اكسب الجدال بأن تتجنبه


 

 بسم الله الرحمن الرحيم

قال: إن حب الظهور في معظم الأحيان هو الدافع الأول إلى المجادلة. فأنت تود أن تعرض سعة اطلاعك وحسن تنقيبك في الموضوع المطروح للجدل، ومثل هذا يحس الرجل الآخر الذي تجادله، فإذا قهرته بمنطقك السليم وفزت عليه فإنه لن يعتبر ذلك إلا إهانةً منك، وجرحاً لكرامته، وهو قلَّما يغفر لك ذلك، بهذا تكون قد اشتريت خصومته دون نفع يصيبك من الشراء.

 

وبين أثر الجدل على الأعصاب فقال: الواقع أن الرجل الكثير الجدل، هو الذي لا يقوى على ضبط أعصابه، فيفقد السيطرة على نفسه حين يسمع رأياً مناقضاً لرأيه أو وجهة نظر بعيدة عن وجهة نظره..إن الخصم في الجدال كالكلب العقور ومن الأفضل أن تخلي له الطريق قبل أن يعضك من أن تقتله بعد أن يكون قد فعل ما فعل، واعلم أن أفضل طريق لكسب الجدال هو عدم الوقوع فيه.

 

وقد جاء في الحديث الترغيب في ترك الجدل، فوعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تاركه ببيت في الجنة.عَن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيتٍ, فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ المِرَاءَ وَإِن كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيتٍ, فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الكَذِبَ وَإِن كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيتٍ, فِي أَعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسَّنَ خُلُقَهُ»(1).

 

وقد أخذ السلف الصالح بهذا وبينوا أن الجدل يوغر الصدور ويفصم الصداقة ويصنع العداوات ويضيع الأوقات.

عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: «المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغن»(2).

 

واعتبروا المراء الطريق المختصر إلى القطيعة وحل حبال الصداقة:

قال عبد الله بن الحسين: «المراء يفسد الصداقة القديمة ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة والمغالبة أمتن أسباب القطيعة»(3).

 

وأوضح الإمام ابن بطة أن الجدال والمخاصمة ليست من صفات النبلاء ولا من أخلاق العلماء:

قال الشيخ: «فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء ولا من أخلاق العقلاء ولا من مذاهب أهل المروءة ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة ولا من سير السلف ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهو يتعلم، ودراية يتفكه بها، ولذة يستراح إليها، ومهارشة العقول، وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب، واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، والمغالطة في القياس، وبهت في المقاولة، وتكذيب الآثار، وتسفيه الأحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قاله الرسول، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة، وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وضراوة السلاطة، وتوغير للقلوب، وتوليد للشحناء في النفوس، عصمنا الله وإياكم من ذلك وأعاذنا من مجالسة أهله»(4).

 

وقيل لحاتم الأصم: بماذا غلبت خصمك؟ قال: «أفرح إذا أصاب، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني أن أقول فيه ما يسوءه».

 

وإذا تناقشوا يحسنون القصد والرغبة بإظهار الحق كما تجادل إسحاق بن راهويه والشافعي، فأخذ الشافعي برأي إسحاق وأخذ إسحاق برأي الشافعي لما ترجح الحق في نظرهما.

----------------------------------------

(1) رواه أبو داود في السنن [4800]، والترمذي في الجامع [1993]، وابن ماجه في السنن [51].

(2) الإبانة (2/530).

(3) الإبانة (2/530-531).

(4) الإبانة (2/531).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply