إذا كثرت الخدم كثرت الشياطين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده - سبحانه -، ونُثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترُكُ من يفجره، إياه نعبد، وله نصلي ونسجد، وإليه نسعى ونحفِد، نرجو رحمته، ونخشى عذابه، إن عذابه الجِدَّ بالكفار ملحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين بين يدي الساعةِ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين - رضي الله عنهم ورضوا عنه - إن الله لعلي حكيم، أما بعد:

فاتقوا الله معاشر المسلمين، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ومن ثَمّ فلتعلموا أن نعمَ اللهِ علينا تتراً، يكِذبُ مُدعٍ, حَصرَها، ويعجَزُ مؤمِلٌ عدّها، نِعَمٌ تترادف حلقاتها، تقولُ اللاحقةُ للسابقة: أختي.. أختي، نِعَمٌ في شؤون العبادات والدين (( اليوم أكملت لكم دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ))، ونِعمٌ أخرى في وسائلِ الفهم وحُسنِ التعايُش، ونِعَمٌ في تسخير البشر بعضِهم لبعض، ونِعَمٌ.. ونِعَمٌ.. ونِعَمٌ.. يخُصٌّ ربُنا بها هذا، ويمنح ذاك، ويقصِر على هذا، ويمنع ذاك (( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضَهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضُهم بعضاً سُخرياً ورحمةُ ربك خير مما يجمعون )).

أيها المصلون المحبون: تسخيرُ العباد بعضِهم لبعض من أعظم مننِ الله على خلقه، وأكثرِها ابتلاءً وامتحاناً في الوقت ذاته، ألا وإن ثَمَّةَ ظاهرةً متفشيةً هي من نوعِ التسخير الذي منّ الله به على عباده، ظاهرةٌ استطارت جذورُها، واتسع نطاقها، حتى أصبحت من فَرطِ اتخاذِها عادةً فحسبº أن جُعلت في منأى عن التأملِ والتبصر والنظرِ المُنصِفِ في حقيقتها، وحُسنِ الإفادةِ منها، بل التفكر فيما يجبُ لها وما فُرض عليها، إنها ظاهرةٌ ليست وليدةَ الحاضر ولكنها ليست قديمةَ الماضي، هي في مأزِقٍ, من الأمر، تترقبُ الأطروُحاتَ الجادة، والبحوثَ المثمرة من على منابرِ التوجيه والإرشاد، أو في المنتدياتِ العامة والتوجيهِ الإعلامي، أتدرون أيٌّ ظاهرةٍ, هذه؟ إنها ظاهرة الخدم.

نعم إنها ظاهرةُ الخدم، إنها بحق ظاهرةٌ، ولكن ليس هذا هو العجب، وإنما العجب أن تكون بهذا الحجمِ الكبير بين ظهرانِينا دون أن تكونَ محلاً لحُسنِ التكثير وصحةِ الأسلمةِ لها، يَعُبٌّ الناس منها عبّاً، لا يُلوي الكثير منهم على شيء سوى أنها عادةٌ وطبعٌ، وتفاخر وحبُّ في الرفعةِ والشرفِ، وحبِّ التسلط والتشبهِ ببَلاطِ السلاطينِ ونحوهم، إننا لو أمعنا النظر شيئاً يسيراً لوجدنا أن هذه الظاهرةَ متراميةُ الأطراف، وأنّ َالحديث عنها يُعوِزُه الوقتُ الطويل بعد سبرِها وتشخيصها من خلال استقراءٍ, ميدانيٍ, واسعِ النطاق، ولكن على حدِّ قول القائل: \"ما لا يُدرك كلٌّه لا يترك جله\"، فلنكتف إذن بشذرات متفرقةَ التناثر َحول ما يتعلق بهذه الظاهرة الجُلَّى، فأقول:

أيها المسلمون: إن أول ما ينبغي أن يُذَكَّرَ به هو أن الله - سبحانه - قد منّ على أمة الإسلام فجعلها تابعةً لا متبوعة، وأنه لم ولن يجعلَها ًلقمةً سائغة لتسلٌّطِ أهلِ الكفر عليها في الجملة، وذلك يظهرُ بوضوحٍ, لما نرمي إليه من خلالِ سماع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده حيث قال - صلواتُ الله وسلامه عليه -: (سيكونُ في آخر أمتي رجال يركبون على سروجٍ, كأشباه الرحال، يَنزِلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسياتٌ عاريات، على رؤوسهن كأسنِمةِ البخت العِجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت وراءكم أمةٌ من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم، كما يخدمنكم نساءُ الأمم قبلكم )، إذن لقد رحم الله أمة محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم - أن لم يكن أمةٌ أخرى وراءهم يكونُ نساءُ المسلمين خدماً لهم، كما صاروا خدماً لنا عبر التأريخ، لقد كان الخدم فيما مضى هم المملوكين لمن يخدمونهم وذلك بسبب الحروبِ الناشبة بين أهل الكفر وأهل الإسلام، وبقاءِ رايةِ الجهاد في سبيل الله تُطاوِل الزمان شامخةً، وفي عصرنا الحاضر قلَّ الرقيق، واضمحل أمرهº إلى درجةٍ, لا تكاد تُذكرُ في العِيان، وصار الخدم كلهم من الأحرار، ولو سردنا حقوق المملوكين والتي أوجبها الإسلام على الأسياد، ورأينا ما لهم من حقوق وواجبات، وما عليهم من مثلها مما لم يحصل لكثير من الأحرار اليوم لعلمنا سُحقَ الهوُة، وعُمقَ الجرح الذي يعيشه كثير من المسلمين اليوم، ولحلّت عبارةُ الرجلِ المسلمِ مع عمروِ بنِ العاص - رضي الله عنه - حينما قال: \" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحراراً \".

إننا أيها المسلمون قبل أن نخوضَ في غَمراتِ هذه المعرّة، وقبل أن نُدللَّ عليها، ونكشِفَ عُوارَهاº يجدُر بنا أن نذكّرَ على اقتضابٍ, إلى أهمية استغناءِ المرء بنفسه، وتوكله على الله، وعدمِ سؤالِ الآخرين من خدم وغيرهم، وتلك لعمرُ الله مزيةٌ قلَّ أن توجدَ في أوساطنا، فإلى الله المشتكى، يقول أحد الصحابة - رضي الله عنه - فيما رواه مسلم في صحيحه: \" بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا نسألَ الناس شيئاً، حتى إن أحدَنا ليسقُطُ سوطُه على الأرض ما يقول لأحدٍ,: ناولنيه \"، ومن هنا فإن الاستغناءَ عن الخدم وعن الإكثار منهم غنيمةٌ باردة، ولو لم يكن فيها إلا السلامةُ من عواقبهم، وعدم الوقوعُ في سلبياتهم التي يَقِلٌّ الفِكاكُ منهاº لكفى، ورحم الله الإمامَ أحمد حينما قال: \" السلامةُ لا يعدلها شيء \"، وعلى مثلِ قولِ الإمام أحمد نُرشد كلَّ مسلمٍ, ومسلمة على أن لا يلجأ إليهم إلا في حالاتِ الحاجةِ الملحة، مع عدم استغفالِ السلامةِ وأنها مطلب، ونقول أيضاً: لكل مسلمٍ, شاخصةٌ أحداقُه، مشرئبٌ إلى اتخاذِ الخدم ولكن بينه وبين حصولِ ذلك مسكنةٌ وفقر تجعلُه أقربَ في أن يَخدِم من أن يُخدَم، نقول له ولأمثاله: اسمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هنيهةٍ, لتكونَ رضِيَّ البال، شاكراً وليَّ نعمتِك: اشتكى عليٌ وفاطمةُ - رضي الله عنهما - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تواجهه من الطحن والعملِ المُجهد، فسألته خادماً، أي طلبت منه أن يعطيَها خادماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ألا أدلُكِ على ما هو خيرٌ لكِ من خادم، إذا أويتُما إلى فِراشِكُما فسبِحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمِداه ثلاثاً وثلاثين، وكبِراه أربعاً وثلاثينº فتلك مئةٌ على اللسان، وألفٌ في الميزان ) فقال علي - رضي الله عنه -: \" ما تركتها بعد ما سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رجل: ولا ليلةَ صفين، قال: ولا ليلةَ صفين \"[ رواه أحمد ]، وليلةُ صفين ليلةُ حربٍ, ضروس، دارت بينه وبين خصومه - رضي الله تعالى عنهم - أجمعين، هذه يا رعاكمُ الله صورةٌ حيةٌ من صور الاستغناء عن الغير، بَيدَ أن في الناس فِئاماً لها ولعٌ بمُشاكلةِ الآخرين، والسيرِ في ركاب الجمهور منهم، وحبِّ التباهي مع قلةِ ذاتِ اليد، فيطمعون في الإكثارِ من الخدم والتنويعِ فيهم، فلهؤلاء نقول: رويدَكم مهلاً، فمتاعُ الدنيا قليل، ولتقنعوا بمثالين عظيمين يُمكن من خلالها حصولُ القناعةِ والرضى بالمقسومِ، والزهدُ في الدنيا والاكتفاءُ من الخدم بما يسُدٌّ الحاجة، روى مسلم في صحيحه أن رجلاً قال لعبد اللهِ بن عمروِ بن العاص: ألسنا من فقراءِ المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألكَ امرأةٌ تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكنٌ تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت إذا من الملوك \" فيالله العجب من قولِ بنِ العاص - رضي الله عنه -، إذن ما أسهلَ مُلكَ الدنيا وأحقره، فما بالُ أقوامٍ, لا يقنعون بمثلِ هذا؟ ألا فلتسمعوا - حفظكم اللهُ - إلى المثلَ الثاني الذي رواه أبو سعيدٍ, الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أدنى أهلِ الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة )[ الحديث رواه الترمذي في جامعه ] ومن هم خدم الجنة عباد الله؟ إنهم ولدان مخلدون وغلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون، اللهم فلا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا.

الإخوة المسلمين: من كان منكم متخذاً خادماً فليعلم أن عليه مراعاةَ أمورٍ, هامة:

أولها: اختيارُ الأمينِ الصادق كما قال - تعالى- عن إحدى ابنتي شعيبٍ, حينما قالت لأبيها: (( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويُ الأمين ))، ولا يغيبُ عن بالنا أثر الأمانةِ والصدق في ذوات الخدم من خلالِ موقفِ يوسُفَ - عليه السلام - من امرأة العزيز حينما قالت له (( هيت لك )) فكان الجواب (( معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ))، وقد كانوا يَدعُون السيد رباً، فهو يرى أن سيده أكرمه وأحسن مثواه فلا يلوِّثُ ذلك بالتخوٌّنِ والفاحشة، فأين الكثيرين عن هذا الأمرِ الجلل؟ أين اختيار الخادمِ المسلمِ ذكراً كان أو أنثى؟ لله كم هم صرعى الخدمِ غيرِ المسلمين؟ وماذا عسى أن يُجنى منهم؟ دينٌ غير ديننا، يُحلون ما نُحرم، ويحرمون ما نُحل، فضلاً عما يقومُ به جملةٌ منهم إلى ما يُسمى بالتبشير والدعوةِ إلى مللهم إبَّان غفلةٍ, من الجمهور، ألا وأين إحضارَ المحرم مع الخادم الذي يكون سبباً - بإذن الله - في قلةِ الفواحش، والبُعد عن الزلل، والأمنِ على النفس والعِرض، وإن الكثيرين منا لا يبالون بالسائقين والخدم، امرأةٌ مع سائق، ورجلٌ مع امرأةٍ, خادم، خادم تتكشف لمخدوميها، وسائقٌ تتكشف له مخدومتُه، وكأنه من أولي الإربة من الرجال، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، تساهلٌ في الأمر، واستخفافٌ به.

وثاني الأمور عباد الله: تكمنُ أهميتُه في عدمِ الركونِ إلى الخدم في تربيةِ الأطفال، وكثرةِ محاكاتِهم، ويزدادُ الأمر تأكيداً إن كانوا غير مسلمين، لأن من الأمور المسلمة أن كثرةَ المحاكاةِ تُحدث مُشاكلةً في الطباع، ومن هنا يقع التأثرُ والتأثير في بني آدم، بل إن الآدميَ إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب بعضَ أخلاقه، فنجد الجمّالينَ والبغّالين فيهم أخلاقٌ مذمومةٌ من أخلاق الجمال والبغال، ونجد الحيوانَ الإنسي فيه بعضُ أخلاقِ الناس بسبب المآلفةِ وقلةِ النفرة، وقديماً قيل: الطيور على أشكالها تقع، يقول شيخ الإسلام ابن تيميةَ - رحمه الله -: \" وقد رأينا اليهودَ والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقلَّ كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقلَّ إيماناً من غيرهم ممن جرّد الإسلام \"، كلُ ذلك أيها المسلمون سببٌ في التأثير على الطفل فضلاً عن كونِ صحةِ الطفلِ النفسيةِ والدينيةِ ناتجةً عن تفرٌّغِ الأم لطفلها، وعدمِ إسلامِه للأجنبي عنها، ألا وإن تركَه الساعاتِ الطِوالَ مع الخدم لا يَضمَنُ تمتُعَه بالرعايةِ الدافئة التي يحتاجها كلَّ حين، وثّمَّة دراساتٌ نفسية كثيرة نُشرت برامجها عبرَ جهاتٍ, أكاديميةٍ, وأخرى تطبيقيةٍ, كما يقال كلٌّها تتفق على أن جُلَّ الأطفالِ والصغار من ذوي المشاكلِ النفسيةِ هم الذين عانوا حرماناً عاطفياً كبيراً في طفولتهم المبكرةِ بسبب غياب أمهاتِهم عنهم، وإسلامِهم إلى الخدم، ألا ترون عباد الله كيف يكونُ حالُ الطفل إذا غابت عنه أمه، ماذا يحدثُ عندما يشاهدها بعد فترةِ غيابها، إنه يُشَدٌّ إليها بقوة، فحين تندفع إليه لترضعَه يلتقمها بلهفةٍ,، ويحاول أخذ حاجته بلهفة، ولربما خانته حاسةُ البلع فَشَرَقَ وغصّ، مع ما يُصاحب ذلك من نظراتٍ, شذراءَ إلى أمه تدُلٌّ على الشره واللوم دون استطاعةٍ, عن تعبير ذلك باللسان، فماذا عسى الخادم أن تفعل، إنّ قلبها ليس كقلب الأم، وحنانها ليس كحنان الأم.

أما ثالثُ الأمور أيها الناس: فهو أن يتقي المرء ربه، وأن يعلم أن أمرَ الخدمِ محسومٌ في شريعة الله، وأن هناكَ حدوداً ينبغي أن لا يتجاوزها المرءُ المسلم ومن ذلك: الحجابُ الشرعي للخادمة، فلا يجوز أن تتكشف لذكور المنزلِ، ولا أن تختلط برجاله، أو أن تخلوا بأحد منهم، وأن التباهيَ بالخدم النساء، وكشفِهنَّ للعِيان في الأسواق والأفراح والمستشفيات من باب التباهي وحبِّ الظهور لهو أمر جدٌّ خطير، فيه من الإثم والوِزر الشيءُ الكثير، فضلاً عن كونِ ذلك مدعاةً لفتنةِ الناس، وجذبِ أبصارهم، ومن ثَمَّ الوقوعُ في حمئةِ هذا المنكر العظيم، ووقوعهم في النظر إلى ما حرم الله، وكذا الرجلُ الخادم لا يجوز أن يخلو بالمرأة لا في منزلها ولا في سيارتها، ولا أن تكشِفَ وجهها له، أضيفوا إلى ذلك: أمر الخدمِ بالتزام شرع الله إن كانوا مسلمين، أو دعوتُهم إلى الإسلام إن كانوا غير ذلك، مع التأكيدِ بحزمٍ, على الاستغناء عن الكفار لاسيما في جزيرة العرب لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم منها، وكذا الظهورُ بمظهرِ القدوة الصالحةِ أمام الخدم وذلك بالكرم والعطف، والصدق والصفح (( إن الله يحب المحسنين ))، ثم الحذر الحذر من التساهلِ مع من لا يَخافُ اللهَ منهم، أو التقليلُ من خطورةِ أمرهم، ويزيدُ الأمرُ تأكيداً حينما يكون بعضهم من مرضى الأفئدةِ، وممن يكونُ مَظِنةَ الانتقام وحبِّ الإفساد من مثيريِ اللغطِ وهدم البيوت، واستخدام الشعوذة والسحر، وتعريض الأطفال والصغار للموت، وقلب ظهرِ المِجنّ على البيت وأربابه، ونشر أسرار البيوت وأحوالها إلى خدم البيوتِ الأخرى، وكم هم صرعى هذا التقصير؟ وكم هم ضحايا هذا الإهمال؟ إذ بعضُ الخدم إذا شبع فسق، وإذا جاع سرق، ولا جَرَمَ فقد قال مجاهدٌ - رحمه الله -: \" إذا كثرتِ الخدم كثرت الشياطين \"، ووقائع المجتمعات وأحاديثُ المجالس تغُصٌّ بها الحلوق، وتطفح بها الأذان، ألا وإن هذا ليذكرنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمرأة والخادم والمسكن )، قال الخطابي وجماعة من أهل العلم: هذا الحديث هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي أن الطيرة منهيٌ عنها في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( لا عدوى ولا طيرة وأحبٌّ الفألَ الصالح )[ رواه مسلم ] إلا أن يكون للمرء دار يسكنها وهو كاره لها، أو زوجة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم فليفارق الجميع ببيع أو نحوه \" قال بعض أهل العلم: وشؤمُ الخادم: سوءُ خلُقه، وقِلةُ تعهٌّده لما فُوِّض إليه \"، وأقول حفظكم الله: هذا الحديث وأقوالُ أهل العلم إنما هو فيما مضى من زمنِ الصدق والدين، فما ظنكم في هذا الزمن، سبحان الله ما أبعد الليلة عن البارحة، وما أشبه اليوم بما هو على العكس من الأمس، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم وأستغفر الله وأتوب إليه فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضلَ ما ينبغي أن يُحمد، وأصلي وأسلم على أفضل المُصطَفين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحسنَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ, بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها المسلمون: العدل في القضايا من سمات المسلمين، وإعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ, حقه هو مما أوجبه الله على عباده، وإن كان ثمَّ مآخذُ غيرُ مرضيةٍ, تصُدرُ تاراتٍ, كثيرةٍ, من الخدم فإننا في المقام نفسِه نُشير إلى سِماتٍ, متعددةٍ, من الحقوق والواجبات التي يستحقونها، ومن ذلك:

احترامُ قدرهم، وأنهم بشر مثلُنا فنتلطف معهم، ونرحمَ غربتَهم، وأنه لولا حاجته إلى المال واكتسابه لما هان عليهم فراق ُالعيال، والسفرُ آلافَ الأميال، فلتُطعموهم إذا طعمتم يقول - صلى الله عليه وسلم -: ( إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعام فإن لم يُجلسه معه فليناوله أكلةً أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين )[ رواه البخاري ]، ولا تحقرنَّ إطعامَ الخادم ولو لم يكن ذلك في صُلبِ العقد بينكما، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة )[ رواه أحمد ]، وإياك إياك أيها المرء أن تتوانى أو تتأخر في إعطائه أجرتَه في حينها، فلنفسه إذ ذاك ولعٌ بها كما تفرحُ أنت بمُحَصَّلَتِك يقول - صلى الله عليه وسلم -: ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجِفَّ عرقُه )[ رواه بنُ ماجة ] فعليك أيها المرء أن تتنبه لذلك، وإلا فاعلم أنك خصيمٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: وذكر منهم رجلاً استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره )[ رواه البخاري ]، ولا تنس أنك بفعلتك هذه ظالم للخادم، آخذٌ ماله بغير حقه، ودعوةُ المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وكم نسمع بين الفينة والأخرى من دعوات حرى تنفلت من قلوب حرقى قد أحرقها طغيان الظلم والضيم، فما تلبث إلا أن تسمع سيد ذلك الخادم مريضاً، أو مسلوبَ المال، أو مبتلى بأحد أطفاله والعياذ بالله، فاتقوا الله يا أهل البُيُوتات، واتقوا الله يا أصحاب الخدم والتعهدات، وأعطوا العمال والخدم أجورَهم في أوقاتها المحددة، وإلا فأعدوا لمخاصمة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - جواباً، وللجواب جلباباً حين ليس ثمةَ جواب ولا جلباب، وإياكم وضربَ العمال والخدم فقد ضرب أبو مسعودٍ, - رضي الله عنه - غلاماً له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( اعلم أبا مسعود أن اللهَ أقدرُ عليك منه ) فقال أبو مسعود: يا رسول الله هو حرُّ لوجه الله!! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( أما لو لم تفعل لمستك النار أو للفحتك النار )[ رواه مسلم ]، ولم يكن الأمر مستتراً على مسِّ اليد فحسب، بل وحتى اللفظَ باللسان من شتمٍ, وسبّ، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ( لا تدعوا على خدمكم )[ رواه أبو داود ]، وسمعت أمٌّ الدرداء عبدَ الملكِ بنَ مروان قد لعن خادمه، فقالت أمٌّ الدرداء: سمعتك الليلةَ لعنت خادمك حين دعوته، فقد سمعت أبو الدرداء يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يكونُ اللعانون شفعاءَ ولا شهداءَ يومَ القيامة )[ رواه مسلم ].

فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى أنفسكم وأهليكم، وأبناءكم وخدمكمº تسلموا وتسعدوا يوم العرض على الله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيدُ.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply