زاد الشاكرين


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المسلمون، إنّ نعَم الله على عبادهِ كثيرة، وآلاءَه للناس كبيرة، نراها ونشاهدها في حياتنا ومن حولنا، بل وفي أبداننا، فهذا السمع والبصر، وهذا النطق والحسّ، وهذا الفهم والعقل، وهذا المشي والقبض والبسط، وهذه نعمة الأمن والأمان، ونعمة الاستقرار في الأوطان، فكم من الناس من فقدها، فلا يدري كيف يصبح، و لا كيف يمسي، قد هدّد بالسلب والقتل، وخوِّف بالطرد والهدم، وهذه نعمة السلامة من الزلازل والفيضانات والمحن، التي تشرد الناس، وتقضي على الأموال والممتلكات، وهذه نعمة الرزق والمال ونعمة الصحة والعافية، وغيرها من نعم الله على العباد والبلاد، (وَإِن تَعُدٌّوا نِعمَةَ اللَّهِ لا تُحصُوهَا)[النحل: 18]، فالحمد لله على نعمه العظمية، والشكر له على آلائه الجسيمة.

 

لكن اعلموا ـ يا عباد الله ـ أنّ أعظم هذه النعم نعمة الإسلام والإيمان والهداية والقرآن، قال الله - تعالى -: (اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِينًا)[المائدة: 3]، فاحمد الله ـ يا عبد الله ـ أن أنشأك في بلاد المسلمين، وجعل أباك وأمك مؤمنين، فكم من الناس من حرِم هذه النعمة، وعرض للامتحان والاختبار والبحث عن الهداية للإسلام، قال الله - تعالى -: (وَقَالُوا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43].

وهذه النعم ـ يا عباد الله ـ تحتاج إلى شكر لله - تعالى -عليها، وحمدًا له على إسدائها وإنعامها، وذلك بأن تظهِر أثر نعمة الله على لسانك ثناءً واعترافًا، وبقلبك شهودًا ومحبّة، وعلى جوارحك انقيادًا وطاعة، فهذا هو علامة الشكر لله - تعالى -.

علامة شكر المرء إعلان حمدِه  *** فمن كتم المعروفَ منهم فما شكر

فاشكر الله ـ يا عبد الله ـ على عموم نعمه وجميع فضله، فإن بالشكر دوامَ النعم وزيادتها، وبالكفر والجحود ذهابها واضمحلالها، كما قال الله - تعالى -: (لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد)، وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: \"عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم\".

ومـن يسدِ معروفًا إليـك فكن له ***  شكورًا يكن معروفه غيرَ ضائع

ولا تبخلنّ بالشكر والقَرض فاجزه *** تكن خير مصنوع إليـه وصانع

أيها المسلمون، إن مِن شكر الله عن نعمه وحمده على فضله التوجهَ إليه والخضوع بين يديه بأداء أوامره والابتعاد عن نواهيه، وهو العبادة له - سبحانه -، فهذا هو الشكر الحقيقي كما قال الله - تعالى -: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ)[البقرة: 172]، وقال الله - تعالى -: (اعمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا)[سبأ: 13]، فالشكر بالعمل والطاعة والاجتهاد والمثابرة، فهذا هو الشكر الذي يريده الله ويحبه، وهو الذي أمر به المرسَلين وعبادَه الصالحين.

انظر إلى حال أنبيائه ورسله وأوليائه وأحبابه، يقابلون النعم بالشكر والثناء، ويجتهدون في عبادة رب الأرض والسماء، قال الله - تعالى - عن إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام -: (إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكِينَ شَاكِرًا لأَنعُمِهِ)[النحل: 120-121]، وقد رزقه الله الولد على كبَر سنه فقال: (الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسمَاعِيلَ وَإِسحَقَ)[إبراهيم: 39].

وهذا داود وابنه سليمان - عليهما السلام - أعطاهم الله ملكًا لم يعطه أحدا من الناس، أخبر الله عنهم فقال: (وَلَقَد آتَينَا دَاوُدَ وَسُلَيمَانَ عِلمًا وَقَالا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ, مِن عِبَادِهِ المُؤمِنِينَ)[النمل: 15].

وهذا لقمان الحكيم أخبر الله عنه فقال: (وَلَقَد آتَينَا لُقمَانَ الحِكمَةَ أَنِ اشكُر لِلَّهِ وَمَن يَشكُر فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ حَمِيدٌ)[لقمان: 12].

أما نبينا محمد فقد ضرب أروعَ الأمثلة في شكر الله - تعالى -، فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان النبي يصلي من الليل حتى تتورّم قدماه، فأقول: تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)) متفق عليه، وكان من دعائه بعد كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أخي المسلم، إن مما تعارف عليه الناس واتّفق عليه العقلاء أن من أسدى إليك معروفًا أو قدّم لك خدمة فحق له عليك أن تشكره عليها وتحمده لأجلها، بأن تثني عليه بلسانك، وتجتهد في خدمته بجوارحك، وتتمنى لو سنحَت لك فرصة لكي تردّ عليه جميله.

أحسِن إلى الناس تستبعد قلوبهم  فطالما استبعد الإنسانَ إحسان

وليس من الأدب أو ردّ الجميل أن تقصّر في حقه وأنت تستطيع أو تسيء إليه بلا ذنب، فإن هذا من خلُق اللئام وأفعال الطّغام، لذلك ثبت في الحديث أن النبي قال: ((من أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني، فكيف ـ يا عبد الله ـ إذا كان صاحب المعروف هو الله، وليس معروفًا واحدًا بل آلاف النعم في كل صباح ومساء وفي عمرك كله.

وليس من شكرِ الله - تعالى -على نعمه التنكبُ عن أمره والابتعاد عن طاعته وارتكاب كل ما يغضبه ويجلب سخطه، بل هو مدعاة إلى زوال النعمة وذهابها أو انعدامها واضمحلالها، وقد ذكر الله - سبحانه - لنا في القرآن قصة قرية لم تقابل النعم بالشكر فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ, فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ)[النحل: 112]، كما حكى الله لنا قصة مملكة سبأ وما أعطاها الله من أنواع النعم والخيرات، فلم تشكر، فقال - تعالى -: (لَقَد كَانَ لِسَبَأٍ, فِي مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ, وَشِمَالٍ, كُلُوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُرُوا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ فَأَعرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَي أُكُلٍ, خَمطٍ, وَأَثلٍ, وَشَيءٍ, مِن سِدرٍ, قَلِيلٍ, ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ)[سبأ: 16، 17].

 

وقد حكى لنا الرسول قصة فيها مثال لشكر النعمة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي يقول: ((إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملَكا، فأتى الأبرص فقال: أيّ شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسن وجِلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل ـ أو قال: البقر شك إسحاق إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر ـ، قال: فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملا، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا، قال: فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللونَ الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلّغ عليه في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله؟! فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ على هذا، فقال: إن كنتَ كاذبا فصيَّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردّ الله إليّ بصري، فخذ ما شئتَ ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله، فقال: أمسِك مالك، فإنما ابتلِيتُم، فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك)) متفق عليه.

 

أيها الأحبة الكرام، ليس من شكر نعمة الله - تعالى -تركُ الصلاة التي أمر الله بها أو الإفطار في نهار رمضان لغير عذر شرعي أو منع الزكاة التي هي حقّ الله في المال أو ترك الحجّ الذي هو ركن من أركان الإسلام، كما أنه ليس من شكر النعمة محاربة الله ورسوله بالربا أو السعي وراء المسكر و الزنا أو الاستهزاء بالدين وشريعة رب العاملين، أعاذنا الله وإياكم وجميع المسلمين.

عباد الله، ومما يعين على شكر الله على نعمه ما يلي:

1- القناعة بما قسم الله لك من رزق، ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فأنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) متفق عليه.

 

2- العلم بأن الله سائله عن شكره لنعمه، قال الله - تعالى -: وَقِفُوهُم إِنَّهُم مَسئُولُونَ [الصافات: 24]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: ((يقول الله - عز وجل - يوم القيامة: يا ابن آدم: حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء، وجعلتك تربع وترأس، فأين شكر ذلك؟! قال الله - سبحانه -: ثُمَّ لَتُسأَلُنَّ يَومَئِذٍ, عَن النَّعِيمِ [التكاثر: 8])).

 

3- العلم بأن النعمة تدوم بالشكر، وتزول وتضمحل بالجحود والكفر، قال الله - تعالى -: لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].

 

4- شكر الناس على معروفهم، ففي سنن أبي داود وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).

اللهم ارزقنا شكر نعمتك، وألهمنا حمدك والثناء عليك، ووفقنا للخير بتوفيقك، واعصمنا من الشر بعصمتك يا رب العاملين...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply