في فقه الفهم


بسم الله الرحمن الرحيم

( الباب الأول )
تـمهيــد:

التدين كما ذكرنا سابقاً، هو انفعال الواقع الإنساني بالتعاليم الإسلامية انفعالاً مقصوداً، تحدثه إرادة الإنسان على سبيل التكليف الملزم. فعناصره المتفاعلة إذاً هي: واقع الحياة الإنسانية المتمثلة في تصوّراته الذهنية، وفي سلوكه، ونظم حياته، وسعيه في تدبير معاشه. ومنظومة متكاملة من التعاليم الموجّهة للتصوّر والسلوك معاً وإرادة إنسانية تكيف التصور والسلوك بحسب تلك التعاليم.

 

ومن السّنن الجارية في العمل الإرادي للإنسان، أن تقويم أي موضوع واقعي، مادي كان أو معنوي، بحسب مبدأ نظري، لا يتم على الوجه المطلوب، المفضي إلى الانفعال المبتغى، إلا إذا انبنى ذلك التقويم على العلم بطبيعة وخصائص الموضوع الواقعي، والمبدأ النظري معاً، وكلما كان ذلك العلم دقيقًا وشاملاً، كلما كان انفعال الموضوع بالمبدأ أوفق وأكملº وذلك لأن العلم بحقيقة كل منهما وخصائصه هو الذي تبنى عليه الخطّة العملية في المعالجة، وفيما يقع بمقتضى ذلك العلم المزاوجة بين المتناسب من العناصر في الطرفين فيتم الانفعال المطلوب.

 

وهذه السّنة ماضية في قضية الحال، قضية التدين في طرفيها الرئيسين: تعاليم الدين، وواقع الإنسان. فلا حظّ للتدين في أن يكون قويما مصلحاً للإنسان، إلا إذا انبنى على فهم عميق لتعاليم الدين من جهة. ولواقع الإنسان من جهة أخرىº وذلك لأن هذا الفهم هو الذي سيكون أساساً للخطة التي تعالج واقع الإنسان ليتكيف بالتعاليم الدينية. ومثال ذلك أن من التعاليم الإسلامية أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم في شؤون الحكم، فالتدين بهذا الأمر الإلهي يقتضي:

أولاً: فهم حقيقة الشورى المطلوبة، وتحديد عناصرها وأبعادها، ثم يقتضي.

ثانياً: فهم واقع المسلمين من حيث وضعهم الاجتماعي، وحظهم من البداوة والتحضر، ومن الأمية والتعلم، ومن التقارب والتفرق في المنازل. وعلى ضوء ذلك كله يقع ضبط الشكل الملائم للتدين بواجب الشورى، ولو فهمت الشورى على غير حقيقتها، أو أهملت بعض عناصر الواقع في وضع المسلمين، لجرى التدين بالشورى على نحو لا يؤدّي إلى المصلحة المقصودة منها.

 

وفهم الدين هو الأصل في التدين، وعليه يتوقف إنجازه، ولذلك كان ركناً قائماً بنفسه، له فقهه الخاصّ به، وقد أفاض الأصوليون في بيانه وتبويبه وتنظيره، حتى غدا منضبط القواعد أو يكاد. ولما كان الدين محرّرًا في أصول ثابتة هي القرآن والحديث، وكلاهما يختص بخصائص، ويتصف بصفات، من حيث حملهما لتعاليمه، كما أن الدين غايته الفعل في الواقع، لإجرائه على ما يحقق المصلحة، فإن ذلك يقتضي أن يكون فهم المراد الإلهي بأوامره ونواهيه مبنيًّا على أساسين اثنين:

أولهما: خصائص الأصول في الدلالة على الأوامر والنواهي.

وثانيهما اعتبار الغاية التطبيقية فيهما. وكلما اختل في الفهم أحد هذين الأساسين، أو كلاهما أدى ذلك إلى الخطأ في إدراك المراد الإلهي من تعاليمه، فصير إلى أفهام غريبة عن الأصول، التي يزعم أنها أُخذت منها، أو غريبة عن الواقع الذي يزعم أنها لغاية إصلاحه، أو غريبة عنهما معاً، فلا يحصل بها لذلك تديّنُ.

 

ولسنا في هذا الباب سنعمد إلى بحث تفصيلي، في القواعد الجزئية لفهم الدين من أصوله، على نحو ما بينته كتب أصول الفقه، ولا إلى بحث تفصيلي في واقع المسلمين اليوم، من حيث ذاته ومن حيث محيطه العالمي، ولكننا تناسباً مع الغرض من هذا البحث، سنكتفي بتناول الأسس الكلية لفهم الدين، وذلك من حيث يراد لحقائقه أن تغشى الواقع لتصويبهº لا من حيث البحث النظري المجرد الذي قد يقوم به من لا هم له في التطبيق، من مختلف الدارسين ولو من غير المسلمين. كما سنكتفي بتناول الأسس الكلية لفهم الواقع الإسلامي، من حيث يراد أن ينزل عليه الدين ليصلحه، ويدفعه إلى تحقيق الخير. ولا شك أن هذين الاعتبارين اعتبار الفعل في فهم الدين، واعتبار الانفعال في فهم الواقع، سيكونان المحددين للمنهج الذي سنعتمده في هذا الباب، ولنوعية النتائج التي نروم الوصول إليها. وبين يدي ذلك سنمهد بحديث عن مصدر الدين الذي هو موضوع الفهم، لتحديد حقيقته والوقوف على خصائصه وطبيعته، وتمييزه، مما قد يظن مصدراً للدين، وهو في الحقيقة ليس كذلك، فذلك منطلق ضروري لضبط أسس الفهم وضوابطه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply