خطبة صمام الأمان ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون

حديثنا موصول عن صمام الأمان الذي يحفظ الإيمان، ويقيم الدين، ويثبت الصلاح وينفي الشر ويدفع الضر بإذن الله - عز وجل -، الشعيرة العظمى والقطب الأكبر في ديننا العظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد سلف لنا حديث يكشف عن أهميته، ويبرز خطورة تركه، والحديث اليوم مباشر إلينا، وموجه لكل واحد منا، كيف الطريق إلى القيام بهذه المهمة، والأخذ بهذه الشعيرة، والتحقق بهذه السمة اللازمة لكل مؤمن ومسلم، لأننا لا نريد أن نرسل الكلام على عواهله ولا أن نصف ونسرد الأدلة متتابعة في الأهمية أو الوجوب ثم لا يكون لنا من وراء ذلك عمل نقوم به ولا مهمة نتصدى لها.

وما جاس المنكر خلال الديار وما دخل إلى عقر الدار، وما ظهرت أعلامه وما كثرت أقلامه، إلا يوم ضعف الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أو قل عددهم، فكأنما خرست الألسنة، وعميت الأعين، وصمّت الآذان، وماتت القلوب..نسأل الله - عز وجل - السلامة.

فلعلنا نشير هنا إلى الأمر المهم الأول، وهو استشعار الغيرة الإيمانية، واستحضارها في القلب، تلك الغيرة التي تجعل القلب ينقبض والصدر يضيق، والنفس تتحشرج إذا رأت المنكر أو سمعت به، إنها النفس المؤمنة الصافية السامية، إنه القلب المؤمن المشرق الوضاء، الذي بمجرد سماعه أو رؤيته للمنكر تتحرك فيه المشاعر الإيمانية والغيرة الإسلامية، والحمية التي تدل على التشبث بهذا الدين والإتباع للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -.. {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له}

 

تعظيم حرمات الله يشتمل على معنيين:

أي تعظيم ما له حرمة وتقديس أن ينتهك أو أن يجترأ عليه، فلا نقبل اجتراء وانتهاكاً لحرمة كتاب الله أو لحرمة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لحرمة ما ثبت من شرع الله - عز وجل - من الأحكام القطعية الدالة عليها آيات كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

ومثل ذلك في المعنى أيضا أن يكون هناك الغضب لوقوع تلك المنكرات والمعاصي سواء كانت اجتراء على المعظم المحرم، أو كانت ارتكابا للمعصية والحرام.

قال السعدي في تفسيره {حرمات الله}: \" كل ماله حرمة وأمر باحترامه ولذلك قال تعظيمها إجلالها بالقلب ومحبتها وتكميل العبودية فيها غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل \".

وقال ابن كثير - رحمه الله -: \"ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه فهو خير له عند ربه \".

تلك هي الغيرة الإيمانية.. ويعضد ذلك ما جاء في سياق الآيات نفسها بعد آيتين: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}

دليل القلب التقي النقي أنه يغضب إذا انتهكت محارم الله، وذلك ما ثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه) رواه البخاري.

وفي رواية مسلم (إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله).

وهذه مهمة عظيمة، لا يمكن أن ننبعث إلى إنكار المنكر وقلوبنا غير منكرة له، ونفوسنا غير متبرمة به، وحزننا غير مخالط لنا لما لهذا المنكر من اعتداء على حرمة الله، أو مخالفة لأمر الله أو مضادة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وانتبهوا إلى هذه الصورة التي يذكرها لنا ابن القيم - رحمه الله -º لأنها صورة خطيرة من وجدت فيه دلت على ضعف إيمانه وزعزعة يقينه وعلى ذهاب الدلالات الواضحة على حياة قلبه، قال - رحمه الله -: \"وأي دين وأي خير يرجى فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع، ودينه يترك وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان \" ثم قال: \" وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت مآكلهم ورئاساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين - ثم ذكر الأمر الخطير الذي لا بدلنا من الانتباه له - وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرونºوهي موت القلبº فإن القلب كلما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ولرسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل \".

مقياس تعرف بها نفسك.. هل تغضب لحرمات الله المنتهكة وللمعاصي المنتشرة، أم أنه لا يضرك شيئ من ذلك، ولا تلتفت إليه ولا يسوئك في قليل أو كثير، لكن كما قال هو في مقالته: إذا أخذ شيء من مالك أو اعتدي على شيء من حظ دنياك، غضبت وأرغبت وأزبدت وقمت وانتصرت بكل ما بيدك من وسيلة.

فأول أمر لا بد من أن نحرص على وجود فينا: استشعارنا لعظمة وأهمية وضخامة دلالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان والغيرة والحمية الإيمانيةº فإن أحييناها وأشعلنا جذوتها وجعلناها حية في قلوبنا جارية مع دماءنا في عروقنا جائلة، في خواطر عقولنا حاضرة، في كلمات ألسنتنا فحينئذ تكون البداية الصحيحة التي تدفع إلى إنكار المنكر.

الأمر الثاني: المتابعة والموافقة والانتصار الحقيقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

إن الآمر الأعظم بالمعروف والناهي الأمثل للمنكر هو سيد الخلق - عليه الصلاة والسلام -، ومن عظيم صفته وسمته في هذا الأمر أن ذكرت صفته في الكتب السابقة منصوصا عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما نعلم من قوله - عز وجل -: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة... }.

ما هي الأوصاف؟

{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.

هذه سمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصفته في الكتب السابقة وصفته في سيرته الحية الناطقة.

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره في هذه الآية: \"هذه صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة وهكذا كان حاله - عليه الصلاة والسلام -، لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله \".

ثم ساق عن الإمام أحمد من رواية أبي حميد وأبي أسيد - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه)، قال ابن كثير: \"هذا حديث جيد الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة \".

ثم ساق عن علي - رضي الله عنه - قوله: \"إذا حدثتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا تظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنا والذي هو أنجى والذي هو أتقى - صلى الله عليه وسلم - \"

 

ما معنى هذا السياق الذي أورد فيه ابن كثير هذا الحدث وهذا الأثر عن علي - رضي الله عنه -، هو سياق مهم: (إذا سمعتم الحديث) قلوبكم تحبه وتعرفه تراه من الفضائل والقيم والأخلاق ومعالي الأمور (ولانت له أشعاركم وأبشاركم) تأثرتم به ورأيتموه قريبا منكم، تحبونه وتحبون اتصافكم به (فأنا أولا كم به) فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى من الناس أجمعين، بكل خير وبكل فضل وبكل خلق وبكل معروف.

(وإذا رأيتم أو سمعتم الحديث تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترونه منكم بعيد) أي ترونه قبيحا تبرءون منه، وتجتنبونه وتحذرون منه فاعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبعد الناس منه.

وذلك يدلنا على السمت الذي ينبغي أن نحرص عليه وهو طريقنا إلى أداء هذه الشعرية اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والتفاتا إلى المعنى الحقيقي في اتباعه ونصرته لأن الآية في ختامها: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه}

أي الذين آمنوا به ووقروه واحترموه وعظموا قدره ومقامه ونصروه هم أولئك الذين قاموا بتلك السمات، سمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الحلال الطيب والتحذير من الحرام الخبيث ونشر السماحة واليسر كما كان - عليه الصلاة والسلام -.

فإذاً ثمة أمر مهم لكي ننطلق إلى هذه الشعيرة أن نعرف أن قائدنا وقدوتنا هو سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وأن حقيقة انتسابنا إليه ومتابعتنا له وانتصارنا وذبنا عن سنته مرتبط بإقامة هذه الشعيرة التي أقامها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وثالث الأمور: الإخلاص والتجرد لله - عز وجل -º فإن المزايدة أو الرغبة في لفت الأنظار أو بيان التقدم بين الناس مفاخرة أو مباهاة أو إظهارا للعلم أو مباهاة به أو انتقاصا للناس أو ازدراء لهم أو ظنا بأن مرتكب المنكر والعياذ بالله قد استوجب النار أو غير ذلك، كلها دلالات لا تبعث على أداء المهمة على الوجه الصحيح ولا يتحقق منها الأثر المرجوº لأن الإخلاص هو قوام كل أمر هو الدافع الأول هو المقصد الأعظم هو الذي تبتغي به وجه الله - عز وجل - والدار الآخرة، لا ترجو به منفعة الناس بل ولا تخشى من هيبتهم كما سنذكر هذا الإخلاص هو مفتاح وسر التأثير، ألسنا أحيانا نذكر الناس ونعظهم؟ ألسنا نحذر من المنكر ونبين خطره، ألسنا نخاطب هذا وننصح ذاك، فما بال ذلك لا يجدي نفعا ولا يبدي أثرا، سر من أسرار عدم القبول، ليس في إعراض الناس، وليس في جهلهم وليس في مكابرتهم بل سر في إخلاص من أنكر، إخلاص من نصح، إخلاص من ذكر ووعظ، لم يرد بذلك وجه الله، لم يكن منطلقا بذلك من الغيرة على حرمات الله، له مصالح له أفكار، له مقاصد أخرى، فلا يصل حديثه إلى القلوب، ولا يؤثر في النفوس، ولا يقع به التغيير في واقع العمل والحال.

قال ابن النحاس - رحمه الله - في هذا المعنى كلاماً نفيساً، قال: \"فمن أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها وفي الألسن الذربة فقيدها وفي أيدي السلطة فعقلها، وأما زماننا هذا فقد قيد الطمع ألسن العلماء فسكتوا ولم تساعد أقولهم أفعالهم ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم \"

يقوله ابن النحاس هذا القول منذ قرون مضت ليس منذ عشر سنوات أو عشرين، يقول عن زمانه واختلال الأمر في أحوال علماءه، فكيف بحالنا وأحوالنا، ثم يقول ابن القيم في هذا المعنى:

\"رأس التقوى والإحسان خلوص النية في إقامة الحق والله - سبحانه وتعالى - لا غالب له فمن كان معه -أي معه الله - عز وجل - فمن الذي يغلبه، أو يناله بسوء \"

إن كان الله مع العبد فمن يخاف، وإن لم يكن معه فمن يرجو بمن يثق ومن ينصره من بعده، فإن كنت قد قلت القول لله فأنت مستمد قوتك من نصر الله ومن تأييد الله ولا تخشى أحدا إلا الله ويثبتك الله، ويزيد في قلبك الجرأة والشجاعة والثبات، وإن كنت لغير الله خفت كل أحد سواه وإن كان مقصدك شيئا من مبتغى الدنيا فإنه لا أثرا لذلك ولا نفع فيه وهذا أمر مهم.

 

ويتلوه أمر رابع وهو: الشجاعة والجرأة فإن الجبن والذل والخوف عقد الألسنة فلم تعد تقول حقا، ولم تعد تنطق بخير، ولم تعد تنكر منكرا في جملة أحوالها، وتلك الشجاعة من دلائل قوة الإيمان ورسوخ اليقين، وتلك الشجاعة من آثار القبول، وبعض الناس قد لا يفقه هذا، إن مرتكب المنكر ذليل في حقيقة الأمر بذلِّ معصيته، وذلّ منكره، وذلّ مخالفته لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه ذل أيضا من خشية فضحه بين الناس في بعض الأحوال، وفيه ذل أيضا بتخويفه من العقوبة الأخروية التي يؤمن بها، وإن غطى ذلك بانغماسه في تلك المعاصي والمنكرات، فإن المنكر أقوى منه، وأشجع وأقدر على أن تقول الحق وأن تبينه، وكم من قائل بالحق بجرأة مع إخلاصه ومع استشعاره لعظمة هذه الشعيرة وغيرته وحميته الإيمانية قال قولا لمن هو أقوى وأكثر سلطانا وجاها ومالا فكان لقوله أثر في خوف ذاك، وفي اعتذاره وعلى أقل شيء في استتاره وسكوته، غير أننا عندما نرى الباطل منتفشا وربما يكون مرتكبه كما نقول قويا يداخلنا خوف وخشية لا ينبغي أن تكون على تلك الصورة التي نرى كثيراً من شواهدها وأمثلتها.

ولعلنا هنا نشير إلى حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيبا فقال: (ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بالحق إذا علمه)

والحديث الأشهر الأكثر رواجاً وحفظا بين الناس، حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذنا في الله لومة لائم).

تلك البيعة التي بايعها الأنصار في أول الإسلام، قبل أن يكون جهاد وقبل أن يشرع قتال، قالوها وبايعوا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..

{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}

ومن هنا ندرك من أين تأتي هذه الشجاعة والقوة إنها من الأمر الأول السابق وهو الإخلاص لله - عز وجل - والثقة به، والاعتماد عليه والالتجاء إليه، وحسن الظن به، والتماس الرجاء فيما عنده من الأجر والثواب، ذلك يدفع المرء إلى أن يكون على هذا المعنى وعلى هذا السمت المهم من سمات قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد قالها ولقد فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمتنا وعلمائنا بل وآحاد وأفراد المسلمين في كل عصر ومصر، وتكررت تلك الحوادث ولنا إليها عود من بعد.

وفي هذا المقام نتمم بالسمة الخامسة، وهي العلم والحلمº فإن هذه الشجاعة التي ذكرناها قد تصبح تهورا وحمقا، وقد تصل إلى مخالفة شرع الله - عز وجل - ونحن قوم لا ننطلق من دوافع أنفسنا ومن ردود الأفعال بل نحن منضبطون بأفكار الشرع وبضوابط الكتاب والسنة.

ولذا لا بد من العلم بما يأمر به وبما ينهى عنه وليس شرط أن يكون عالماً بكل شيء أو من كبار العلماء، لكن إن علم حكماً، وعلم وجوبه، وعلم الدليل عليه، وكان من الأمور الظاهرة المعروفة من الواجبات والأركان أو من المحرمات المنهي عنها قطعاً بلا أدنى شك وبلا أدنى اختلاف فيها، فإن الأمر حينئذ قد حق فيه العلم وصدق فيها وصف العلم به، وهنا يجمع منع العلم الحلمº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).

فإن الغضبة والحمية للإنكار المنكر والشجاعة فيه لا تمنع، بل العلم والحلم يوجب التدرج ويوجب ما نفقهه من قول الله - عز وجل - في خطابه - جل وعلا - لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام عندما بعثا وأرسلا إلى فرعون أطغى أهل الأرض، قال: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}.

البدء كذلك والعلم فيه، العلم بالمصالح والمفاسد وأن لا ينكر منكراً صغيراً يعلم أو يترتب عليه منكراً أكبر، وفيه تفصيلات وفروع مهمة لا بد من معرفتها ولا بد من الإلمام بها لكننا لا نجعل ذلك ذريعة أن نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا سئلنا لما قلنا نحن لا علم لنا، ولا بد أن يكون الآمر والناهي عالما، فيكون عالما بما يأمر عالما بما ينهى، فهل عندكم شك في أن الخمر محرمة، وأن مرتكبها أو شاربها ينكر عليه والدليل على ذلك واضح والحكم مستفيض ومثل ذلك في أمور الواجبات، هل ينكر أحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الصيام فتارك ذلك مما ينكر عليه ويذكر ويؤمر بالمعروف، فأمور الدين المعلومة من الدين بالضرورة والأحكام التي توافرت أدلتها وعلم حالها وعرف ما يتصل بها في كلام أهل العلم وفي أحوال أمة الإسلام، أمرها بين ظاهر، وكل ذلك مما يعيننا على الأداء لهذه المهمة والشعيرة، أسأل الله - عز وجل - أن يحيي الغيرة الإيمانية في قلوبنا وأن يرزقنا الإخلاص لربنا وأن يوفقنا للعمل على طاعته والنهي عن معصيته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون:

وإن من دلائل التقوى الغيرة على حرمات الله - عز وجل - وإنكار المنكر والأمر بالمعروف، ولعلنا نختم بأمر مهم فيما نحتاج إليه وهو أمر الطاعة والعصمةº فإن الحمية الإيمانية والشجاعة والجرأة وغيرها لا تكون سببا إلى إثارة الفتنة والبلبلة وإشاعة الفوضى وتجاوز الحدود وممارسة الإنكار بصور لا يسمح بها الشرع، ومن أجل ذلك وأعظمه ترك السمع والطاعة لولي الأمر والخروج عليه والظن بأن إنكار المنكرات طريقه مثل هذا، ويغيب هنا أمور ومسائل كثيرة يضيق المقام عن حصرها، غير أني أشير إلى ربطنا بقضية العلم، وخير الهدي هو هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعظم من كان يغار على حرمات الله وينكرها هو رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وهو الذي قال لنا في حديثه الصحيح: (من كره من أميره شيء فليصبر، فإنه من خرج عن السلطان شبرا فمات، مات ميتة جاهلية) رواه ابن عباس في صحيح البخاري.

وقال ابن بطال في هذا الحديث: \"في الحديث بيان على ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء \".

وقد قال - عليه الصلاة والسلام - كما في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك عنه - عليه الصلاة والسلام -: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم - أي الدعاء بينكم متبادل- وشرارا أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيوف، قال: (لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة).

هذا هو هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل اندفاع طائش وكل عمل خارج عن ضوابط الشرعº فإنه هو في ذاته منكر ويترتب عليه من المنكرات ما هو أعظم.

ومن هنا كان من اعتقاد أهل السنة والجماعة المحافظة على الطاعة والعصمة والحرص عليها كما قال الطحاوي: \" ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والاستقامة \".

ومثل هذا المعنى مهم وهو متمم لذلكº فإن الدعوة إلى الغيرة الإيمانية والشجاعة والجرأة منضبط بمثل هذه المعاني في العلم، ولنا تتمة نوضح بها كيف نطبق هذا عملياًº فإنني أرى أن هذا الأمر لا بد فيه من استكمال صورته وتحديد خطواته ورسم معالمه، لأنه إذا تقاعسنا عنه فلم نعرف أهميته ولم نعرف واجبنا كأفراد نحوه، ولم نعرف طريقته وآليته بقينا على ما نحن عليه من التخلف والتقصير في هذه الشعيرة وجاء لنا وحل بنا وشاع فينا من السوء والضر والشر ما يتعاظم بالتقصير في هذه الشعيرة.

نسأل الله - عز وجل - السلامة والعافية، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأن يقيم في مجتمعاتنا الدين والإيمان والإسلام والخلق والقيم الفاضلة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply