الخشية من الله تعالى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: اتقوا الله عبادَ الله، واذكروا أنّكم موقوفون بين يديه، {يَومَ تَأتِي كُلٌّ نَفسٍ, تُجَادِلُ عَن نَفسِهَا وَتُوَفَّى كُلٌّ نَفسٍ, مَا عَمِلَت وَهُم لا يُظلَمُونَ} [النحل: 111].

أيّها المسلمون، في غَمرةِ الاغترار بالحياة الدنيا والركونِ إليها والاشتغال بمطالبِها ينسى فريقٌ من الناسِ مَا لا يصحّ له نسيانُه، ويَغفَل عمّا لا تجوز لَه الغفلةُ عنه مِن أسُسِ الاعتقاد وأصولِ التوحيد وقواعدِ الإيمان، فإذا بِه حين تُحدِق به الأخطار وتُطلٌّ المحن وتُرتَقَب الخطوبُ قد ملَك عليه أمرَه خوفٌ يصرِفه عن السعيِ فيما يصلح به شأنُه وتطيب به حياتُه وتحسن به عاقبتُه، وخَشيةٌ من مُستقبلٍ, لا يَدري ما هو مخبُوء له فِيه، وتَوجٌّسٌ مِن آتٍ, لا يتبيَّن وجهَه ولا يتَحقَّق صورتَه ولا يدرك مآله ومنقلبَه، فيَنتهي به الأمرُ إلى الخشيةِ ممّن لا تصحٌّ الخشيةُ منه، وإلى الخوف ممن لا يجوز الخوفُ منه، وكيف يصحّ أن ينسى المؤمِن توحيدَه لله وإيمانَه به وهو يتلو كتابَ ربّه بالغداةِ والعشيّ وقد بيَّن فيه - سبحانه - هذا التوحيدَ وحسَم كلَّ موادِّ الإشراكِ به، فأمره أن لا يخافَ أحدًا إلا الله، وأن لا يخشَى سِواه، فقال - سبحانه -: {إِنَّا أَنزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحكُمُ بِهَا النَّبِيٌّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيٌّونَ وَالأَحبَارُ بِمَا استُحفِظُوا مِن كِتَـابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخشَوُا النَّاسَ وَاخشَونِ وَلاَ تَشتَرُوا بِـئَايَـاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَـافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال عز من قائل: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيطَـانُ يُخَوّفُ أَولِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ} [آل عمران: 175]، أي: يخوِّفُكم أولياءَه ويوهمكم أنّهم ذوو بأس شديد لا قِبَل لكم به، فإذا سوّل لكم ذلك وأَوهَمَكم به فتوكّلوا عليّ والجؤوا إليّº فإني كافيكُم وناصركُم عليهم.

ولمّا كانت هذه الخشيةُ مِن أعلى المقامات فليس عَجبًا أن تكون صفةَ الملائكةِ المقرَّبين الذين قال الله فِيهم: {يَخَـافُونَ رَبَّهُم مّن فَوقِهِم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} [النحل: 50]، وأن تكونَ صفةَ النبيِّين عليهم صلواتُ الله وسلامه أجمعين حيثُ قال - سبحانه -: {الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخشَونَهُ وَلاَ يَخشَونَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]، وأن تكونَ أيضًا صفةَ خاتم النبيين محمّد الذي صحّ عنه - عليه الصلاة والسلام - قولُه: ((فوالله، إني لأعلمهم بالله وأشدٌّهم له خشيةً)) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم: ((والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله أعلمَكم بما أتّقي))، وأن يكون أيضًا مِن صفاتِ عُمَّارِ مساجدِ الله الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَن آمَنَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَم يَخشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهتَدِينَ} (18) سورة التوبة.

عبادَ الله، إنَّ الخشيةَ لا يَصِحّ أن تكونَ إلاّ مِن الله وحدَهº لأنّه - سبحانه - المدبِّر لأمور المخلوقاتِ كلِّها، وهو الحيٌّ الذي لا يموتُ، القيٌّوم الذي تَقوم به الخلائِقُ كلٌّها وتَفتقِر إليه، أمّا غيره فهو عاجِزٌ فَانٍ, لا يملك لنفسِه نَفعًا ولا ضَرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، قلبُه بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبه كيف يشاء، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما[1]، فجميع الخلائقِ ليسوا في الحقيقةِ غيرَ وسائط لإيصال ما قدَّره الله من أقدارٍ,، يبيِّن ذلك أوضحَ بيان قولُ رسول الله في وَصيَّته المشهورة لابن عمِّه عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما -: ((يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظِ اللهَ يحفظك، احفظِ اللهَ تجده تجاهَك، إذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستَعِن بالله، واعلم أنَّ الأمّةَ لو اجتمعَت على أن ينفعوك بشيءٍ, لم ينفعوك إلا بشيءٍ, قد كتبه الله لَك، ولَو اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ, قد كتبه الله عَليك، رفِعَت الأقلام، وجفَّت الصحف)) أخرجه الترمذي في جامعه وهذا لفظه وأحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسنادٍ, صحيح[2].

ولذا كان من الخطَأ البيِّن قولُ من يقول: \"إني أخاف الله وأخاف أيضًا ممّن لا يخاف الله\"، فإنّ هذا قولٌ باطِل لا يجوز كما قال أهلُ العلم، بل على المؤمن أن يخاف الله وحدَه، وأمّا من لا يخاف الله فإنّه أذَلّ مِن أن يُخشى، فهو ظالم من أولياءِ الشيطان، والخوف منه قد نهى الله عنه، وأمّا الخشية ممّا قد يصدُر عنه من أَذى فإنه لا يكون إلا بتسلِيط الله له، وإذا أرادَ الله دفعَ شرِّه دَفَعَهº لأنَّ الأمرَ كلَّه له - سبحانه -، وإنما سُلِّطَ على العبد بما اجتَرحه من السيّئات، فإذا خشِيَ العبد ربَّه كمالَ الخشية واتّقاه وتوكَّل عليه وأناب إليه واستَغفره كفاه شرَّ كلِّ ذي شرّ، ولم يسلِّط عليه أحدًا، فإنّه - عز وجل - قال: {وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه، وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَـانًا وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مّنَ اللَّهِ وَفَضلٍ, لَّم يَمسَسهُم سُوء وَاتَّبَعُوا رِضوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ, عَظِيمٍ,} [آل عمران: 173، 174].

ألا وإنَّ ثمارَ هذه الخشيةِ ظاهرة وآثارها بيِّنة، فإنها باعِثٌ على إخلاصِ العمل لله - تعالى - والاستِدامةِ على ذلك، وطريقٌ إلى العِزَّة التي كتَبَها الله لعبادِه المؤمنين، وسَبيلٌ إلى صيانةِ النّفس عن التردِّي في مواطنِ الذّلِّ، وداعٍ, إلى التحلّي بمحاسِنِ الأخلاق والنٌّفرة من مساوِئها، وسببٌ لبلوغ السّعادة في الحياة الدنيا، وحامِلٌ على الأمنِ من الفزع الأكبر وإلى الفوزِ بالجنّة والنّجاة من النار، وصدق الله إذ يقول: {أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ,} [الزمر: 36]

نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه، وبسنّة نبيّه، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذَنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله وليِّ الصالحين، أحمَده - سبحانه - يحِبّ من عباده المتوكِّلين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام المتَّقين وخاتم النبيِّين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آلِه وصحبه أجمَعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ, إلى يوم الدّين.

أما بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ في قول الله - تعالى -: {إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] دلالةً ظاهِرة على أثَر العلم بالله في بَعثِ الخشية منه في قلوب العلماء به - سبحانه -، فكلّما كان المرءُ أعلمَ بالله كان أعظمَ خشيةً منه، ونقصان الخوف منه ـ كما قال الإمامُ الحافظ ابن القيم - رحمه الله - ـ إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرفُ الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتدّ حياؤه منه وخوفه وحبٌّه له، وخوف الخاصّة أعظم من خوف العامّة، وهم إليه أحوَج، وهو بهم أليَق ولهم ألزَم. انتهى كلامه.

فإذا تبيَّن أثرُ العلم في تربيةِ الخشية ـ يا عبادَ الله ـ كان هذا مدعاةً إلى كَمالِ العنايةِ به وتمامِ الرعاية له وشدّةِ الحرص عليه والسعي إلى بلوغ أعلى المراتب فيه.

فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعملوا على كلّ ما تبلغون به رضوان الله، واذكروا على الدوام أن الله - تعالى - قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الورى، فقال - جل وعلا -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...

 

---------------------------------------

[1] مسلم في كتاب القدر (2654).

[2] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه الحاكم (3/623)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): \"روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي\"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply