وما سلمَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم- من شرهم في هذهِ الغزوةِ، من قعدَ منهم عن الخروج ومن خرج، فلم يزد إلاَّ خبالاً وفتنةً، أجل لقد أرجفَ نفرٌ منهم بالمؤمنينِ عن الخروجِ وقالوا: ((وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الحَرِّ)).

وقالوا: ((وَمِنهُم مَّن يَقُولُ ائذَن لِّي وَلاَ تَفتِنِّي أَلاَ فِي الفِتنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ)) (سورة التوبة: 49).

 ولمَزوا القليل الذي يجدُ، قالوا لهُ إنَّ اللهَ غنيُّ عن صدقة هذا؟ من خلَّفُهِ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم- في المدينة لغرضٍ, كعلي - رضي الله عنه- قالوا إنَّما خلفَ استثقالاً له؟ وهكذا لم يسلم المسلمون من شرِهم في مُجابهةِ النصارى، فالذينَ خَرجوا نفاقاً استهزؤوا بالصحابةِ، وكفَّرهم اللهُ وان اعتذروا، بل وصلَ الأمرُ بهم أن خططوا لقتلِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - في مرجعهِ من تبوك، في قصةِ أصحابِ العقبةِ الواردةِ في صحيح مسلم 4/2144).

أمَّا الذين بقوا فوجدُوها فرصةً للتخطيطِ والاجتماعِ بأطرافٍ, مُعاديةً من خارجِ المدينة، وكان المشروعُ المنكرُ في بناءِ مسجدِ الضرارِ، بتنسيقٍ, بين منافقي المدينةِ وابن عامرٍ, الفاسق، الذي يُقيمُ عند الروم فتنصرَ، وهذا الرجلُ من الخزرجِ وقد تنصر، فلمَّا جاءَ الإسلامُ ودخلَ فيهِ الأنصارُ شرَّق أبو عامرٍ, بالإسلام، فخرجَ إلى قريشٍ, وألَّبهم على المسلمين، وحين لم يُفلح، خرجَ إلى هرقلَ ملك الروم واستنصر على حرب المسلمين، واتخذِ من المنافقين في المدينةِ أداةً للتخطيط، فأمرُهم أن يتخذوا لهُ معقلاً يَقدمُ عليهم فيهِ من يقدمُ، من عندهُ لأداءِ كُتبِهِ، ويكونُ مرصداً لهُ إذا قدمَ عليهم بعد ذلك، فشرعَ المنافقون في بناءِ مسجدِ الضرارِ مجاورٍ, لمسجد قُباء، وأحكموهُ وفرغوا منهُ قبل خروجِ النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، وطلبوا منهُ أن يُصلي فيه ليحتجٌّوا بصلاتهِ على إقرارهِ وإثباتهِ، فاعتذر إليهم بالسفر، فلمَّا رجعَ من تبوكٍ, نزل الوحي عليه مُسمِّياً هذا المسجد بمسجد الضرارِ، كاشفاً ما اعتمدوهُ فيه من الكُفرِ والتفريقِ بين المؤمنين، فبعثَ رسولُ اللهِ من هدمهُ وأحرقه. [تفسير ابن كثير: التوبة: 107، 108].

 وبقي وحيُ السماءِ موعظةً وذكرى لكلِ عملٍ, ظاهرُهُ الحسنى، وباطنُه النفاقُ والكفر، أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا وَتَفرِيقًا بَينَ المُؤمِنِينَ وَإِرصَادًا لِّمَن حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبلُ وَلَيَحلِفَنَّ إِن أَرَدنَا إِلاَّ الحُسنَى وَاللّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُم فِيهِ أَبَدًا لَّمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِن أَوَّلِ يَومٍ, أَحَقٌّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبٌّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبٌّ المُطَّهِّرِينَ)) (سورة التوبة: 107، 108).

نفعني اللهُ وإياكم بهدي القرآن وسنة محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم -..

 

 

الخطبة الثانـية:

أيٌّها المسلمون:

 ولا تقتصرُ جهودَ المنافقين على التعاونِ مع المشركين، أو اليهود أو النصارى، بل هم جاهزون للتعاونِ مع كلِ من تحزبٍ, ضدَّ الإسلامِ والمسلمين، وفي معركةِ الخندقِ، وحينَ تحزَّبَ الأحزابُ على المسلمين في المدنيةِ، في جمعٍ, لم تشهدهُ المدنيةُ من قبل، وبلغَ الكربُ بالمسلمينَ مبلغه، كان للمنافقين دورُهم وسهامُهم مع أولئكَ الأحزاب، حتى ابتُلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً.

 وفي ظلِ هذه الظروفِ الصعبةِ كان المنافقون يقولون ((وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنهُم يَا أَهلَ يَثرِبَ لَا مُقَامَ لَكُم فَارجِعُوا وَيَستَأذِنُ فَرِيقٌ مِّنهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَورَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ, إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)) (سورة الأحزاب: 13، 12).

وهكذا شكّلَ المنافقون دورَهم مع الأحزابِ في الإرجافِ والتخذيل، ومحاولةِ التسللِ والاعتذار عن الخندق أولاً، وعن مُجابهةِ العدو ثانياً، وأنَّي لأولئك المنافقين أن ينكئوا في العدو، وهم القائلون لإخوانهم هلمَّ إلينا ولا يأتون البأس إلى قليلاً، فلما استحكم الخوفُ بهم ((رَأَيتَهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ تَدُورُ أَعيُنُهُم كَالَّذِي يُغشَى عَلَيهِ مِنَ المَوتِ)).

عبادَ الله: ظلت مسيرةُ النفاقِ في عصورِ الراشدين، وساهموا بإشعالِ فتيل الفتنة.

واستمرَ دورُهم في عصرِ الأمويينَ والعباسين يُسمٌّون بالمنافقين حيناً، ويُوصفُون بالزنادقةِ حيناً، وبالباطنيين فترةً، وبالعلمانيين أخرى، وليست تهمٌّ الأسماءِ فالمسمياتُ تتغير، ولكنَّ السماتُ والوسائلُ والأساليبُ تكادُ تتكررُ وتتجدد، وكلٌّهم تعرفُهم في لحنِ القول: واللاَّحقُ منهم أسوأُ من السابق، حتى قال حذيفةَ- رضي الله عنه - خبيرُ المنافقين -المنافقونَ الذين فيكم شرُّ من المنافقينَ الذين كانوا على عهدِ رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: إنَّ أولئكَ كانوا يُسرٌّون نفاقَهم، وإنَّ هؤلاءِ يعلنون؟ [العرياني: صفة المنافقين / 53)

وإذا قال حُذيفةَ هذا على المنافقين في عصرِ الصحابة والتابعين، فما ذا عساهُ يقولُ حذيفةَ لو أبصرَ المنافقين في العصورِ المتأخرة؟

وجميعُهم يزعمُ الإصلاح ((وَإِذَا قِيلَ لَهُم لاَ تُفسِدُوا فِي الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ)) (سورة البقرة: 11).

والقواسم المشتركةُ بين المنافقين قديماً وحديثاً، بغضُ المؤمنين والسخريةُ بالمتدينين، وموالاة الكفَّارِ، والمسارعةُ فيهم، لا يثبتون على مبدأ، ولا يستمرونَ في الصداقةِ لأحد، بل يتقلبونَ ويتلونونَ كالحرباءِ، وأينما هبَّت الريحُ لمصلحتهم هبٌّوا معها، فلديهم استعدادٌ للتعاون مع شياطينِ الإنسِ والجن، لتحقيقِ أغراضهم، ولديهم استعداداٌ للتضحيةِ بأقربِ الناسِ إليهم إذا خالفوهم في توجههم؟

المرأةُ وترٌ طالما طرقوا عليه، ورغبوا في إشاعةِ الفاحشةِ من خلالها، وفي قوله - تعالى -: ((وَلَا تُكرِهُوا فَتَيَاتِكُم عَلَى البِغَاء)).

وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفكِ عُصبَةٌ مِّنكُم)).

نموذجان بل ونهجانِ قبيحانِ للمنافقينَ في المرأة؟

وموتُ الصالحين تسرُهم، وإذا مات المُجرمون والفسقةِ نعوهم وأسفوا لموتهم!! وهل تعلمون أنَّ المنافقينَ هُو العنصرُ الشاذُ، الذين فرحَ بموتِ النبي- صلى الله عليه وسلم -، قال ابنُ عمر: وكان المنافقون قد استبشروا بموتِ رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم - رواه ابنُ أبي شيبة في المصنف (المغازي ص 410).

أخوةَ الإسلام، وماذا بعدُ، وما الدورُ المطلوبُ تجاهَ المنافقين؟

أولاً: لا بدَّ من العلمِ بهم ومكرِهم، وأساليبهم، وقراءةِ تاريخِهم ونماذجِهم بوعيٍ, في الماضي والحاضر، فالعلمُ بالشيءِ فرعٌ عن تصوره، والوعيُ خطوةٌ أولى، وما زال القرآنُ ينزلُ ويقول - تعالى -: (ومنهم، ومنهم) حتى كشفَ اللهُ النفاقَ والمنافقينَ في قرآن، يُتلى إلى يوم القيامة.

ثانياً: وبعد العلمِ لا بدَّ من الحذرِ منهم، والتحذير من مخططاتهم وأهدافهم، وقد نزَّل على رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم -: ((هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ)) (سورة المنافقون: 4) والخطابُ عامٌ للأمة، في الحذرِ من المنافقين.

ثالثاً: والنهي عن طاعتهم، توجيهٌ للنبي- صلى الله عليه وسلم - وأمتُهِ تبعٌ له، قال - تعالى -:((يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)) (سورة الأحزاب: 1)).

قال القرطبي: ودلّ بقوله - تعالى -((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)) على أنَّه كان يميلُ إليهم استدعاءً لهم إلى الإسلام، أي لو علم اللهُ - عز وجل - أنَّ ميلَك إليهم فيه منفعةٌ لما نهاكَ عنه، لأنَّهُ حكيمٌ عليمٌ، ثمٌَّ قيل، الخطابُ له ولأمته (الجامع لأحكام القرآن 14/115)

رابعاً: جهادُ المنافقين كما يُجاهدُ الكفار، بل والإغلاظُ عليهم، قال - تعالى -:((يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ)) (سورة التحريم: 9).

عن علي- رضي الله عنه- قال بُعث رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - بأربعةِ أسيافٍ,، سيفٍ, للمشركين، (({فَإِذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ)) وسيفٍ, لكفارِ أهلِ الكتاب، ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِاليَومِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ, وَهُم صَاغِرُونَ)) (سورة التوبة: 29).

وسيفٍ, للمنافقين بهذه الآية، وسيفٍ, للبغاة، ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمرِ اللَّهِ)) ثم علَّق ابنُ كثير: وهذا يقتضى أنَّهم يُجاهَدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيارُ ابن جرير (تفسير ابن كثير 4/118).

لقد فهمَ البعضُ أنَّ هذه الآية في المنافقين، تدلُ على أنَّ النفاقَ سيظلُ موجوداً، وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص تُرى فيهم آياتُ النفاق (عبد العزيز كامل / البيان).

وإذا رأى طائفةً من أهلِ العلمِ مُجاهدةَ المنافقينَ بالسيف إذا ظهرا نفاقُهم فلا شكَّ أنَّ مجاهدَتهم باللسانِ والحجةِ والبيانِ من بابِ أولى، قال القرطبي: وهذهِ الآيةُ نسخت كلَّ شيءٍ, من العفوِ والصلحِ والصفح.

خامساً: الحذرُ من سماتِ المنافقين، والبعدُ عن كلِّ ما يُؤدي إلى النفاقِ، وقد سمعتم أنَّ مرضَ القلوبِ درعٌ للمنافقينَ، ويُمكنُ أن يتحولوا إليهم، وينخرطُوا في سلكهم، فاليحذرِ المسلمُ، وليعالج نفسهُ ويقطعها عن أمراضِ الشهواتِ والشبهات، ومن رعى حولَ الحمى أوشكَ أن يقعَ فيه؟

 وأنت أيٌّها المسلمُ أو المسلمة، مُطالبٌ بمجاهدةِ المنافقين على قدرِ طاقتك فإن لم تستطع فلا أقلَّ من بغضِهم والحذرِ من أفعالهم، والتحذيرِ من شُرورهم.

سادساً: عدمُ مولاةِ المنافقين والحذرُ من اتخاذهم بطانةً للمؤمنين، وكفى بالقرآنِ حكماً وواعظاً، والله يقولُ: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ * هَاأَنتُم أُولاء تُحِبٌّونَهُم وَلاَ يُحِبٌّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضٌّوا عَلَيكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُل مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ* إِن تَمسَسكُم حَسَنَةٌ تَسُؤهُم وَإِن تُصِبكُم سَيِّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ)) (سورة آل عمران: 120، 119، 118).

سابعاً: عدمُ المجادلةِ والدفاعِ عنهم: ((وَلاَ تُجَادِل عَنِ الَّذِينَ يَختَانُونَ أَنفُسَهُم إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبٌّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَستَخفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرضَى مِنَ القَولِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطًا)) (سورة النساء: 108، 107).

 

ثامناً: وعظُ المنافقين وتذكيرُهم برقابةِ الله، ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعرِض عَنهُم وَعِظهُم وَقُل لَّهُم فِي أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغًا)) (سورة النساء: 63).

تاسعاً: وإذ كانَ المنافقونَ بالكثرةِ التي قال عنها حذيفة- رضي الله عنه- لو هلكَ المنافقونَ لاستوحشتم في الطرقاتِ لقلةِ السالكين، فالأمرُ يستدعي تجييشَ الأمةِ والمجتمعِ كلهِ لمجاهدةِ المنافقينَ برجالهِ ونسائهِ، بكبارهِ وصغاره، بعلمائهِ وعامته، وكلُّ حسبَ استطاعته.

عاشراً: ونحنُ لا نتألّى على اللهِ، ولا يحقٌّ لأحدٍ, أن يقولَ: لا يهدي اللهُ فلاناً، ولن يصلحَ فلانٌ من الناسِ، فالهدايةُ بيدِ الله، وقلوبُ العبادِ بين أصبعينِ من أصابعهِ، يُقلبُها كيف يشاء، وأهلُ الخيرِ والعلمِ والدعوةِ يفرحونَ بتوبةِ التائبِ، ويُسرٌّونَ لعودةِ الشارد، ويوردٌّونَ أن يفتحَ اللهُ على قلوبِ العصاةِ والمستكبرينَ بأسرعِ حال، إنَََّهم حينَ يتحدثونَ عن النفاقِ والمنافقين، لا يتشفونَ بأحادِيثهم، ولكنَّهم قائمونََ على البلاغِ وكشفِ الباطلِ، واستبانةِ سبيلَ المجرمين، وهُم مع ذلكَ يدعون من لُبِّس عليه، ومن غلبت عليه شهوتُه، أو أصرَّ على الخطأ حفاظاً على شهرته، أو استحوذَ عليه الشيطانُ فأضلَّهُ، يدعون كلَّ هؤلاءِ للتبصرِ في أحوالهمِ، والنظرِ في عاقبةِ أمرهم، ومن اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنَّما يضلُ عليها اللهمَّ أهد ضالَ المسلمين وبصِّرنا بالحق.

 

----------------------------------------

 [1]بل قيل إن الحديث عنهم استغرق ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية (د. عبد الحليم العبد اللطيف: حديث الإفك.

 وقال ابن القيم - رحمه الله -: كاد القرآن أن يكون كله بشأن المنافقين (المدارج 1/388) ص 40، 41).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply