بين يدي الإجازة الصيفية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد، فيا أيها الناس إني أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى -.

معاشر المسلمين، إن الله لما خلق هذه الدنيا وخلق ما فيها، وخلق الجن والإنس خلقهم لغاية عظيمة، ألا وهي عبادته - سبحانه وتعالى -، قال - جل وعلا -: ( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ) [الذاريات: 56]، وقال - تعالى -: ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤتُوا الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ ) [البنية: 5].

وذكَّرَنا - سبحانه - بأخذ الميثاق منَّا ونحن في ظهر أبينا آدم، فقال - جل وعلا -: ( وَإِذ أَخَذَ رَبٌّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستَ بِرَبّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَـذَا غَـافِلِينَ أَو تَقُولُوا إِنَّمَا أَشرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعدِهِم أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبطِلُونَ ) [الأعراف: 172].

ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).

إذاً أنت أيها الإنسان إنما خلقت في هذه الدنيا لتعبد الله وحده لا شريك له، وأُوجدت في هذه الدنيا لكي تقيم دين الله في أرضه وتحت سمائه.

هذه هي الغاية من خلقك وإيجادك، وما خلق الله السموات والأرض والشمس والقمر والكائنات جميعاً إلا لعبادته وتوحيده ولكي تستعين بها ـ أيها الإنسان ـ في تحقيق هذه الغاية العظمى ( وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلفَةً لّمَن أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَو أَرَادَ شُكُوراً ) [الفرقان: 62].

ومع هذا كله ـ أيها الأخوة ـ فإن من الناس للأسف من ينسى هذه الغاية أو يتناساها، فتجده يعمل في هذه الدنيا ويكدح فيها، وكل همه أن يجمع فيها المال من أي طريق كان، فتجده لاهثاً وراءها، قد هده التعب وأضناه السهر، وتجده يمارس أي طريقة يحصل فيها على المال حلالاً كان أو حراماً، دون أن يتذكر وهو يعمل ويكدح في هذه الدنيا، وينسى أن الحكمة من خلقه هي عبادة الله وحده لا شريك له.

الله لم يخلقك لكي يكون رصيدك من المال كذا وكذا، ولا لتكون عقاراتك في مشارق الأرض ومغاربها، إنما خلقك الله لعبادته وحده.

أعني ـ يا أخا الإسلام ـ يجب أن تستعين بكل ما وجد في هذه الدنيا وتسخره لك يعينك على عبادة الله وحده، ويجب أن تنتبه في جميع أعمالك التجارية وغيرها أنك محكوم بشرع الله.

أيها الإخوة في الله، وها نحن نعيش في أيامنا هذه العطلة الصيفية التي يظن بعض الناس أنها عطلة حتى عن الأوامر الشرعية، فما إن تدخل الإجازة حتى تكثر الجرائم والحوادث والمشكلات وتزدحم صالات المطارات بكثرة المسافرين هنا وهناك، وتزدحم المقاهي بكثرة الوافدين إليها.

ونسي أولئك أن شريعة الله ودينه وعبادته لا إجازة فيها إلا بالموت ( وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ ) [الحجر: 99].

أيها الإخوة، اعلموا أن هذه العطلة من النعيم الذي ستسألون عنه يوم القيامة.

واعلموا أن أعماركم محدودة وأعمالكم مشهودة، وعند الموت يقول المفرط والمضيع لأوقاته لَعَلّى أَعمَلُ صَـالِحاً فِيمَا تَرَكتُ كَلاَّ [المؤمنون: 100].

واعلموا أنكم ستحاسبون على هذه النعم التي بين أيديكم بماذا صرفتموها؟ وماذا أديتم من شكرها؟ قال - تعالى -: ( ثُمَّ لتسألن يَومَئِذٍ, عَنِ النَّعِيمِ ) [التكاثر: 8].

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: \"أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك\".

ماذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه يوماً لما أكلوا من البسر والرُطب وشربوا عليه من الماء: ((هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)).

وروى الترمذي بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعم أن يقال له: ألم نُصِحَّ لك بدَنك ونروك من الماء)).

وعن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: ( ثُمَّ لتسألن يَومَئِذٍ, عَنِ النَّعِيمِ ) قال: ((الأمن والصحة)). وقال مجاهد: \"عن كل لذة من لذات الدنيا\".

وثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ)).

ومعنى هذا أنهم مُقَصِّرون في شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون.

قال ابن الجوزي - رحمه الله -: \"قد يكون الإنسان صحيحاً، ولا يكون متفرغاً، لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا ـ الصحة والفراغ ـ فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون\".

وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشُغل، والصحة يعقُبها السَّقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:

يسر الفتى طول السلامة والبقا  *** فكيف ترى طول السلامة يفعل

يرد الفتى بعد اعتدال وصحة  *** ينـوء إذا أمّ القيـام ويحمـل

أيها الإخوة، وإننا بمناسبة حلول هذه العطلة الدراسية نحذر إخواننا وخصوصاً الشباب من تضييعها في الغفلة واللهو والحرام، واستغلالها في المرح والفرح المذموم، وبعضهم يخرجون إلى المنتجعات وعلى الأرصفة ينادون بالمعصية، بطبل ومزمار وآلات اللهو، أو بأشرطة يُسمع صوتها من مكان بعيد ولا نكير، بل حتى محلات تأجير الفرش والخيام أصبحت تؤجر العود والطبل وآلات اللهو ولا مُنكِر ولا مُغَيِّر.

هذا اهتمام شريحة من شرائح المجتمع، ومن شبابنا من يمضي إجازته بالذهاب في كل سوق واجتماع للنساء، قد لبس لباس الإفرنج وقص شعره قصة تستحي المرأة أن تقص شعرها مثله وعلق سماعة المسجل في أذنه، وظن أنه بذلك قد أنهى عطلة جميلة مليئة بالفرح والسرور.

وثم شريحة أخرى تستغل العطلة الصيفية في السفر إلى الخارج لقضائها في الفساد وإعطاء النفس ما تشتهي من الشهوات المحرمة والأفعال الخبيثة، وهذا أشد جرماً، وأعظم إثماً.

وهاهي مكاتب السفر تفتح السياحة وتعرض العروض المغرية لشبابنا لتفتح لهم أفقاً جديداً من الحياة فيما تزعم، وتتنافس هذه المكاتب بإغراء الشباب بمبالغ من المال وتعرض لهم جدولاً سياحياً للذهاب إلى بلاد الكفر والانحلال.

وأشدٌّ من ذلك خطراً هو ذلك الرجل الساذج الذي يذهب بعائلته إلى تلك البلاد اللادينية التي لا تعرف الفضيلة وتبارك الرذيلة.

واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن السفر إلى بلاد الكفار قد أفتى هيئة كبار العلماء أنه حرام حرام، ولا يجوز المكوث بين أظهرهم إلا لحاجة كعلاج ليس عند المسلمين، أو دراسة لا تتوفر إلا عندهم والمسلمون بحاجة إليها، أو عمل تحتاجه البلاد الإسلامية، أما غير ذلك فلا يجوز.

أيها الإخوة، والله إني لأعجب من أولئك الذين يسافرون بأبنائهم وبناتهم إلى تلك البلاد ثم يريدون صلاحهم وهدايتهم.

أما تتقي الله يا عبد الله في أبنائك وبناتك؟!

والله ـ يا أيها الإخوة ـ إننا لنخشى العقوبة العاجلة من الله (وَإِذ تَأَذَّنَ رَبٌّكُم لَئِن شَكَرتُم لأزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ ) [إبراهيم: 7].

وكم أهلك الله من الأمم عند غفلتهم وسكرتهم وكفرانهم للنعم ونسيانهم أوامر الله وإعراضهم عنها.

والله إنه لا نسب بيننا وبين الله حتى نأمن عقوبته وسخطه وغضبه علينا، فمتى ما أطعنا الله واتبعنا أوامره فإن الله يحفظنا ويكلؤنا بعينه التي لا تنام وبركنه الذي لا يضام، ومتى ما أعرضنا وعصينا وارتكبنا الحرام ولم ينكر بعضنا على بعض، هُنَّا على الله، فأوشك أن يعمنا بعذاب من عنده.

(وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَـاتٍ, مّنَ السَّمَاء وَالأرضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَـاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَـاتاً وَهُم نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللَّهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلاَّ القَومُ الخَـاسِرُونَ) [الأعراف: 96-99].

اللهم أيقظنا من غفلتنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وأشكره وأستغفره ولا رب لي سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد، فيا أيها الإخوة في الله، إني من هنا، من على هذا المنبر أنادي إخواني طلبة العلم باستغلال العطلة الصيفية بالتحصيل ودراسة العلم وكثرة الطلب والحرص على حلق العلم والتتلمذ على العلماء، فإن مما لا يدرك في أيام الدراسة يدرك في أيام الإجازات والعطل.

أكرر ندائي لطلبة العلم بالحرص على العلم وعلى تحصيله في كل وقت وخاصة في هذه الأيام.

احرصوا يا طلبة العلم واصبروا وصابروا ورابطوا، فإن الأمة بحاجة لكم، ما زالت الأمة تشكو من قلة العلماء العاملين، والدعاة الناصحين، وما فتئت الأمة ترزح بجهلها في دين الله وأحكامه.

فأنتم اليوم طلاب وغداً معلمون، اليوم تطلبون وغداً يطلب منكم، فهل عقلتم عظم المسؤولية وحملتم همها.

وأيضاً فإنني أُثَنِّي ندائي وخطابي لطلبة العلم خاصة وللناس عامة بالدعوة إلى الله.

ادعوا إلى الله وبصِّروا الناس في دينهم وأيقظوهم من سباتهم، لا مانع وأنت مسافر لتتنزه ولتستمتع مع أهلك في أحد مصائف هذه البلاد المباركة، أن تكون داعية إلى الله وناصحاً ومرشداً، إما بالكلمة الناصحة المشفقة أو من يحملها عنك إليهم، ولا تحقرن من المعروف شيئاً.

وإليكم يا أولياء الأمور: ألحقوا أبناءكم بحلق تحفيظ القرآن الكريم، أو ألحقوهم بنشاط دعوي يعود عليهم في إجازتهم بالخير والفائدة.

وأنت ـ أيها المسلم ـ في كل مكان أياً كان ميولك وأياً كان عملك، لا تنسَ أن يكون لك في حياتك اليومية ورد من كتاب ربك ترطب به لسانك، وتلين به فؤادك، وتزيد به حياتك إيماناً وتقوى. وأن تقرأ مما يعود عليك بالفائدة في الدنيا والآخرة.

وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply