كيف تنمي ملكتك الفقهية ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الفقه في الدين من أجلِّ الفضائل وأعظمها، وأعلى المقاصد في الدارين وأكرمها، فلا يطلبه إلا من علَت همته، ولا يتشـوق إليـه إلا مـن استقامت فطرته، وتسامت عن الدنيا طلبته.

لقد حث الإسلام على التفقه في الدين، وأجلَّ فضله ورفـع ذكـره، وجـعل الخيـرية فـيه، كما جاء في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»(1).

فقد حث الوحي أتباع هذا الدين على بذل الجهد في الازدياد الدائم من الفقه، وعلى ذلك دأب الرعيل الأول من هذه الأمة في تعظيمهم شأن الفقه في الدين، فنجد أن الإمام الزهري يقول: «ما عُبد الله بمثل الفقه»(2).

قال ابن الجوزي: «بضاعة الفقه أربح البضائع، والفقهاء يفهمون مراد الشارع، ويفهمون الحكمة في كل واقع، وفتاويهم تميز العاصي من الطائع»، وأضاف: «الفقه عليه مدار العلومº فإن اتسع الزمان للتزيد فليكن في التفقه فإنه الأنفع»(3).

 

فالحرص على استغلال فرص العمر، في ملئها بالازدياد من الفقه في الدين والارتواء من معِينه الثر، من أساليب أجلة العلماء ومناهج أغلب العقلاء. وفي خضم المستجدات الحياتية المتسارعة، وتشعب الفتوى، وجرأة وتطاول غير أهل الشأن على التصدر والتعالم والتقول على الله بغير علمº مما أدى إلى اضطراب عظيم وضرب صارخ لمحكمات النصوص بعضها ببعض، ورد بعضها تحت طائلة التخرص وتحكـيم الهوى على النـص، أو زعـم موافقـة روح الشريعة..، في خضم هذا التهارج دعت الحاجة أكثر من ذي قبـل إلى إشـاعة تنـمية الملـكة الفـقهية بـين الدارسـين، حتى يـتأتى تخـريـج طلبة علم فقهاء، يملكون سلطان المواءمة بين نصوص الشرع واستيعاب الواقعº لسد حاجة المسلمين في تغطية مستجدات الحياة ذات التعقيد البالغ بالفقه الحي الذي أساسه ومبناه على الوحي..وفي إطار ذلك لا بد لطالب العلم أن يكون منضبطاً في رؤيته، وأن يضع لنفسه غاية نبيلة يسعى إلى تحقيقها، فتكون جهوده هادفـة وعلمـه لمقـصد.يقول الإمام الشاطبي: «كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعاً. والدليل على ذلك استقراء الشريعة، فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به»(4).

 

وهـنا يلزم التأكـيد قـبل كل الشـروط والوسـائـل التي لا مناص منها لتنمية ملكة الفقه على ضرورة إخلاص النية لله - عز وجل -، وإلا محقت بركة هذا التفقه وكان وبالاً على صاحبه، كما لا بد من التقوى التي هي خَلَف من كل شيء ولا خلف منها، والتي هي وصية الله - تعالى - للأولين والآخرين.

 

قال - تعالى -: {وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، ثم هو سبب لتحصيل كل علم نافع، قال - تعالى -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّـمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]

 

والحديث عن تنمية الملكة الفقهية يمر عبر عدة وقفات:

أولها: تعريف هذا المركب لغة واصطلاحاً:

1 ـ التنمية والنماء: ومعناها: الزيادة والعزو والكثرة والعلو والرفع.

ونَمَيتُه: رفعتُه على وجه الإصلاح.

ومنه حديث أم كلثوم بنت أبي معيط - رضي الله عنها -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً وينمي خيراً»(5).

 

ونمَّاه: زاده وكثًّره، ومنه قول الأعور الشني:

 

لقد علمت عميرة أن جاري

 

إذا ضن المنمي من عيال

 

وكل شيء رفعته فقد نميته، ومنه قول النابغة:

 

فعدِّ عما ترى إذ لا ارتجاع له

وانمِ القُتُود على عيرانة أُجُدِ(6)

 

وأما التنمية اصطلاحاً: فتعني الترقية والتطوير والتقوية ومضاعفة القدرات.

 

2 ـ الملكة: ملك يملك ملكاً وملكوتاً وملكة: إذا قوي في الشيء. والملكة بمعنى الملك، ومن ذلك قوله - تعالى -: {مَالِكِ يَومِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ومنها قوله جل ذكره: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الـمُلكِ تُؤتِي الـمُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الـمُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزٌّ مَن تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، وتأتي ملك بمعنى نفع، ومنه قوله - تعالى -: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا} [المائدة: 41].

 

وتأتي بمعنى الطاقة، ومنه قوله - تعالى -: {مَا أَخلَفنَا مَوعِدَكَ بِمَلكِنَا.. } [طه: 87]، وتأتي بمعنى القهر والسلطان والعظمة، ومنه قوله - تعالى -: {الـمُلكُ يَومَئِذٍ, الـحَقٌّ لِلرَّحمَنِ} [الفرقان: 26].

 

والملكة في الاصطلاح: صفة راسخة في النفس تكتسب عن طريق التكرار(7).

 

3 ـ الفقـهيـة: وهي نسبة إلى الفقه الذي هو لغة: الفهم، ومـنـه قولـه - تعالى -: {قَالُوا يَا شُعَيبُ مَا نَفقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} [هـود: 91]، وقــولــه جـل ذكـره: {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَومِ لا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، وقولـه جلت عـظـمـتـه: {وَاحلُل عُقدَةً مِّن لِّسَانِي* يَفقَهُوا قَولِي} [طه: 27 ـ 28]، والفـقه في الدين يعني معرفة الأحكام الشرعية العمـليـة التـي بعــث بها محــمـد - صلى الله عليه وسلم -، وهـو المقصود بقوله - تعالى -: {فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ, مِّنهُم طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122].

وقد ذهب المتأخرون من العلماء إلى حصر الفقه في دائرة العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية. يقول الإمام البيضاوي: «الفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية»(8).

 

وتأسيساً على ما تقدم فإن الملكة الفقهية إذاً هي: (اكتساب الفقه الشرعي تنظيراً وممارسة، حتى يصير سجية تمكِّن صاحبها من فهم المسائل المعروضة عليه، وتقوده إلى امتلاك آلية تسعفه بتنزيل النصوص على الوقائع واستنباط الأحكام الشرعية في ظلها، ترجيحاً بين الآراء، وتخريجاً على مذاهب الفقهاء، وموازنة بين المصالح والمفاسد). ولتحصيل ملكة علمية راسخة لا بد من أخذ العلم على يد العلماء الراسخين فيه، يقول الإمام الشاطبي: «من أنفع طرق العلم الموصلة إلى عناية التحقيق به أخذه عن أهله المحققين به على الكمال والتمام»(9)، ويضيف الإمام الشاطبي مبيناً صفة العلماء الذين هم أهل لأن يؤخذ عنهم: «وللعالم المحقق بالعلم أمارات وعلامات... إحداها العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله، فإن كان مخالفاً له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به في علم،... والثـانية أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح،... والثالثة الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا في كل قرن.. »(10). وكذلك لا بد للعامل على تنمية الملكة الفقهية من تنويع المشايخ الذين يأخذ عنهم، يقول ابن خلدون: «على كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها»(11). وقال السختياني: «إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره»(12).

 

ثانياً: أسس بناء الملكة الفقهية:

ولكي ينمي طالب العلم ملكته الفقهية لا بد له من التركيز على أسس يقيم تشييد بنيان طلبه عليها:

1 ـ الإخلاص:

يقول ابن فارس: الخاء واللام والصاد أصل واحد مطرد، وهو تنقية الشيء وتهذيبه(13). والإخلاص هو ترك الرياء في العمل.

يقول الله - تعالى -: {وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا} [النساء: 36]، فالعمل حتى يكون مقبولاً عند الله ـ جل ذكره ـ لا بد أن يتصف بصفتين، أولاهما الإخلاص، والثانية الاتبـاع، قال الله جلت عظمته: {فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِـحًا وَلا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقـال - تعالى -: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الـخَالِصُ} [الزمر: 3]، وقال جل ذكره: {إنَّا أَنزَلنَا إلَيكَ الكِتَابَ بِالـحَقِّ فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر: 2] وقال - تعالى -: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ, وَادعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، ذلك أن الشـرك محبط للعمل مؤذن بالخسارة، يقول - تعالى -: {لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الـخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه» قال: «... ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرّفه الله - تعالى - نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئº فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار... »(14).

 

قال ابن عبد البر: «وهذا الحديث فيمن لم يُرد بعمله وعلمه وجه الله تعالى»(15).

 

ولما سمع معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - هـذا الحـديـث بكـى ثـم قـال: «صـدق الله ورسـوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الـحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لا يُبخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعمَلُونَ} [هود: 15 ـ 16](16). وعن ابـن ع

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply