الأحداث بين المبادئ والأهواء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

الأحداث بين المبادئ والأهواء..موضوع حديثنا نقف فيه مع بعض الأحداثº لنرى مقتضى المبدأ مستنداً إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحقيقة الفعل منطلقا من الأهواء والمصالح والشهوات بما تشتمل عليه من ظلم وعدوان وفساد وإفساد، ولا شك أن مرادنا من ذلك أن نعيش واقعنا في ضوء منهجنا، وأن نقوم مواقفنا بالاستناد إلى مصادر تشريعنا، وأن نعرف مواطن أقدامنا بالنظر والتأمل والاقتفاء لخطوات ومواقف نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لسنا نريد شريط أنباء ولا رواية أخبار، غير أنا نريد جوهر الأمر الذي نخلص منه في الآخر إلى توجيه ينبغي أن ننتفع به وأن نستفيد منه على مستوى كل فرد وعلى مستوى المجتمع والأمة كلها.

 

محاولة الإجرام الإرهابية الفاشلة لتفجير منشآت نفطية في المنطقة الشرقيةº حدث كان في الجمعة الماضية، لا شك أن الباحث له عن أي مبدأ ومستند في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجد ما تقوم به حجة ولا يستقيم به دليل، بل ولا تظهر فيه آثار شبهة، بل حتى لو رجع إلى مبادئ بشرية أو قوانين وضعية فلن يجد لهذا الفعل مبرراً أو مستندا يسوغه بحال من الأحوال.

أما ديننا فنحن نعلم كيف يجرم ويحرم ويعظم الدم المسلم، ومال المسلمين، وأمنهم وأمانهم واستقرار أحوالهم، كل ذلك نعرفه ونعرف ما كان يرجف به كثير من الناس ويلبسون به على الناس، إن كنتم أو إن كان مثل هذا الفعل في سابق أمره يقول إنه يستهدف الكفار غير المسلمين الذين فيهم وفيهم ومنهم ومنهم، لكننا رأيناه من بعد وهو يتوجه إلى رجال الأمن بدعوى أنهم يحرسون ذلك، وأنهم يدافعون عنه فاستحقوا العقوبة مثله لكنا وجدنا بعد ذلك أن الحقيقة تتضح وأن الخرق يتسع، وأن الرؤيا الظالمة المظلمة، وأن الفكر الجانح الخاطئ الذي يشتمل على تكفير كثير من الناس وعلى تفسيق المجتمعات، وعلى تبديع وإنكار سائر الأحوال يحلل ويبرر قتل كل أحد وإتلاف كل مال وإخلال كل وضع مستقر ومستتب، وتأتي هذه المحاولة اليائسة ضمن هذا الإطار والسياق.

ولسنا في حاجة إلى أن نقول إن هذا الأمر بمقتضى الشرع والدين في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وفقه الفقهاء، واستنباط العلماء، محرم لا شك في حرمته، بل إننا ندرك من كتاب ربنا أن الأمر فيما هو أيسر من ذلك معظم تعظيما كبيرا، كما جاء في قول الله - عز وجل - في قصة ابني آدم:

{فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين}

وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها)

قتل واحد خسارة عظمى، والتقدم في هذا الصدد وكون الفاعل قدوة، جريرة يتضاعف وزرها، ويتعاظم إثمها وتتكاثر سيئاتها ظلمات بعضها فوق بعض، (إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها) كما صرح به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والحق - جل وعلا - يقول: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}º لأن ذلك ذريعة لاستحلال الدماء، وإباحة إزهاق الأرواح واختلال الأمن وانفراط عقد الجماعة، وانحلال هيبة ونظام الدولة والأمة وكلها مفاسد عظيمة، حتى قال ابن بطال - رحمه الله - في المنع الذي وردت به أحاديث كثيرة عن الخروج على الإمام أو ما يؤدي إلى ذلك قال: \" المنع منه فيه تسكين الدهماء ومنع إراقة الدماء \".

ونجد كذلك التعظيم الذي ندركه ونعرفه في قتل امرئ مسلم واحد فيما جاء في كتاب الله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}

حتى قال بعض أهل العلم - وإن كان القول مرجوحا-: \" إن القاتل للمسلم لا توبة له\"

وأما ما وراء ذلك من إتلاف الأموال واختلال الأمن فحسبنا في ذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأعظم في يوم الحج الأكبر، في يوم الحشد الأشمل الذي كان يقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه مبادئ الإسلام العظمى ويؤكد حرماته الكبرى فيقول: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت اللهم فاشهد)

ذلك تقرير واضح.

 

ثم للنظر أيها الأخوة إلى المخاطر الأخرىº فإن وضوح الرؤية في هذا الأمر بعد صدور فتاوى العلماء ووضوح رأي العقلاءº فإنه لا مجال لتعلق بوهم خاطئ ولا بتبرير بعيد غير سائغ لأن مثل هذا هو نوع من الضلال والانحراف في الفهم الصحيح لحقائق وشرائع وأحكام الإسلام وهو من جهة أخرى قد يكون ذريعة من ذرائع ترويج هذا الأمر والفكر وما ينبني عليه من قبائح الأعمال الفاسدة المفسدة، ولذلك نستحضر هنا حديث أبي هريرة عند ابن ماجة في سننه بسند فيه رجل مضعف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله وهو منه براء) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.

ولفظ رواية ابن ماجه: (لقي الله - عز وجل - مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله) والحديث فيه ضعف شديد لكن المعنى من خلال نصوص الآيات من حيث التحذير والوعيد فيه دلالة عظيمة.

 

ومن هنا ينبغي لنا الانتباه إلى هذا القضية ولننظر إلى جوانب أخرى لنرى مزيداً من الأضرار التي تلحق بأمة الإسلام من مثل هذه الأفعال، فبعيداً عن الحرمة والفساد والإفساد التي يترتب على مثل هذا الفعل لننظر إلى النتائج الأخرى بينما الأمة في أعظم صور توحدها وتجمعها انتصارا لرسولها - صلى الله عليه وسلم -، وبحثا لشئونها لكي ترجع إلى كتاب الله سنة رسوله وتحسن مواجهة أعداءها والانتصار لدينها تأتي مثل هذه الحادثة لتكون فتّاً في العضد وتشويها للسمعة وذريعة للأعداء لمزيد لمواصلة حملات الإعلام المشوهة المغرضة، وتأتي كذلك لتكون سببا في إرباك الأعمال التي يمكن أن تكون خيرا للإسلام والمسلمين عندما تمضي أو يمضي بها الأخيار والأبرار من العلماء والدعاة والمصلحين في أمة الإسلام.

 

ننظر كذلك وإذا بها أي مثل هذه الحادثة تبعد الضوء عن فضائح الأعداء التي تتوالى اليوم في فضائح التعذيب في العراق وفي فضائح الجرائم في أرض الإسراء وفي غيرها، فإذا بالأنظار تتوجه هنا ويقال هذا هو الإسلام أو يقال هذا هو الإرهاب الإسلامي أو يقال كذا وكذا ليغطى بعد على تلك الجرائم، وغير ذلك مما يمكن أن ينظر فيه فنبرأ إلى الله - عز وجل - من مثل هذا الفعل أو تسويغه أو النظر إليه بوجه من الوجوه التي لا تجعله في ما هو عليه على وجه الحق والصواب الذي بينه أهل العلم في خطأه وجرمه وحرمته وضلاله وزيغه وبعده عن حقيقة الإسلام وحقيقة ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولا شك أننا ها هنا بحاجة أيضا إلى شكر الله - عز وجل - وحمده على نعمته التي يسرها وأجرى قدره بها بهذا الحفظ على يد من سخرهم من رجال الأمن الساهرين على حفظ الأمن ولهم بذلك أجر الله - عز وجل - ومثوبته بما كانت في قلوبهم من نية وما بذلوا من جهد وما عرضوا له أنفسهم من خطر، ولا شك أن مثل هذا الحادث لو كان قد وقع لكانت له أضرار عظيمة جسيمة خطيرة، لا يعلم إلا الله - عز وجل - مداها، وتلك نعمة ينبغي حمدها وشكرها، ولا شك أن حمد النعم وشكرها قولاً وفعلاً هو بالتزام الدين والتمسك به واقتفاء السنة والاعتصام بها، والحرص على الوحدة والائتلاف والبعد عن الفرقة والاختلاف، فذلك الذي يحفظ علينا وحدة أمتننا وقوة دولتنا وانتظام أحوالنا واستمساكنا الذي نريد أن يكون دائما وأبدا بديننا.

 

وقفة أخرى وحدث آخر - وليس للأحداث ترابط تاريخي غير أنها قريبة عهد بعضها ببعض - يحدثنا الأعداء كثيرا عن الديمقراطية، صمّوا بها آذاننا، وقالوا اجعلوا الحرية والاختيار للشعوب واجعلوا كل من يصل إلى سدة الحكم يكون وصوله إليها عبر صندوق الاقتراع الذي قالوا إنه الحكم الفصل، ولكنا رأينا بعد أن وصلت حركة الحماس الإسلامية الإرهابية كما يزعمون إلى سلطة، أو إلى سدة السلطة في أرض الإسراء أو في جزء من تلك السلطة التي تقوم الآن قالوا: كلا هذه الديمقراطية خاطئة وليست هي التي نريدها، وليس هذا فحسب، بل كل ما وقع وجرى من الانتخابات تقريبا بلا استثناء في كل الدول بعد الحادثة الشهيرة التدميرية في الولايات المتحدة، كلها كان الفوز فيها كما يقولون بمن يسمون بالاتجاه الإسلامي أو الإسلاميين، وليس ذلك إلا مصطلحا ربما يفهمه أو يريد أن يذكي فيه النار بعض الناس، ليقول هل الناس مسلمين وغير مسلمين، وليس هذا مرادنا، لكني أقول هنا، هنا تتضح المسائل، هل هي مبادئ أم أهواء؟ هل هي قيم وأعراف وقوانين محترمة معتبرة مطبقة في كل حال وآن؟ أم هي الموازين المختلة والمكاييل المختلفة؟ ونحن بحمد الله - عز وجل - معاشر أمة الإسلام لدينا ما يعصمنا من الميل مع أهواءنا والسير مع مقتضى مصالحنا وإن ظلمنا أو جرنا فالقرآن يخاطبنا {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}

هذا الذي يقوله لنا إسلامنا إن أبغضنا الكافرين أو المعتدين فإن بغضهم لا يحملنا على ظلمهم، بل ننصف ونعطي الحق لصاحبه وقدوتنا في ذلك رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -، يوم قالوا في يوم فتح مكة: اليوم يوم الملحمة، فقال: (بل يوم المرحمة)

ويوم سأل عن سيد بني شيبة بعد الفتح وسلمه مفاتيح البيت وقال: (اليوم يوم الوفاء) تلك هي مبادئ الإسلام، تلك هي قيمه الرفيعة، ذلك هو تاريخه المضيء، وتلك هي حضارته السامية، فأين الغرب وأين الأمم المعاصرة لتقول لنا، هل وضعت مبادئها تحت أقدامها، أو رمتها وراء ظهورها، الواقع يقول ذلك ويصدقه، أما ديننا العظيمº فإنه يبين لنا الحقائق التي ينبغي أن نكون عليها {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.

هل مثل هذا النداء في التربية الإيمانية والاستقامة المنهجية والاستمساك بالمبدأ في كل ظرف وحال كما قال سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -: (والعدل في الغضب والرضا).

كان ذلك من دعاءه - عليه الصلاة والسلام -، وتاريخ أمة الإسلام يخبرنا عن ذلك، وإلى يومنا هذاº فإن الذين يستمسكون بالإسلام يعصمون أنفسهم من ذلك، ولكننا هنا نقول إن هذه الأمور تكشف الحقائق وتعري الحضارة المعاصرة والقوى الكبرى والعظمى التي تدعي أنها ترفع شعارات وتقوم بمبادرات لإقرار الحق وإقامة العدل وإعطاء حقوق الإنسان، وهم أول جناتها وأعظم المخالفين لها والذين يستثنون أنفسهم من القوانين الدولية التي تشمل كل العالم ثم تستثني الدولة الكبرى، ولا يعلم أحد حتى ولو كان من الجاهلين أو الحمقى أن هذا الاستثناء له مبرر معقول أو منطقي إلا أنه لا يفهم منه إلا معنى واحد وهو أنني سأرتكب الجرم ولا أريد أن أعاقب كغيري، وهذا واضح ظاهر لم يعد اليوم خفيا، ليست معتقلات غوانتنامو ولا معتقل أبوغريب وإنما هو أكثر من ذلك، فالحقيقة ظاهرة تكشفها بعض السوءات القبيحة لكن الأمر هو كله سوأة في جملته.

 

ووقفة ثالثة أيضا في الحدث الذي لا زلنا نعيشه، ولا زلنا وينبغي أن نظل نعيشه وننتبه له أمر المقاطعة الاقتصادية التي كانت مع هبة الغضبة الإسلامية لنصرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم -، من البضائع الدنمركية وغيرها قالوا لنا إن هذا نوعا من التطرف وشيئا من التمييز وتصرفات هوجاء وغير ذلك مع أننا نعلم أن نص القانون الدولي الذي يعظمونه ويقدسونه كأنه وحي منزل يقول: إن الأمم المتحدة تتخذ العقوبات الاقتصادية وسيلة من الوسائل القانونية لردع من يخالف التوجهات أو المصالح العالمية، بل وتشتمل المقاطعة على حظر الطيران وعلى حظر الاستيراد وعلى حظر النشاطات الاقتصادية وقد طبق ذلك ورأينا ثماره المجرمة في أثناء حصار العراق قبل الحرب، يوم كان الأطفال يموتون كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف، ويوم كان الحصار الجائر على ليبيا كذلك، ورأينا كل هذا وكان انتصارا للحق والعدل، وكان تطبيقا للقانون واحتراما له، فلما جاء المسلمون بعفوية شعبية يريدون أن يحموا دينهم وأن يرفعوا رؤوسهم وأن يعتزوا بقيمها وأن يفدوا رسولهم - صلى الله عليه وسلم - بكل ما يستطيعون، يقال لهم إن هذا كذا وكذا أو غير ذلك عجيب أمر هذا.

 

ولعلي هنا أن أقف وقفة مع آية أتمنى أن نتأمل فيها كثيرا وأن نعود إلى قراءتها وقراءة تفسيرها، وليست آية واحدة بل جملة من الآيات من سورة الشورى، إنها في الحقيقة تمثل صورة مشرقة عظيمة، وهي واحدة من كل الصور المشرقة في كتاب ربنا وشريعة إسلامنا تأملوا هذه الآيات في وصفكم معاشر المسلمين الذين يلتزمون دينهم: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}

وسنتم بقية الآيات، الله - عز وجل - يصف، صورة من الكمال كما قال ابن السعدي في تفسيره، قال:

\"وصفهم بالكمال والاستجابة لأمر الله، وإقامة الصلاة والشورى فيما بينهم والإنفاق والبذل بالإحسان للخلق، وكمل ذلك {وإذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، إن وقع الظلم عليهم أو حل الجور بهم، أو نزل العدوان في أرضهم فإنهم لا يرضون ذلا ولا يغضون عن عدوان، ولا يطأطئون رؤوسهم ولا يرجعون إلى الخلف فارين ولا هاربين، ولكن كما قال الله - عز وجل -: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}\"

قال ابن كثير - رحمه الله -:

\"أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بعاجزين ولا أذلة بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا \".

وساق ابن كثير هنا مواقف عظيمة من عفو سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - عن كثير ممن توجهوا بالإساءة إليه، لكن العفو لم يكن إلا بعد أن قدر عليهم وبعد أن كان في موقف العزة وبعد أن أظهر عظمة الدين والحمية الإيمانية والغيرة الإسلامية، والحادثة معروفة في الرجل الذي اختطف السيف والرسول نائم تحت الشجرة وقال: من يمنعك مني يا محمد، فأجاب بلسان اليقين وبثبات المؤمنين:

(الله) فارتعد المعتدي وسقط السيف من يده وأخذه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، وأصبح القادر العزيز، قال: (من يمنعك مني)، قال: كن خير آخذ يا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

تتمة الآيات في هذا المعنى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر من بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس بغير الحق وأولئك لهم عذاب عظيم * ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور}.

هنا أمران، إذا ما بغي عليهم وأصابهم البغي ينتصرون، ثم آيات فيها المغفرة وفيها العفو.

قال ابن العربي - رحمه الله - في بيان هذا كلاما نفيسا يستحق أن نعرفه وأن نفهمه وأن نطبقه كذلك، قال: \" هما حالتان - ثم بين فقال: - كل واحدة راجعة إلى حال، إحداهما: أن يكون الباغي معلنا بالفجور وقحا في الجمهور مؤذيا للصغير والكبير فيكون الانتقام منه أفضل\"

وفي مثله قال إبراهيم النخعي - رحمه الله -: \" كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق \"

والحالة الثانية: أن تكون الفلتة - يعني غلطة عابرة - ويقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة فالعفو هنا أفضل - ثم ساق من الآيات ما يدل على ذلك - {وأن تعفو أقرب للتقوى} {فمن تصدق به فهو كفارة له} بعد أن يكون لك الحق في أخذ القصاص تندب للعفو\".

{وليعفوا وليصفحوا ألا يحبون أن يغفر الله لهم} في قصة أبي بكر الشهيرة.

 

إذاً ونحن في هذا الموقف في موقف الانتصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ينبغي أن نتحقق لهذا، أصابنا البغي، نعم! أصابنا البغي ليس من هؤلاء فحسب، بل ممن قبلهم من اليهود الصهاينة الغاصبين في أرض فلسطين، ومن يعينهم ومن وراءهم من القوى الكبرى التي تدعمهم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهؤلاء الذين أساءوا إلى خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - وإساءتهم لا تضره فهو أكرم وأشرف من أن يصله إساءة من أحد بل من الخلق كلهم لأن الله - عز وجل - أكرمه ورفع قدره وعظم شأنه - عليه الصلاة والسلام - ولكننا نقول إنه لا بد لنا أن نتحقق بقول الله: {والذين إذا أصابهم البغي هن ينتصرون}.

أظهروا عزتكم واصلوا مقاطعتكم، واصلوا كل ما من شأنه أن يثبت تمسككم بدينكم واعتزازكم بإيمانكم واستعلاءكم على كل أعداءكم، لئن لم نملك شيئا من أسباب المادة أو بعض القوى العسكرية فنحن نملك الإيمان الراسخ، ونملك الإسلام الكامل ونملك الهداية والقدوة العظيمة في سيرة خير الخلق - صلى الله عليه وسلم -، نملك ما لا تملكه تلك الشعوب كلها التي فقدت مقومات كثيرة في مبادئها وقيمها، بل هي اليوم كما نقول تكسر هذه المبادئ وتطؤها بأقدامها وتلعنها بأفعالها، وتتعرى في حقيقتها كما هي فينبغي لنا أن ندرك ذلك ولا ينبغي لنا أن نبادر بعفو قبل أن يكون هناك ما يستدعيه مما هو مبني على بيان تلك الزلة والاعتذار منها وطلب العفو منها، وإلا فما قيمة ما فعل.

 

وهنا تنبه لقول الله - عز وجل -: {فمن عفا وأصلح}.

قال أهل التفسير: \"معنى أصلح أن يكون العفو مؤديا إلى تحقيق مصلحة وليس إلى غيرها\"

أن تعفو عن ظالم ما زال ظالما ومازال يقول إنه ظالم، ومازال يعلن إنه ظالم وما زال يقول إنه سيظلم، ومازال يعد عدة لظلمه، أي عفو هذا؟ وأي سلام هذا؟ إنه الحمق الذي ليس وراءه حمق، وهو الذل الذي ليس وراءه ذل، فنربأ بأنفسنا والله - عز وجل - قد وصفنا بهذا الوصف العظيم من الاستجابة والصلاة والشورى والإنفاق والانتصار من بعد البغي والظلم نسأل الله - عز وجل - أن يعظم الإيمان في قولبنا والحمية في نفوسنا والعزة بإيماننا والاستمساك بسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -.

أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

والأحداث أحبتي الكرام كثيرة ومن هذه المبادئ وتلك الأهواء نرى صوراً عجيبة ولست بقادر أن أذكر ما أحب من الأحداث، غير أني أقف وقفة سريعة في حدث عابر حديث أيضا ليخلص إلى ما تريدونه، وتسألون عنه وهو لما تحدثنا عن هذه الأمور، ليست لنا بها صلة ليست لنا فيها تأثير.

أقول حدث في ندوة في بلادنا في ظل الثقافة وفي ظل المعرفة وفي ظل القراءة والكتاب، ندوة تشن مرة أخرى حملات شنيعة على مناهج تعليمنا، وذلك في شيء ظاهر أو غير ظاهر يتعرض لبعض ثوابت ديننا، ويظهر ذلك أيضا بين المبدأ والهوى بين الوطنية ومراعاة المصالح الاجتماعية للبلاد والمجتمع، وبين الأهواء التي تسير مع الشرق والغرب وتحذو حذو القذة بالقذة من ليس من أهل ديننا ولا ملتنا، كأنما نستحضر ونخشى أن يتحقق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن) أي فمن غيرهم.

كم نرى من يتكلم بألسنتنا لكنه يقول كلام أعداءنا، كم نرى من ينتقد أوضاعنا لكنه يرمي بسهام أعداءنا، ولذلك نقول: الخلاصة التي نريدها، لم نتحدث عن ذلك، لنقول إننا في حاجة إلى أمرين مهمين:

الأمر الأول: اليقين التام والجزم القاطع بأن مخرجنا من كل فتنة وبأن قدرتنا على مواجهة كل خطب، إنما هو بالاستمساك بديننا، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي).

لا بد أن نوقن بذلك لن نخرج من أي مشكلة عندما نبحث عن هذا الحل من الشرق أو تلك المسألة من الغرب بحال من الأحوال، وينبغي أن نقول ذلك ليس على سبيل الإجمال بل على سبيل التفصيل، في هذه الخطبة وغيرها عندما كنت أريد معالجة أمر من الأمور التي تقع أبحث في الآيات وأجتهد فكأنما أرى الآيات تنزلت اليوم تخبرنا عن هذا الذي رأيناه، أليس تحدثنا من قبل عن شأن المقاطعة فوجدنا ما يدل على تشريعها بنص واضح في أمور كثيرة متصلة بهذا كقوله - عز وجل - {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب والكفار من قبلكم أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.

أليس هذا نص واضح أليست هذه القضايا التي نتحدث عنها {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}.

تحكي واقعاً وتحكي صوراً، ونراها تفسيراً ونقرأها سيرة فكأنما نحن على بصيرة من أمرنا في كل شيء كأنما وقع اليوم وكأنما تنزلت آياته اليوم.

 

وسيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها كل جانب من جوانب الحياة إذا وقع وجدنا فيه نوراً وإضاءة وإرشاداً ومنهجاً، ولذلك لا بد أن يكون هذا هو الذي يستقر في أذهاننا ويسكن في قلوبنا ويرى في واقعنا، والذين يقولون بغير هذا والذين يصفون مثل هذا بأنه نوع من الرجعية أو نوع من الجمود، فنقول إن كان هذا على بصيرة العلماء وعلى بيان الكتاب والسنة هو ذلك الذي تقولونه فنحن نفتخر بأننا رجعيون وجامدون إن كان جمودنا هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اللذين جعلهما الله - عز وجل - صريحة صالحة لكل زمان ومكان وحفظهما من التغيير والتبديل لعلمه بأن هذه هي الرسالة الخاتمة وأن هذا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين وبأن هذا الإسلام هو دين الله - عز وجل - للعالمين إلى قيام الساعة.

 

والأمر الثاني أيتها الأخوة الأحبة: أن نحرص على تحقيق ذلك، أي على تحقيق الاستمساك بالدين وذلك بالحرص على الائتلاف والوحدة والابتعاد عن الاختلاف والفرقة.

النظر إلى أقوال أهل العلم المخلصين، والتشبث بما يجيء عن الدعاة العاملين حتى نكون قلبا واحدا، لا ينبغي أن تفرقنا الأهواء لا ينبغي كذلك أن نسير وراء كل ناعق، ينبغي أن نحرص على وحدة أمتنا ومجتمعنا، وعلى أمن دولتنا وحكومتناº لأننا بذلك نحفظ ما يستقيم به أمرنا وما يمكن أن نتمسك بديننا، فعلينا لكي نحقق ذلك، أن نحفظ الحق المشروع لولاة الأمر، وأن نعرف الواجب المطلوب لأهل العلم، وأن نلتزم في أنفسنا بما يجب علينا في ذلك، علّ الله - عز وجل - أن يتداركنا برحمته وأن يعمنا بفضله، وأن يجعل لنا في كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل فتنة عصمة ومن كل بلاء عافية.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply