الاستقامة في حياة المسلم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الاستقامة ورد ذكرها في كتاب الله, وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في عدة مواضع يأمر الله بها, و يثني على أهلها ويعدهم بجزيل الأجر والثواب. قال الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}. وقال - سبحانه وتعالى - لنبيه آمرا له أن يقول: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله وأحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين}. وقال الله - سبحانه وتعالى -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون. نزلا من غفور رحيم}. وقال - سبحانه وتعالى -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون}. وقال - سبحانه وتعالى -: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث سفيان بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! قل لي قولا في الإسلام لا أسال عنه أحدا غيرك. قال - صلى الله عليه وسلم - : (قل آمنت بالله ثم استقم ). وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان:  (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ), وفي حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:  (سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) .

بين العلماء - رحمهم الله - أن الاستقامة هي الاعتدال. وضدها الاعوجاج والميل هذا من حيث اللغة. يقال خط: مستقيم يعني خط لا عوج فيه ولا ميل. قال الله - تعالى -: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه}. {اهدنا الصراط المستقيم). الصراط المستقيم هو الطريق المعتدل الذي ليس فيه اعوجاج ولا ميل بخلاف الطرق الضالة فإن فيها اعوجاج وفيها ميل وفيها مخاطر. أما الصراط المستقيم، صراط الله - سبحانه وتعالى - فهو طريق معتدل لا اعوجاج فيه ولا ميل ولا خطر على من سلكه.

فالاستقامة معناها الاعتدال على طاعة الله - سبحانه وتعالى -، و الاعتدال على شرعة الله، الاعتدال على كلمة التوحيد. هذه هي الاستقامة شرعا كما تدل على ذلك عبارات السلف. كلها تجتمع على أن الاستقامة شرعا هي لزوم طاعة الله - سبحانه وتعالى - من غير ميل ومن غير التفاف إلى غيرها.

فهي تعني لزوم  شريعة الله - سبحانه وتعالى - في التوحيد وإخلاص العبادة لله وفي الآداب والأخلاق والتعامل مع الناس وفي كل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة يكون مستقيما على المنهج الصحيح الذي رسمه الله - سبحانه وتعالى - وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا المنهج هو منهج الذين أنعم الله عليهم. كما قال - تعالى -: (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم), فالذين أنعم الله عليهم هم أهل الاستقامة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. فالاستقامة تعني التوسط بين الإفراط والتفريط بين التساهل وعدم المبالاة وبين الغلو والتشدد. هذا هو طريق الاستقامةº لأن دين الله بين الغالي والجافي. الغالي هو الذي يريد ويتشدد. والجافي هو المتساهل الذي لا يهتم بدينه بل هو مفرط وكذلك الغالي والمتشدد الذي يزيد في العبادة ويزيد في التمسك يظن أنه بذلك يطيع الله ورسوله، وهو بالعكسº لأن من خرج عن حادة ومال عنها سواء بتساهل أو بتشدد خرج عن شرع الله - سبحانه وتعالى -. فالاستقامة هي الاعتدال من غير جفاء وتساهل, ومن غير زيادة وتشدد وإفراط في العبادة هذا هو طريق الاستقامة.

فالعصاة والفساق هؤلاء متساهلون ومفرطون كل بحسبه، منهم المقل ومنهم المستكثر من التفريط بحسب ما يرتكبون من الذنوب والسيئات والمخالفات هم بهذا مفرطون في طاعة الله ومقصرون في عبادة الله, وهم متفاوتون في تفريطهم وتساهلهم, فمنهم من خرج بعيدا عن الاستقامة, ومنهم من خرج قليلا إلا أنهم كلهم يعتبرون جافين ومفرطين. وعلى الطرف الثاني المتشددون. الغالون في دين الله - عز وجل - الذين لا يقنعهم السير على طاعة الله وما شرعه الله, بل يريدون أن يزيدوا عما شرعه ويقولون هذا من الدين وهو والله ليس من الدين ولهذا حذر الله - تعالى -منه في كتابه. قال - تعالى -: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق}. فأهل الكتاب غلو في حق المسيح - عليه الصلاة والسلام - حتى اعتبروه ابنا لله واعتبروه هو الله أو ثالث ثلاثة رفعوه من درجة العبودية والبشرية إلى درجة الربوبية. هذا غلو وزيادة فمن غلا في حق شخص حتى رفعه عن منزلته فهذا أعظم الغلو. ومن غلا في العبادة ولم يقتصر على ما شرعه الله وزاد فهذا من الغلو الذي لا يقبله الله، فلو أن إنسانا قال: صلاة الفجر ركعتان أنا أريد أن أصلي أربع ركعات زيادة في الخير فقوله هذا غلو وزيادة والله لا يقبل الزيادة وهذه الصلاة باطلة. لا يقبل الله منك إلا ما شرعه بأن تصلي الفجر ركعتين. وكذا لو قال: الصلوات الخمس لا تكفي أنا أريد أن أجعلها ست صلوات سبع صلوات زيادة خير قلنا له: لا هذا كفر بالله - عز وجل -º لأن هذا زيادة في الدين وهي مثل النقص من الدين أو أشد لا يقلبها الله - سبحانه وتعالى - ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج وهم طائفة شددت في الدين على عهد الصحابة, وغلت في الدين وعظمت من شأن الكبائر حتى حكمت على مرتكب الكبيرة بأنه كافر. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم : (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وعبادتكم إلى عبادتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم). فهم يمرقون من الدين بسبب الغلو والزيادة حتى أن الصحابة يحقرون عبادتهم إلى عبادتهم. لكن الاجتهاد الذي يكون ليس على طريق صحيح لا ينفع بل يضر صاحبه. ولهذا وصفهم بأنهم يمرقون من الدين بسبب غلوهم وتشددهم والعياذ بالله وحتى إنهم كانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل، وكثرة التلاوة لكن لما زادوا على الدين ما ليس منه خرجوا من الدين وسموا بالخوارج أيضاº لأنهم خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, وخرجوا أيضا عن رسم العبادة التي شرعها الله - سبحانه وتعالى - فكذلك كل من تأسى بهم فهو منهم ممن جاء بعدهم إلى أن تقوم الساعةº لأن الخوارج يتكرر وجودهم في التاريخ وهذا مذهب يكون عليه طوائف من الناس لا تزال وهو مذهب باطل بسبب الغلو والتشدد الذي ما أنزل الله به من سلطان, وحتى الاجتهاد في النوافل على غير الطريق الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتبر غلوا. فقد جاء ثلاثة نفر إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته وقيامه في الليل فلما أخبرهم أزواج النبي- رضي الله عنهن- لما خبرنهم بصلاة النبي ? في الليل وصيامه كأنهم تقالوا هذا. لكنهم أجابوا عن فعل الرسول بأنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قالوا: فنحن لسنا مثله. فهو بزعمهم لم يكثر من الصلاةº لأنه مفغور له ونحن لسنا مثله فنحن بحاجة إلى أن نجتهد أكثر فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ذلك تغير - صلى الله عليه وسلم – و أنكر عليهم وقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله أني لأرجو أن أكون أخشاكم لله, واتقاكم لله وأني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, و أتزوج النساء وآكل اللحم ومن رغب عن سنتي فليس مني \".

يعني من لم تقنعه سنتي فأنا برئ منه فقوله: ( ليس مني ) أي أنا برئ منه. دل هذا على أن الخير كله في الاستقامة على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والالتزام بشرع الله-عزوجل- كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع لما أفاض من مزدلفة إلى منى أمر أحد الصحابة أن يلقط له حصى الجمار فجاءه بحصى مثل حصى الخذف أي الذي يقذف به على رؤوس الأصابع أكبر من الحمص بقليل فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفضه ويقول أمثال هؤلاء: فارموا وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو يعني لا يجي واحد يقول هذه الحصى صغار ويأخذ حصى كبارا هذا غلو لا يجوز فالحصى التي رمى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي المشروعة وفيها الكفاية فلا يجي واحد بحصى كبار ويقول: هذه زيادة خير نقول له: قف عند حدك هذه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة أبي القاسم: \" من رغب عن سنتي فليس مني \" ولا يجوز العكس فيأتي واحد يقول: أنا آخذ حصى صغار أقل مما جاء في الحديث نقول له: لا هذا تساهل. لا يجوز، فلا بد من السير على خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال رسول - صلى الله عليه وسلم - \" تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك \".

 

فالاستقامة هي العمل بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم – لا يأتي واحد يقول: سنة الرسول فيها تشدد ويدعو إلى التساهل ويقول: الدين يسر نعم الدين يسر، ولكن اليسر هو ما شرعه الله ورسوله وليس اليسر أن نترك الأوامر والنواهي ونقول الالتزام بالدين تشديد. هذا ليس تشددا هذا هو الدين \" ذلك الدين القيم \" أو يأتي واحد يقول لك هذا قليل أنا أزيد زيادة خير نقول له: قف عند حدك هذه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم – لا زيادة ولا نقص. الناقص جاف والزائد غال، والاعتدال هو لزوم سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيها اليسر وفيها السهولة والحمد لله {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.

وقال - صلى الله عليه وسلم - \" هلك المتنطعون قالها ثلاثا\" من هم المتنطعون هو المتشددون الذين يرون أن السير على ما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكفي ولا بد من الاجتهاد و الإكثار من العبادة أكثر مما شرعه الرسول أن هذا هو التنطع الذي يهلك صاحبه وبه هلك المتنطعون من قبل، وقالها ثلاثا - عليه الصلاة والسلام - من أجل التحذير من التشدد في الدين والغلو في الدين.

فالاستقامة إذن عرفنا أنها السير على الطريق المعتدل وهو ما شرعه الله - تعالى - وشرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتزام ذلك من غير إفراط و لا تفريط.

وقد ذكر الله في هذه الآيات التي سمعتم وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي سمعتم الحث على الاستقامة و الأمر بها وذكر جزاء أهل الاستقامة. قال - سبحانه -:{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قالو:ا ربنا الله نطقوا بالشهادتين لا اله إلا الله محمد رسول الله ثم استقاموا على هذا فعملوا بمقتضى الشهادتين أخلصوا العبادة لله-عزوجل- ولم يشركوا بالله شيئا, ولم يقصروا في عبادة الله, ولم يتكاسلوا عن طاعة الله أدوا الفرائض وأيضا اجتهدوا في النوافل في العبادات على ما رسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذلك حققوا شهادة أن محمداً رسول الله فاتبعوه فيما شرع وتجنبوا البدع والخرافات والمحدثات ولزموا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عملاً بقول - صلى الله عليه وسلم - : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي رواية: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )

وقال - عليه الصلاة والسلام -: (من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها النواجذ و إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)

وقال - عليه الصلاة والسلام -: ( إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )

فإنهم لما قالوا ربنا الله فهذا معناه الإعلان بالشهادة لله بالوحدانية وأنهم لا يعبدون إلا الله - سبحانه وتعالى -, وكذلك إعلان لمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما أعلنوا ذلك ونطقوا به بألسنتهم فشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله أتبعوا ذلك بالعملº لأنه لا يكفي مجرد النطق بأن يقولوا ربنا الله فقط من دون عمل بل لا بد أن يتبعوا ذلك بالعمل. أما القول بلا عمل فلا ينفع، والذي يقول: لا اله إلا الله محمد رسول الله ولكنه لا يتبع ذلك بالعمل فلا يعبد الله - عز وجل -، أو يعبد الله ويعبد غيره أو يقول: أشهد أن محمدا رسول الله ولكن لا يطيعه وإنما يطيع هواه، ويطيع آباءه وأجداده, ويطيع المخرفين والمشعوذين والدجالين, ويطيع ما وجد عليه الناس ولو كان مخالفا لهدي الرسول فهذا لم يستقم. فنقول: (ربنا الله) يحتاج إلى تحقيق ويحتاج إلى عمل وإلى صدق, ويحتاج إلى إخلاص فمن قال: ربنا الله فلا بد أن يستقيم على طاعة الله بالقول والعمل والإخلاص, والصدق, واليقين، والذين فعلوا ذلك ما هو جزاؤهم: {تتنزل عليهم الملائكة} الرعد 30) ملائكة الرحمة تتنزل عليهم عند الموت تبشرهم لأن الإنسان يخاف عند الموت وخصوصا الكافر والمنافق إذا عاين الموت فإنه يكره الموتº لأنه يعرف مصيره المؤلم, أما المؤمنون أهل الاستقامة فإن الملائكة تتنزل عليهم في هذه اللحظة في لحظة الموت فتطمئنهم وتقول لهم لا تخافوا مما أنتم قادمون عليهº لأنكم قادمون إلى رب رحيم, وعلى جنات النعيم, ولا تحزنوا على ما تركتم من الأولاد, والزوجات الذين تخافون عليهم الضياع. لا تخافوا عليهم، ولا تحزنوا على فراق الدنيا. فراق الأولاد والأهل فنحن نخلفكم فيهم، وتبشرهم بالجنة عند سكرات الموت عند ذلك يحبون لقاء الله. فالمؤمن إذا بشر بلقاء الله أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه, والكافر والمنافق إذا بشر بالنار كره لقاء الله فكره الله لقاءه. {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا} كانوا مع المؤمنين يعينونهم على طاعة الله ويحفظكم بأمر اللهº لأن المؤمن موكل به ملائكة, كل إنسان موكل به ملائكة ولكن المؤمن يكون معه ملائكة يحفظونه ويسددونه ويأمرونه بالخير, وينهونه عن الشر.

(وفي الآخرة) نحن معكم في الآخرة لا تخافوا من أهوال الآخرة نحن معكم ونسير معكم, ونحن معكم في الجنة كما قال - تعالى -: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} الرعد: 23 24). هذه عاقبة أهل الاستقامة عند الموت وفي الآخرة.

{ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون} فصلت، 31). أي ما تطلبون. كل ما طلبتم في الجنة فهو موجود موفر وهذا بخلاف الدنياº لأن الإنسان في الدنيا يطلب أشياء ولا يحصل عليها قد يتمنى أشياء ولكن لا يحصل عليها والجنة دار سرور {نزلا من غفور رحيم}.

النزل الضيافة والله أعد الجنة ضيافة لأهل الاستقامة وهذا النزل {من غفور رحيم} ما ظنكم بضيافة الغفور الرحيم. ماذا تكون لا يعلمها إلا الله - سبحانه وتعالى - وفي لآية الأخرى يقول: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يخزنون} الأحقاف، 13).

مثل الآية التي قبلها لا خوف عليهم في المستقبل ولاهم يحزنون على ما تركوا من الدنيا (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون). الأحقاف، 14) فليسوا يمرون ويجلسون فيها يوما أو يومين ثم يرحلون ويروحون بل خلود دائم. والإنسان في هذه الدنيا قد يسر بعض الأحيان قد ينزل في منزل طيب في حديقة في روضة فيها أزهار ولكن نزوله لحظة ثم يرتحل, قد ينزل الإنسان في ظل بارد لكن ليس هو بدائم. لكن نعيم الجنة دائم أهلها خالدون فيها لا يخافون أن يخرجوا منها {وما هم بمخرجين}, ولا يخافون أن يسطوا عليهم أو أن يظلمهم أحد أو أن يعتدي عليهم أحد. دار أمانº لأن الله - سبحانه وتعالى - أمنهم فقال: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} الأنعام، 82). أمن في الآخرة أمن لأهل الجنة، لا خوف معه أبدا أما الدنيا قد يحصل فيها أمن لكن مشوب بالخوف والحذر فالأمن في الدنيا لا يدوم. أما أمن الآخرة فإنه أمن خالص لا يخافون لأي ظلم, ولا من موت, ولا من مرض, ولا من انتقال, ولا من اعتداء, ولا من لصوص ومن قطاع طرق, ولا من أي ظالم لا يخافون شيئاº لأن الله أمنهم فهم أخوان على سرر متقابلين ما بينهم عداوة ولا بينهم شحناء ولا بينهم بغضاء بل هم إخوان على سرر متقابلين لا يدبر أحدهم عن الأخر بل في مواجهة دائماº لأنهم إخوان. هذا بسبب الاستقامة وهذا جزاء الاستقامة على الدين ففي قوله - تعالى -: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}. هود 112). لا تطغوا يعني لا تزيدوا: {إنه بما تعملون بصير} الطغيان هو الزيادة على المشروع, وفي الآية الأخرى. {فاستقيموا إليه واستغفروا}. ما الحكمة في الأمر بالاستغفار بعد الأمر بالاستقامةº لأن الإنسان بشر يحصل منه خطأ ويحصل منه بعض التفريط فيرتفع هذا الاستغفار لما يصدر منه من خلل في الاستقامةº لأنه لا يستطيع الاستقامة كلها.

والمعنى: استقيموا على الطاعة فإن حصل منكم تقصير فعليكم بالاستغفار ºلأن الاستغفار يمحو التقصير.

وهذا من رحمة الله - سبحانه وتعالى - ولهذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: (استقيموا ولن تحصوا ) هل يستطيع أحد أن يحصي كل الطاعة ولا يترك منها شيئا؟ لا يستطيع أحد أن لا يحصل منه تقصير أبدا  (استقيموا ولن تحصوا) هذا أخبار من الرسول - صلى الله عليه وسلم -º لأن الإنسان عرضة للخطأ عرضة للتقصير، وعدم إحصاء كل الطاعات ولكنه عليه بالاستغفار.

قال - صلى الله عليه وسلم -: (سددوا وقاربوا ) والتسديد معناه الإصابة. وهذا مأخوذ من الرمايةº لأن الذي يريد أن يرمي الغرض يسدد السهم إليه من أجل أن يصيبه. مطلوب من المسلم في دينه أن يسدد يعني يحاول إصابة الحق فإن لم يصبه فيكفي منه المقاربة, وهذا من رحمة الله - سبحانه وتعالى - يغفر الله له ما يحصل من الخلل في الإصابة إذا قارب ما دامت النية الإصابة لكن أخطاء. (ربنا لا تؤاخذن إن نسينا) (البقرة، 286). فالإنسان إذا أخطاء وهو يريد الحق فإنه مغفور له بسبب نيته الصالحة.

فالحاصل أن الاستقامة مقامها في الدين عظيم ومن غير تشدد ومن غير تساهل وتفريط وجفاء وعدم مبالاة, وإذا حاول الإنسان الاستقامة وحرص عليها وقصدها وحصل منه خلل فإنه يستغفر الله - عز وجل - ويكثر من الاستغفار لان الإنسان ليس معصوماً. قال الله - تعالى -: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}. النجم، 32, فالذي يرى أنه قد أتى بالواجب وأنه وفي الحق الذي عليه لربه فهذا تزكية للنفس. فالإنسان يعتبر نفسه مقصرا دائما في حق الله - سبحانه وتعالى - فيستغفر الله, ولهذا يقول سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - \" لا أحصي ثناء عليك) اعتراف بالتقصير في حق الله - سبحانه وتعالى -º لأن حق الله عظيم ولا يحصيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اجتهاده في العبادة التي لا يماثله أحد من الخلق فيها -عليه الصلاة والسلام- ومع هذا يعتذر إلى ربه ويقول: لا أحصي ثناء عليك )º لأنه مهما عبدت الله واجتهدت فإن نعم الله وفضله عليك أكثر ولكن الله - جل وعلا - عفو غفور.

فلو صليت الليل والنهار, وصمت الدهر كله, وأنفقت الأموال الكثيرة, وعملت ما عملت فإنك لن تستكمل الدين كله، الدين أكثر وأكثر. ولكن الله - سبحانه وتعالى - إذا عملت ما تستطيع عفا الله عنك ما لا تستطيع: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علنا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}. البقرة 286). أقول قولي هذا و أستفغر الله لي ولكم وأسأله أن يرزقني وإياكم الاستقامة على دينه والسلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن, وأن يرينا لحق حقا ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply