مع سورة الفجر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة وجعل الظلمات والنور وجعل لكل شيء نهاية، أحمده - سبحانه - وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

عباد الله أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - فإنها وصية الله للأولين والآخرين قال - تعالى -: (وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللّهَ) النساء 131

فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه وما من شرٍ, عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله - عز وجل - حرز متين وحصن متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.

وبعد سنعيش واياكم في هذه الدقائق الغالية مع سورة الفجر

يقول - عز وجل -: ((والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر)) خمسة أقسم الله - سبحانه وتعالى - بها، بدأ بالفجر، والله - سبحانه وتعالى - حين يقسم بشيء فإنما ليبين لنا عظم هذا الشيء، قال - عز وجل -: ((والفجر))، والفجر هو الصبح كما هو معروف، قال ابن عباس وعكرمة وغير واحد من المفسرين: \"هو انفجار النهار من ظلمة الليل\" وعلى الراجح من أقوال العلماء المفسرين أن هذا الفجر هو فجر يوم النحر، هو فجر يوم الحج الأكبر، يقسم الله - عز وجل - به لعظمه، ولأن المسلمين يفعلون فيه كثيرًا من مناسكهم في المشاعر المقدسة، هذا هو الراجح، وذلك لأن الله - عز وجل - قرن هذا الفجر بالليالي العشر، وهي التي على الراجح عشر ذي الحجة.

وأقوال المفسرين في قوله - تعالى -: ((وليال عشر)) منحصرة في ثلاثة أقوال: عشر ذي الحجة، والعشر الأول من محرم، والعشر الأواخر من رمضان، والأقرب هو القول أن العشر هي عشر ذي الحجة، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل هذه العشر، ونحن مقبلون عليها، وما كانت هذه العشر مختصة بهذه الفضيلة إلا لحكمة بالغة، ومن تلك الحكمة البالغة أنه لما كان الله - عز وجل - قد غرس في نفوس المسلمين حنينًا وشوقًا على بيت الله الحرام، وإنه لما كان كثير من الناس لا يفدون إلى البيت الحرام للحج في كل سنة وقد جعل الله - عز وجل - الحج مرة واحدة في العمر، جعل الله - عز وجل - عشرًا من ذي الحجة يستوي فيه السائرون والقاعدون ينال فيه السائرون والقاعدون أجرًا عظيمًا، فإذا كان قد فاته الحج إلى بيت الله الحرام فإنه في العشر يعمل في بيته بعمل يفوق الجهاد في سبيل الله الذي هو أعظم من الحج المبرور كما ثبت عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - حين سأل عن أفضل الأعمال فقال: ((إيمانٌ بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).

وقد ثبت فضيلة هذه الأيام العشر في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني: عشر ذي الحجة. فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ ـ وذلك لما ارتسم في أذهانهم من عظم الجهاد في سبيل الله - تعالى -ـ قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).

وقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يعظمون ثلاثة أعشار من السنة: عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من المحرم، وفي هذا الحديث دليل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل قد يكون خيرًا من الفاضل عند الله - عز وجل -، فهذه الأعمال التي تعمل في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله لخصوصية هذه الأوقات والأيام، وذلك فضل من الله ونعمة، فكثير من المسلمين في آفاق الأرض لا يستطيعون حج بيت الله الحرام، فجعل الله - عز وجل - لهم هذه العشر كي يعملوا فيها الأعمال المعتادة، فعلى المرء أن يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن في هذه العشر التي ستقبل علينا، وأن يكثر من نوافل الصلاة، وأن يكثر من نوافل الصدقة والصيام، وخاصة صيام يوم عرفة لغير الحاجº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أن صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية، فذلك فضل من الله - تعالى -ونعمة.

ثم قال - سبحانه -: ((والشفع والوتر))، أقسم الله - تعالى -بالشفع وأقسم بالوتر، وهذه الوتر أو تلك الشفع اختلف المفسرون في تأويلها وتفسيرها.

فمن قائل: أنها يوم النحرº لأنها اليوم العاشر، والوتر هو يوم عرفةº لأنه اليوم التاسع.

ومن قائل: الشفع هو الخلق، والوتر هو الله - سبحانه وتعالى -، وهذا القول وجيه وجيه، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - ـ والحديث في الصحيحين ـ: ((إن لله - تعالى -تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة، والله وتر ويحب الوتر)) وفي رواية: ((إن الله وترًا يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن)) وهذا وجيه وذلك أن كل المخلوقات شفع، والله - سبحانه وتعالى - وتر حتى الحصاة التي ظنها البعض أنها وتر فهي في الحقيقة شفع، فعرفنا في زماننا أن كل شيء يتكون من جزئيات، وأن الجزئيات تتكون من ذرات، حتى الماء الذي ظنناه شيئًا واحدًا متكتلاً يتكون من جزيئين فما وصل إلى درجة الغليان تجزأ إلى اثنين، وإذا كان في درجة مؤتلفة من الحرارة بقى على ما هو عليه.

وصدق - عز وجل - حين قال: ((ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون))، والله - سبحانه وتعالى - خلق من كل شيء زوجين اثنين ليبقى - سبحانه وتعالى - واحدًا وترًا.

((والشفع والوتر والليل إذا يسر)) يقسم الله - سبحانه وتعالى - بالليل إذا سرى وقيل: الليل لا يسري ولكنه يُسرى فيه، فنسب الفعل إلى الليل، وهذا من البلاغة القرآنية، ((والليل إذا يسر)) وقال بعضهم هو ليل جُمَعٍ,، أي هو ليل المزدلفة، وثبت عن بعض الصحابة أنه كان يقول أسر يا ساري فلا تبيتن إلا بجُمَع، أي فلا تبيتن إلا في المزدلفة، وعلى كلٍ, فالليل من نعم الله - سبحانه وتعالى -، والله خلق الليل ليكون لنا لباسًا، وهذا منه - سبحانه - نعمة.

((والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر))، أي هل فيما مضى من القسم عدة لذي لب وعقل وسمى العقل حجرًاº لأنه يمنع الإنسان مما لا يليق به من الأقوال والأفعال، ومن ذلك قالوا: حجر الحاكم عليه إذا منعه من التصرف بماله، قال - سبحانه وتعالى -: ((هل في ذلك قسم لذي حجر)).

هل نتعظ بذلك القسم الذي من الله - سبحانه وتعالى - فنراعي الفجر، ونراعي الأيام العشر، ونراعي خلق الله - تعالى -، ونراعي الليالي التي نعصي الله فيها ((0هل في ذلك قسم لذي حجر)) لذي لب وعقل هل ينتبه المنتبهون؟ هل ينتبه العقلاء الفطنون أن الله - سبحانه وتعالى - ما جعل الليل والنهار إلا لكي نعبده، ما جعل الله الليل والنهار خلفة إلا لكي نتذكر ما جعل الليل والنهار، إلا لكي نصلي ونصوم ((ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) ((هل في ذلك قسم لذي حجر)).

وهذا القسم من الله - سبحانه وتعالى - محتاج إلى مقسم عليه، فأنت إذا قلت والله، وتالله فإنك تقسم لاشك على شيء فتقول والله لأفعلن، أو والله إن فلان لقادم، ونحو ذلك من الأقوال، فأين المقسوم عليه؟

المقسوم عليه طواه الطوى، طواه السياق، طواه سياق الآيات، ومعلوم ممن بعده من التفسير وموضوعه هو الطغيان، والفساد في الأرض هو الكلام عن الطاغين والمتجبرين والمفسدين، فقال - سبحانه وتعالى -: ((ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلف مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب))، يحكي الله - تعالى -عن أكبر الجبابرة، وأعتى المفسدين في الماضي، وهم عاد وثمود وقوم فرعون، يحكي الله - سبحانه وتعالى - لنا قصتهم، ((ألم تر كيف))، ألم تعلم يا محمد، ألم تعلموا أيها التالون لكتاب الله ((كيف فعل ربك بعاد))، وعاد، وعاد الأول هي التي أهلكها الله - سبحانه وتعالى -، والتي ذكرها في غير ما موضع، وعاد هي عاد إرم والتي تنتسب إلى عاد ابن ارم، ونسبها ينتهي إلى نوح - عليه السلام -، تسكن في جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وحضرموت في مكان يسمى بالأحقاف لكثرة الكثبان الرملية فيها، وكانوا من أعتى القبائل، ومن أشدهم بطشًا، وكانت لهم تركيبة جسمية هائلة كما قال المؤرخون فأسكنهم الله - عز وجل - الجبال وزادهم في الخلق بسطة، وذلك من بعد نوح - عليه السلام -، فما شكروا نعمة الله - عز وجل -، وإنما علوا واستكبروا، وأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ألم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسل الله - عز وجل - لهم هودًا يذكرهم فقال لهم: واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين، أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون.

فكذبوه وعاندوه، ويذكر الله - سبحانه وتعالى - لنا قوتهم حتى نعلم نحن الضعفاء بأننا لا نقوى على محاربة الله - عز وجل - ولا نقوى على عصيانه وغضبه وسخطه قال - سبحانه -: إرم ذات العماد قيل: خيامهم الذين كانوا يرتحلون فيها، وقيل: هي أجسامهم التي كانت كالعمد، وقيل: هي مملكتهم التي كانت ذات أعمدة عظام، فيذكر الله - سبحانه وتعالى - لنا هذه القوة، والراجح أن المراد بذات العماد هي مملكتهم التي كانوا يسكنونها ويقتنونها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد هي القبيلة على الراجح التي لم يخلق مثلها في أشكال أفرادها، وفي قوتهم، وفي تركيباتهم الجسمية، لم يخلق مثلها في البلاد في زمانهم، فكانوا أقوياء أشداء، وكانوا يغيرون على القبائل الأخرى فينهبونهم ويسلبونهم ثم قال - سبحانه وتعالى - بعد ذلك: وثمود الذين جابوا الصخر بالواد أي جابوا الصخر ونحتوه كما قال - عز وجل - عنهم: وينحتون من الجبال بيوتًا فارهين يخرقون الجبال فيجعلونها مغارات ومساكن، انظروا إلى مساكنهم في وادي القرى في مدائن صالح، فالجبل قد تحول إلى قصر، والجبل قد تحول إلى مغارة، وذلك من قوتهم وعظمتهم.

((وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذو الأوتاد)) صاحب العمد العظيمة، كان يتخذ أوتادًا وعمدًا يربط فيه الناس فيجعل على ظهر الواحد بعد أن يربطه ويمده مدًا فيضربه بصخرة، أو رحى فيموت على ذلك، أو يجعل على أطراف الرجال أعمدة ثم يأمر بالخيل فتجر هذه الأعمدة فيتقطع الرجل أوصالاً.

((وفرعون ذي الأوتاد)) وقيل الأوتاد هي تلك البنايات العظيمة التي خلفها الفراعنة التي هي الأهرامات، ((الذين طغوا في البلاد)) اشتركوا في هذا أنهم جميعًا طغوا، والطغيان يؤدي إلى الفسادº لأن المرء إذا طغى حسب نفسه أعظم مما هو عليه، وانتقل من مكانة العبودية إلى مكانة الألوهية كما قال فرعون: ((ما علمت لكم من إله غيري))، ((أنا ربكم الأعلى)) ((طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد)) من الشرك بالله، ومن قتل العباد وسفك الدماء فأكثروا فيها الفساد، فهل كان الله - عز وجل - عنهم غائبًا؟ بل كان - عز وجل - عليهم شاهدًا حاضرًا فقال - سبحانه وتعالى -: ((فصب عليهم ربك سوط عذاب)) انظر إلى هذا التعبير القرآني، صب، أرسل الله - عز وجل - عليهم العذاب طغيانًا كما أنهم طغوا وتكبروا، سوط عذاب، عذاب لازع فجمع الله عزوجل كثرة العذاب مع أمله وشدته ((فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد)) إذا قال القائل قد أهلك الله - عز وجل - عاد بالريح الصرصر العاتبة، قال - سبحانه وتعالى -: ((الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليالٍ, وثمانية أيام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية)) هؤلاء هم ثمود وعاد، أما فرعون ((وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)) ((فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا)).

إذا كان هذا عذاب الأمم الماضية، فماذا عن أحوال الأمم الآتية؟ وماذا عن الأمم الذين في زماننا الذين يسومون المسلمين سوء العذاب في البوسنة والهرسك، في بلاد الهند، وفي بورما وأرتيريا، وفي فلسطين، ماذا لليهود؟ وماذا للبوذيين، وماذا للسيخ وماذا للنصارى الصليبين، قال - سبحانه وتعالى -: ((إن ربك لبالمرصاد))، فالله - سبحانه وتعالى - يرصد أعمالهم كما قال ابن عباس، يرصد خلقه فيرى أعمالهم خيرها وشرها ثم يحاسبهم بعد ذلك - سبحانه وتعالى - ((ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)).

فاتقوا الله عباد الله وراقبوا أعمالكم واعلموا أن الله - سبحانه وتعالى - يرصد أعمالكم رصدًا فهو القادر على كل شيء وهو الذي لا يغيب عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه واشهد ان سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الداعي إلى رضوانه وعلى اله وصحبه وجميع أخوانه

وبعد

إن الله - سبحانه وتعالى - كما قال عن نفسه: ((إن ربك لبالمرصاد)) يرصد الأعمال فلا يعذب أحدًا بغير ذنب، إنما يستعمل الله - تعالى -عدله فقد حرم على نفسه الظلم، أما الإنسان فإنه يظلم نفسه، ويجور فيما هو فيه، ولذلك قال - سبحانه وتعالى - عن الإنسان الجائر الظالم: ((فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن)) إذا جاءه النعماء من كل جانب وأرسل الله - عز وجل - عليه خيرات الأرض، وكان في سعة من الولد والمال والأهل والعشيرة والبلد فإنه يغتر ويظن أنه مكرم عند الله - عز وجل - ونسى أن الله - عز وجل - يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين والآخرة إلا لمن يحب.

((فيقول ربي أكرمن)) وعزني فلولا ما أنا فيه من الخير لما فجر الله لي خيرات الأرض ولما كنت أغنى من غيري، فإني مكرم وأنا على طاعة، ونسمع هذا من كثيرين يقولون: نحن على طاعة ولذلك فإن الله أعطانا هذه الأموال وجعلنا في أمن وأمان، ونسى هؤلاء أن الله يمكن أن يستدرج بالنعماء ((فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن))، والبلاء يمكن أن يكون بالنعماء، ويمكن أن يكون بالضراء ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة)) ((وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه)) فقدّر أي ضيق عليه رزقه.

وأما إذا ما اختبره وامتحنه فضيق عليه رزقه فجاءه المصيبة من كل مكان وجاءت البلايا وهو في طاعة وخير ((فيقول رب أهانن)) وليس الأمر كذلك فليس في سعة الرزق دليل على المكرمة، وليس ضيق الرزق دليل على المهانة، وإنما الله - سبحانه وتعالى - يقسم الأرزاق بين العباد ((فيقول رب أهانن كلا)) أي ليس حقًا أو ردع وزجر لهذا الإنسان الذي يظن هذا الظن ((كلا)) أيها الإنسان الذي تظن أن الله يمنعك عنك المال لأنه أهانك أو يعطيك المال لأنه أعزك وأكرمك ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)).

في الحقيقة أنتم إذا جاءكم المال لا تستعملون هذه الأموال فيما أباح الله ولا تضعون هذه الأموال في حقها ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)) يمر أحدكم بماله على اليتامى فلا يتصدق عليهم ولا يبحث عن اليتامى فينفق عليهم ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)) ذلك الذي فقد أباه وأصبح بحاجة إلى من يعوله ((ولا تحاضون على طعام المسكين)) أي لا يوصي بعضكم بعضًا بالإطعام، وإنما ترى بعض الناس يوصي بعدم الإطعام فإذا أراد أن ينفق أحد من الناس أو إذا دعى بعض الناس الناس للإنفاق أحجموا ومنعوا وصدوا عن الإنفاق في سبيل الله - تعالى -، لا يحض بعضكم بعضًا على طعام المسكين، لا يأتي أحدكم إلى أخيه فيقول: يا فلان هناك مسكين في مكان كذا وكذا، وهناك محتاج، وهنا مسلمون يتضجرون جوعًا فأنفق من مالك، وإنما يتحاضون على الإمساك والشح وعلى البخل ((ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لمّا وتحبون المال حبًا جمًا)) يجمع من هنا وهناك فيأتي إلى الميراث إلى ميراث الضعفاء واليتامى الذين لا قدرة لهم فيحوي هذا الميراث بغير حق، يجمعه، يلمّه لمّاً من كل جهة، فلا يلتفت إلى حرام أو إلى حلال، ويضع أمواله في البنوك الربوية يقول ربي أكرمني.

((وتأكلون التراث)) أي الميراث ((أكلاً لمًا وتحبون المال حبًا)) جمًا حبًا طاغيًا كثيرًا فيقول - سبحانه وتعالى -: ((كلا إذا دكت الأرض دكًا دكًا وجاء ربك والمَلك صفًا صفًا)) جاء ربك لفصل القضاء والملائكة من حوله تحف بعرشه - سبحانه وتعالى - في موكب عظيم رهيب يقدم الله - سبحانه وتعالى - لفصل القضاء ((وجئ يومئذ بجهنم)) لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ((وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان)) الإنسان الذي كان يظن أن كثرة ماله دلالة على إكرام الله له، الإنسان الذي مات وهو يحسب بأنه قد أحسن صنعًا عند الله وبأن له الفردوس الأعلى، وبأن له الجنة، وبأنه لن يعذب أبدًا، هذا الإنسان إذا رأى الجحيم، إذا رأى الله - عز وجل - قد قدم لفصل القضاء ورأى جهنم تزفر فإنه يتذكر تفريطه ومعاصيه واحدة واحدة لأن الأعمال تعرض عليه منسوخة ((إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)) يتذكر وهل تنفع الذكرى، لا والله، قد مضى عهد الذكرى، كان عهد الذكرى في الدنيا ((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)).

هذا في الدنيا أما في الآخرة، فكل إنسان سواء كان بارًا أو فاجرًا يتذكر، ((وأنى له الذكرى)) وكيف تنفعه الذكرى وماذا ستنفعه هذه الذكرى ((يقول يا ليتني قدمت لحياتي)) ليتني عملت عملاً أدخره لهذا اليوم فهذا اليوم هو الحياة، وقد ظننت أن الحياة هي الدنيا ونسيت أن الدار الآخرة هي الحيوان، هي الحياة الحقة، ((وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعملون)) يا ليتني قدمت لهذه الحياة الأبدية ((فيومئذٍ, لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد)) يوم القيامة لا يعذب عذاب الله - سبحانه وتعالى - أحد، لا يستطيع أحد أن يعذب كعذاب الله، فعذاب الله - سبحانه وتعالى - قمة في الألم، وقمة في العذاب كما أن نعيمه - سبحانه وتعالى - قمة في السعادة ((لا يعذب عذابه أحد)) هل يستطيع أحد ممن يعذبون العباد في الدنيا أن يجعلوا لمعذبيهم جلودًا غير جلودهم، هل يستطيع أحد ممن يعذبون في الدنيا أن يعذب أحدًا عذابًا شديدًا على مدار الحياة كذلك العذاب الذي في الآخرة ولا يموت، هل لأحد من أهل الدنيا الذين يعذبون العباد بغير حق يمتلك نار كنار الله - سبحانه وتعالى -؟ لا والله الذي لا إله إلا هو، ((فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد)) ولا يستطيع أحد في الدنيا أن يوثق وثاق الزبانية زبانية العذاب الذين على جهنم ((خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه)) هل يستطيع أحد أن يفعل هذه الأفعال،

((فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك)) نداء إلى النفس الطيبة الطاهرة، نداء إلى هذه النفس التي صبرت في الدنيا ((ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)) أي أيتها النفس المطمئنة، دعوة من الله - سبحانه وتعالى - لنفسك الطيبة أن تدخل في عبادة الله أن تكون عبدًا لله - تعالى -، فكثير من العباد ينسون أنهم عبيد لله يتصرف في الدنيا وكأنه سيد على ماله، وكأنه سيد في هذا الوجود، ونسى أنه عبد لله ((فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)) فإنه من دخل في عبادة الله دخل جنة الله - تعالى -، روى الهروي بسنده عن رجل يقال له ابن أبي هاشم قال: أُسرت في بلاد الروم فجاءنا الملك، ملك الروم فأمرنا أن نرتد عن ديننا فارتد ثلاثة وكنت منهم وجيء بالرابع فطلب منه أن يرتد فأبى فقطع رأسه ورمي في النهر فغاص رأسه بالدم في النهر حتى رسب ثم صعد وتكلمت الرأس فقالت: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان يناديهم بأسمائهم ((يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)) فاضطربت النصارى وسقط كرسي الملك وكادت النصارى أن تسلم وعاد الثلاثة إلى الإسلام، وجاء الفداء من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور.

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضى، والقصد في الغنى والفقر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد...اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply