إعصار كاترينا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أيها المسلمون، تلك مدينةٌ كانت عامرةً، مبتهجة بمعالم الحضارة وزُخرفها، فاستحالت في سويعات أثرًا بعد عين، كانت الأنهار تجري من تحتها، فغمرتها فأجراها الله من فوقها، وغرقت في لجّة الطوفان، وفيها مفقودون ومشرّدون، وآخرون مكلومون محزونون، ومن وَراء ذلك خسائر مادية ومالية فادحة أصيب بها من لم يُصبه الإعصار.

تلك بعض الآثار لدمار الإعصار، لم يلبث إلا عشيةً أو ضحاها، لكنه ترك آثارًا شاخصة لا تمحوها عشرات السنين.

حلّ الإعصار سريعًا ثم ارتحل، فاقتفاه الناس يكتبون آثارَه، فإذا آثاره ممتدةٌ خارجةٌ عن مسارِه، قد أصابت من لم يصبه الإعصار، فلئن كان الإعصارُ قد أصاب مدنًا يسيرة في ولاية من عشرات الولايات فإن آثاره قد أصابت الولاياتِ بأكملها، وكبّد دولتها خسائرَ جسيمة لا يكبِّدها فعلُ بشَر.

وانهمك الناس يتتبعون آثارَ الإعصار يحصون الخسائر والأضرارَ ويقدِّرونها، فيُعييهم إحصاؤها ويُجهدهم تقديرها، فيخرصونها خرصًا ويقدِّرونها تقديرًا يقارب الحقيقة ولا يصيبها.

وخاض فيه الإعلام وأهله، يقرؤون الحدث من زواياه العلمية والاقتصادية والبيئيّة، فقالوا عنه كلّ شيء، وفصّلوه تفصيلاً، وخاض قومُنا كالذي خاضه أولئك، وقرؤوا الحدَث القراءة نفسَها بتفسيراتها العلميّة الظاهرة، وتركوا التفسيرَ الأهم الذي يفسّر الحدث وأسبابه الحقيقية، وهو التفسير الذي ينفرد به المؤمن المصدّق بكتاب الله وآياته.

لقد قال قومنا ما قد قيل، وتركوا الحقيقةَ التي يجب أن تقال، ولم يتركوها سهوًا، بل عمدًا ترَكوها، حتى إذا قالها غيرهم وذكّر بها ووعظ استهجنوها منه، وسلقوه بألسنة حدادٍ,، وقوّلوه ما لم تقل، وألزموا كلامه ما لا يلزَم، وحمّلوه ما لا يحتمل.

لقد تركوا أوّل شيء ينبغي أن يقال ويُذكَّرَ به إذا وقعت مثلُ تلك الكارثة، وهي الحقيقة التي هي الأولى بالذّكر في هذا المقام، فلا علينا أن لا نذكر غيرَها من أمر الكارثة، وهي أن ما أصاب أولئك فإنما هو عقوبة على ذنوب اقتَرفوها، فما أصيبوا إلاّ بشؤم معاصيهم، ولا يظلم ربك أحدًا.

حقيقة أكَّدها القرآن كثيرًا، فجلاّها بلسان عربيّ مبين يفهمه كلّ أحد، غير مشتبِه ولا ملتبس، فجلاها الله في قوله جل جلاله: ( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ, ) [الشورى: 30]، وفي قوله: (وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا ) [الإسراء: 16]، وفي قوله: (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ, مِن السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللَّهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ أَوَلَم يَهدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرضَ مِن بَعدِ أَهلِهَا أَن لَو نَشَاءُ أَصَبنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَنَطبَعُ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لا يَسمَعُونَ ) [الأعراف: 96-100]، وفي قوله: ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخسِفَ اللَّهُ بِهِم الأَرضَ أَو يَأتِيَهُم العَذَابُ مِن حَيثُ لا يَشعُرُونَ ) [النحل: 45]، وفي قوله: ( فَكُلاً أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنَا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ ) [العنكبوت: 40]، وفي قوله: ( وَتِلكَ القُرَى أَهلَكنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم مَوعِدًا ) [الكهف: 59]، وفي قوله: ( وَمَا كُنَّا مُهلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهلُهَا ظَالِمُونَ ) [القصص: 59]، (ذَلِكَ أَن لَم يَكُن رَبٌّكَ مُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ, وَأَهلُهَا غَافِلُونَ ) [الأنعام: 131]، (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ) [الروم: 41].

فهذه الآيات وأمثالها تفسّر هذه الكوارث، وتجلي عن سببها الأكبر الذي هو فوق أسبابها الطبيعية الظاهرة، وهي أن الكوارث تسلّط على الناس بسبب ذنوبهم.

 

وليس يخفى عند تقرير هذه الحقيقة ما يتوارد على بعض العقول من تساؤلات تحول بينها وبين قبول هذه الحقيقة، فلا مندوحةَ عن التعرض لها بأجوبة مقنعة تزيل عن هذه الحقيقة ما ألصِق بها من لوازم باطلةº حتى تسلّم العقول بها، وتطمئن النفوس إليها، ولذا فإن التذكير بهذه الحقيقة يقتضينا أن نُتبعَها بجملة من اللّفتات اللازمة:

فأولاً: إذا وقعت الكارثة بقوم فليس من لازم ذلك أن يكونوا هم أفجر الناس، كما أنها لا تمنح تزكيةً ولا شهادةَ حُسنِ سيرةٍ, وسلوك لمن لم يُصب بها، فقد تصيب العقوبة الفاسقَ والفاجرَ وثمةَ من هو أفسقُ منه وأفجر، وقد يَهلِكُ الظالم وينجو الأظلم، وإن كان كلُّ مستحّق للعقوبة مستوجب للسخط، فإن منهم من تعجل له بعضُ العقوبة في الدنيا، ومنهم من تؤخّرُ عقوبته فتدّخر له وتضعّفُ في الآخرة، وقد يُعاقَب المذنبُ بعقوبةٍ, لا يشعر بها الناس من أمراض نفسية أو مشكلات اجتماعية أو أزَمَاتٍ, اقتصادية.

ينبغي أن نعلم أن العقوبات لا تنالُ الأولى بها فالأولى، فقد تخطئ الأَولَى وتصيب الأدنى لحكمةٍ, يعلمها - سبحانه -، فإنّ الله يملي لبعض الظالمين استدراجًا ليزدادوا إثمًا، ( وَلا يَحسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُملِي لَهُم خَيرٌ لأَنفُسِهِم إِنَّمَا نُملِي لَهُم لِيَزدَادُوا إِثمًا وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ ) [آل عمران: 178]، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَستَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعلَمُونَ وَأُملِي لَهُم إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ ) [الأعراف: 181، 182].

ثانيًا: يتساءل بعضهم وهو يسمع بهذه الحقيقة: فما بال الأطفال ومن في تلك الديار من المسلمين؟! ما ذنبهم؟! وما جريرتهم حتى يهلكوا مع من هلك؟! والجواب: إنه ليس للأطفال ذنب إذ هلكوا في الكارثة بلا شكّ، وقد يكون من هلك معهم من المسلمين غيرَ مستحقّ للعقوبة، لكنهم أصيبوا بها تَبعًا، ووجودهم لا يمنع حلول العقوبة إذا ظهر في قومهم الفسادُ والفجور، فإذا هلكوا فليس بهلاك عقوبة عليهم، وإنما هو حلول أجَل اقتضى أن يكونوا في عِداد أولئك القتلى في الكارثة، فعنه أنه قال: ((إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)) أخرجه البخاري، وعنه أنه قال: ((العجب أن ناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم))، فقلنا: يا رسول الله، إنّ الطريق قد تجمع الناس، قال: ((نعم، فيهم المستبصر ـ وهو المستبين القاصد لغزو البيت العامد له ـ والمجبور ـ أي: المكره ـ وابن السبيل ـ وهو سالك الطريق معهم وليس منهم ـ، يهلكون مهلِكا واحدًا، ويصدرون مصادرَ شتى، يبعثهم الله على نياتهم)) أخرجه مسلم.

لقد استشكلت عائشة وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبَب العقوبة، فوقع الجواب بأن العذاب يقع عامّا لحضور آجالهم، ويبعثون بعد ذلك على نياتهم.

وانظر هنا كيف هو شؤم المعاصي على الخلق جميعًا صالحهم وطالحهم محسنِهم ومسيئهم إنسهم وبهائمهم، لقد خسف بالجميع لشؤم الأشرار، ثم عند الحساب يعامل كل أحد بحسب قصده. وفي الحديث الصحيح المشهور: أنهلِك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبَث)).

إن هذه الحقيقةَ التي أكدها القرآن في آيات كثيرة ليس لها إلا معنًى واحدٌ لا يحتمل غيره، وهو أن العقوبة إذا حلت بأرض فإنما حلت بأرض فيها من الفساد ما يستوجب العقوبة، وليس من لوازمها أن من حلت بهم هم أفجر الناس، ولا أن من لم تحُلَّ به مُبرّأٌ من الإثم.

وعلى هذا فإذا قلنا: إن الإعصارَ حلّ عقوبةً بمن هلك به أو تضرّر فهذا لا يعني أننا نزكّي أنفسنا ونبرئُها من المعاصي إذ لم نُصب بتلك المصيبة، فنحن مؤمنون بأن الله لا يرسل بالآيات إلا تخويفًا، وأن الكارثة كما هي عقوبة بمن أصيب بها فهي موعظةٌ وتخويفٌ لغيره.

نرى هذه المشاهد تقع هنا وهناك، يُجريها الله من حولنا، ويصرفها برحمته عنا، فما يحملنا ذلك إلا على حمده - سبحانه - وشكرِه أن نجَّانا منها، وجعل غيرنا عبرةً لنا، ولم يجعلنا عبرةً لغيرنا. وإن من أعظم الغرور أن نظنّ ذلك لمزيّة فينا تجعلنا بمأمن من مكر الله وعذابه، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى: ( نَحنُ أَبنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) [المائدة: 18]، فليس بيننا وبينه صلةٌ ولا رابطة نسَب، ولا نرى نجاتنا منها إلا مزيد إنعام من الله وفضل، وهي صورة من صور الابتلاء، النجاة فيها بالشكر والاعتراف بالتقصيرº حتى لا تنقلب من صورة رحمة بالنجاة إلى استدراجٍ, وإملاء، كشأن من قال الله عنهم: ( وَلَقَد أَرسَلنَا إِلَى أُمَمٍ, مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ فَلَولا إِذ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُم الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ, حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) [الأنعام: 42-45].

إن صرفَ هذه الكوارث عنا يستوجب مزيدَ شكر للمنعم - سبحانه -، ويستوجب معه اعترافًا بتقصيرنا في جناب الله الذي هذا فضله وهذه نعمته، ونحن في قبضته وتحت تصرّفه، نعصيه ونفرّط في طاعتهº فلنقل كما علمنا نبينا: نبوء بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...

 

الخطبة الثانية

ثالثًا: لم يبغت الإعصارُ الناسَ فجأة، ولا أتاهم على حين غِرّة، بل جاءهم وهم له مترقِبون متربّصون، جاءهم بعد أن رصَدوا مسارَه، وقاسوا خطورَته، وأنذروا به وحذّروا، فجاءهم على المسار الذي رسموه له وبالقوّة التي حدَسوها، ومع كل ذلك لم يستطيعوا له ردًّا ولا تحويلاً، فمهما بلغ الإنسان من العلم وأحاط بأسراره فستظل قدرته في حدودها البشرية المحدودة.

لقد أفادتهم علومهم في هذه الكارثة بعض الفائدة المرجوّة، فأمكنتهم من الفرار من مسار الإعصار، ونجوا من الموت بمشيئة الله ثم بما أفادتهم به علومهم، لكن علومهم على تقدّمها لم تمنعهم من أن تمسّهم العقوبة ببالغ الأذى والضرَر، فإن كانوا نجوا بجسومهم فإنهم لم ينجوا من بطشة العقوبة، واقرأ في تقديرات ما خسرته الولايات المتّحدة بسبب الإعصار لتدرك أن الإعصار مصابُ أمّة بتمامها لا مصاب ولاية أو مدينة، وأن العقوبة طالتها جميعًا وإن لم يحل الإعصار إلا ببعضها.

رابعًا: إن كون هذه الآيات تقع بأسباب مفسّرة لا يجرِّدها من مشاهد العبرة والتذكرة، ولا ينفي أن تكون عقوبة على ذنوب مستحِقة للعقاب، فما كان يخفى على النبي ولا عن أصحابه أن كسوف الشمس يقع لأن القمر حال دونها، ولا أن خسوف القمر يقع لأن الأرض حالت بينه وبين الشمس، بل كان ذلك معروفًا قبل زمنهم، ومع ذلك كانوا يرون فيها آيةً للعبرة والخوف.

وهكذا كلٌّ كارثةº معرفةُ أسبابها لا يحجب ما فيها من نُذر التخويف، كما لا ينبغي أن ننشغل بدراسة أسباب حدوث الكوارث عن الالتفات إلى ما فيها من العبر والآيات.

فليعتبر أولو الأبصار والادّكار من كل ما يُجريه اللهُ - سبحانه - في هذه الحياة من آياتٍ, يسوقُها ليتَّعظَ بها العباد وينيبوا، ويلجؤوا إلى ربهم ويتوبوا. هذه الكوارث التي نراها هي آيات عظيمة يرسلها الله تخويفًا، فلنجعل منها صلةً تصِلنا بربنا إذا نسينا وتذكِّرنا إذا غفلنا.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply