تكوين الملكة الفقهية ( 3 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

المبحث الثاني:المدرس الحاذق القدوة:

الأصل في تكوين الملكة الفقهية أن تتم تحت إشراف أساتذة متمكنين في علمهم، وقدوة في سلوكهم، لأن من شأن الأستاذ المرشد الأمين الناصح أن يقوم ببناء شخصية الطالب، ويعمل على تنمية عقله وتهذيب سلوكه وإعداده للتفاعل مع المجتمع وقضاياه الحية، وأن يراعي في تدريسه مرحلة الطالب، فيقصد إفهام المبتدئ تصــور المســائل وأحكـــامها فقط، وأن يثــبتها بالأدلة إن كان العلم مما يحتجٌّ له عند من يستحضر المقدمات. وأما إيراد الشبه إن كانت، وحلها فإلى المتوسطين والمحققين.

 

ويعتبر ابن خلدون حصول الملكات عن طريق التلقين والمشافهة والمباشرة أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا من التلقي من الكتب; وذلك لأن التعليم صناعة، والصناعة لا بد لها من صانع ماهر، والصانع الماهر في ميدان العلم والتعلم هو المدرس الحاذق، ولذلك يقول ابن خلدون: (إن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها، والاصطلاحات أيضًا في تعليم العلوم مخلطة على المتعــلم، حتى لقــد يظـــن كثــير منـــهم أنها جـزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز المصطلحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه وغيرها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتها من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم).

 

كما يعتبر ابن خلدون اتصال السند في التعليم من أهم الأمور التي تعين على حذق المدرس ومهارته في التعليم لأنه تجتمع فيه خبرات السابقين، فهو يقول: (كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبر عند كل أهل أفق وجيل... ثم اعلم أن سند التعليم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه، وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر، وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستجر عمرانها، وكان فيها للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيها التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيها من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من الغرب إلا قليلاً...).

 

ومما يعين على تكوين الملكة الفقهية عند طالب الفقه أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة وعرف بالستر والصيانة، بأن يكون قدوة لغيره. فقد روي عن محمد بن سيرين أنه قال: (إنما العلم دين فانظروا عمن تأخذون).. والمدرس القدوة هو الذي رسم نفسه بآداب العلم، من استعمال الصبر والحلم، والتواضع للطالبين، والرفق بالمتعلمين، ولين الجانب، ومداراة الصاحب، وقول الحق، والنصيحة للخلق، وغير ذلك من الأوصاف.

 

وبالرغم من اتفاق العلماء على أن العلم الشرعي لا بد له من التلقي عن الشيوخ، إلا أننا وجدنا أن مثل علي بن رضوان المصري (453هـ) الذي اشتغل بالأخذ عن الكتب مباشرة، يدعو إلى تحصيل العلم عن الكتب مباشرة، وأنها أوفق من التلقي عن الشيوخ، وألف في ذلك كتابًا.

 

ولا يسلم لا بن رضوان هذا الادعاء، وقد رد عليه كثير من العلماء مثل: الذهبي في سير أعلام النبلاء، والصفدي في الوافي، والزبيدي في شرح الإحياء.. ويمكن تلخيص ردودهم فيما يلي:

 

1- إن الذي يعتمد على الكتاب لم يسلم من التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ. فهذا أبو علي ابن سينا مـع حــدة ذهــنه وما كــان علــيه من الذكـاء المفـرط والحـذق البـالغ، لما اتكل على نفسه وثوقًا بذهنه، لم يسلم من التصحيفات.

 

ومن الأمثلة على التصــحيف ما ذكره الحاكم، قال: (حدثــنا أبو بكر بن إسحاق الإمام، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد ابن الوليد قال: حدثـــنا صفــوان بن صــالح، قـال: حدثـــنا الوليـــد ابن مسلم قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعًا وتسعين اسمًا... وذكر فيه الأسامي وفيه: الحفيظ والمقيت).

 

وقال أبو عبد الله: وهكذا أخرجه أبو بكر بن خزيمة في المأثور (المقيت)، فحدثنا أبو زكريا العنبري قال: حدثنا أبو عبد الله البوشيخي قال: حدثنا موسى بن أيوب النصيبي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ذكر الحديث بنحوه وقال: (الحفيظ المغيث) ومن قال: (المقيت) فقد صحف.

 

وقد اتخذ العلماء موقفًا من الفقهاء الذين يأخـــذون علمهم من الكتب لا من الشيوخ. فقال أبو زرعة: (لا يفــتي الناس صحـــفي، ولا يقرئـــهم مصحفي)، وكان ثور بن يزيد يقـــول: (لا يفتي الناسَ الصحفيون).

 

2- إن الذي يقتصر في علمه على الكتب يفتقد عنصر الاقتداء والتأثر بأخلاق العلماء وآدابهم، وبالتالي لا يتورع عن القدح في العلماء والطعن فيهم، فقد قيل في سبب سلاطة لسان ابن حزم: إنه لا يلازم الأخذ من الشيوخ ولم يتأدب بآدابهم، حتى قيل في لسانه: (كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين).

 

3- ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ. وهذا دليل مادي ملموس يدل على بطلان ادعاء ابن صفوان.

 

والحقيــقــة أن الاعتمــاد الكلي في تلقي العـــلم على الشيــوخ لا يصـــح، كما أن الاعتمـــاد الكلي في تلقي العــلم عـــلى الكــتب لا يصح، ولكن ينبغي لطالب العلم أن يبدأ تلقيه عن الشيوخ إلى أن يصل مرحلة الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، ومن ثم فلا مانع بعد ذلك من الاطلاع بنفسه على كتب العلم; لأنه مهما اتسع وقت الشيخ لتلميذه فلن يحـيط معــه بأكثر من أجـزاء معـــدودة. وقد كان ذلك شأن كثــير من العلمــاء مثل الجــويني حينما درس علم الأصـــول على شيخه أبي القاسم الإسفراييني حيث قال: (كنت قد علقت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة).

 

لكن يظل تلقي العلم عن الشيوخ الحاذقين في مراحل التحصيل الأولى ضروريًا للتأسيس وتكوين الملكة الفقهية.. والمتتبع للفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة يجد أنهم تتلمذوا في مراحل تأسيسهم على شيوخ حاذقين، من هؤلاء التلاميذ: أبو حامد الغزالي، تتلمذ على إمام الحرمين الجويني، والقرافي تتلمذ على العز بن عبد السلام، وابن القيم تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية... وهكذا.

 

فعلى طلبة علم الفقه أن يتتلمذوا على فقهاء عصرهم الموثوقين، ويطلعوا على الكتب الفقهية الموثوقة. وبذلك يكونون قد جمعوا بين الحسنين، وكان علمهم أتم وأكمل.

 

 المبحث الثالث: المنهاج الدراسي الأصيل:

من المقومات الأساسية للملكة الفقهية وجود منهاج دراسي أصيل يتلقاه المتفقه في مراحل دراسته. ويتمثل في العلوم الأساسية التي ينبغي له أن يدرسها وهي:

 

أولاً: معرفة القرآن وعلومه:

القرآن الكريم هو أقوى شيء في تكوين الملكة الفقهية وبناء الأخـــلاق والنفوس. وهو الكتاب الخـالـد، الذي لم تخــلق جــدته ولم تبل نضارته، وهو المفتاح الرئيس لأقفال الحياة، كما قال الشاطبي: (إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملكة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخــالفه. وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستــدلال عليه; لأنه معــلــوم من دين الأمة. وإذا كان كذلك، لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرًا وعملاً لا اقتصارًا على أحدهما).

 

وقد كان أكثر الصحابة الملازمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقهاء مجتهدين; لأن طريق الفقه فهم خطاب الله وخطاب رسوله وأفعاله، وقد كانوا عارفين بذلك; لأن القرآن نزل بلغتهم وعلى أسباب عرفوها وعلى قصص كانوا فيها، فعرفوا منطوقه ومفهومه، ومنصوصه ومعقوله. قال الإمام الشافعي: (ليس لأحد أن يقول في شيء حـلال وحـــرام إلا من جهـــة العــلم.. وجهة العــلم ما نــص في الكتــاب أو الســنة أو الإجماع أو القياس على هذه الأصـــول). وقال أيضًا: (جميع ما تقـــوله الأمــة شرح للسنة، وجميع شرح السنة شرح للقرآن) ثم قال: (وجميع ما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن).

 

وقال الشافعي أيضًا: (ليست تنزل بأحد في الــدين من نــازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة؟ قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة; لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفرض علينا الأخذ بقوله).

 

وقد حدد الأصوليون للمجتهد أن يعرف من القرآن الكريم آيات الأحكام. وحددها الغزالي بخمسمــائة آيـــة، وحددها غيره بـأكثر من ذلك. ولم يشترطوا حفظها، بل يكتفي بمعرفة مواضعها في القرآن الكريم. وقد اعتبروا ذلك كحد أدنى لتيسير الاجتهاد وتحصيل رتبته.

 

والحقيقة أنه ينبغي على المتفقه الذي يريد تحصيل الملكة الفقهية عدم الوقوف عند آيات الأحكام، بل يتعدى ذلك إلى جميع آيات القرآن، لأنها لا تخلو من فوائد تتعلق بالأحكام الشرعية، فيشتغل المتفقه بحفظ القرآن الكريم، ويتعمق في تفسيره بالاطلاع على مطولات التفاسير: كتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وتفسير الطبري، ومفاتيح الغيب للرازي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وأحكام القرآن لابن العربي، وغيرهما; لأن المعاني المأخوذة من كتاب الله كثيرة العدد، يستخرج منها كل عالم بحسب استعداده وقدر ملكته في العلوم.

 

فالقرآن الكريم لا يخلق بكثـــرة النــظــر، وكلما نظــر الإنســان فيـــــه ازداد علـــمًا باستـــنباط أحكــام جـديـــدة. قال ابن العـــربي في آيـة: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... ) (المائدة: 6)، قال بعض العلماء: إن في هذه الآية ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبعوها، فبلغوها ثلاثمائة مسألة، ولم يقدروا على أن يبلغوها الألف، وهذا التتبع إنما يليق بمن يريد معرفة طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا. في حين أن كتب البشر العلمية والقانونية تخلق بكثرة الرد، ويمل الإنسان من كثرة النظر فيها.

 

وينبغي للمتفقه أن يقدم على قراءة التفاسير والاطلاع على علوم القرآن الكريم بما فيها الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والقراءات. فمعرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للفقيه لئلا يثبت المنفي وينفي المثبت، وقد جمعت الآيات المنسوخة في كتب خاصة يمكن للفقيه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply