التداوي في الإسلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ أصدقَ الحديث كلام الله، وخير الهدي هديُ محمّد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيّها الناس، إنّ نعَمَ الله - سبحانه - على عباده تترَى، وإنَّ منكِرها لجاحد، ومؤمِّلَ حصرِها لعاجز. إنها نِعَم تترادَف حلاقاتها حثِيثةً، يَمُنّ بها الباري جلّ شأنُه على عبادِه، فيعطي هذا، ويمنع ذاك، ويبسط لمن يشاء، ويقدِر على من يشاء.

 

ألا إنَّ مِن أعظم النِّعَم التي يمنَحها الرزاق ذو القوّة المتين هي نعمة الصّحّة والعافية، نِعمَة المعافاة في الجسَد والسلامة من الأسقامِ والأدواءº لأنّ الصحَّةَ التامّة والسلامةَ من العِلَل والأسقام في البدن ظاهرًا وباطنًا هي مكمَن مِن مكامِن الحياة الهنيّة المستقِرّة والكمال الدنيويّ المنشود، ومن هذا المنطلَق شاطَرَت الصّحّة العلمَ في تمام الملك كما في قوله - تعالى - عن طالوت: \"قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسطَةً فِي العِلمِ وَالجِسمِ وَاللَّهُ يُؤتِي مُلكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ \" [البقرة: 247]. وإلاّ فما مَعنى الحياة بلا صِحّة؟! وما لذّةُ الطعام والشراب على مرضٍ, وسقم؟! وما قيمة الجاه والمال في ضَعف صحّةٍ, وغلبة أدواء؟! إذِ الفقير الصحيح أهنأ وأشرَح من الغنيِّ السقيم، بل كيف تحلو عبادةُ المرء وتكتمِل مع سقمٍ, مُردٍ, وداءٍ, مزاحِم؟! فلِلَّه ما أهنأَ الصحيح وأسعَده إن شكر، وما أخزاه وأشقاه إن كفر، ولعمرو الله إنَّ الصحّةَ لواحدة من ثِنتَين يُغبَن فيهما الناس على حدِّ قول النبيِّ: ((نعمَتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ)) رواه البخاري[1]، ولقد أحسَنَ من وصَف الصّحّةَ تاجًا فوق رؤوس الأصحّاء، لا يراه ويشرئبّ إليه إلاّ المرضى من الناس.

 

أيّها المسلمون، إنَّ مِن عناية شريعتِنا السّمحة بالصّحّة وسلامة الأبدان ممّا يُضادّها أو يعكِّر تمامها هو حُسن تعامُلها مع التّداوِي والتطبٌّب والأخذ بالأسباب لمقاومَةِ الأدواء والأسقام، ما يؤكِّدُ سعةَ أفُق الشريعة، وأنها شريعة خالدةٌ لم تدَع خيرًا إلا حضَّت عليه، ولا شرًّا إلاّ حذَّرت منهº لِتخرِسَ بذلك ألسَنةً متطاوِلة عليها قائلة: ما للشَّريعة وللطِّبِّ؟! وما دخلُ الفِقه والأحكام في التّداوي والتطبٌّب؟!

 

والواقعُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ العادل المنصف يعلَم ويدرِك وسيّطةَ الشريعة وموقفَها من التداوِي واعتدالها في النظرة إليهº إذ لا إفراطَ في موقِفِها من التّداوي من جهةِ التعلٌّق به بحيث يزاحِم التوكّلَ على الله والاعتماد عليه والرّضا بقضائه وقدرِه، ولا تفريطَ فيها أيضًا من جِهة الأخذ بالأسبابِ وإعمالها في مواطِنِها، كما أنها وسَطٌ كذلك في النظرةِ إلى التداوي بحيثُ لا تفرِط فيه فتتعدَّى إلى التداوِي بالمحرم، ولا أن تفرِّط إلى درجةِ أن تهملَ التداوِي بالمباح أو تمنَعَه.

 

ثم إنّنا نجد في الشريعة تارةً إيثار التوكّل على الله مطلقًا وتقديمَه على الأخذِ بالأسباب، وأنَّ ذلك من سيما المؤمنين الصادقين في توكٌّلِهم، كما في ذِكرِ النبيّ للسبعين ألفًا الذين يدخلون الجنّةَ بغير حساب ولا عذاب وأنهم هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكلون. رواه البخاري ومسلم[2].

 

وتارةً نجد الشريعةَ ـ عباد الله ـ تحضٌّ على التداوي وتأمر به في غيرِ ما ذكِر آنفًا، كما في حديث أسامة بن شريكٍ, قال: كنتُ عند النبيّ وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسولَ الله، أنتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله، تداووا)) الحديث رواه أحمد وأبو داود[3].

 

ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنَّ موقفَ الشريعة من التداوِي لم يكن مقتصِرًا على السعيِ في رفع الداءِ بعد وقوعه، بل إنَّه تعدَّى إلى أبعدَ من ذلك على حدِّ المقولةِ مشهورة: \"الوقاية خيرٌ من العلاج\". فإنَّ من القواعدِ المقرَّرة في الشريعةِ تلكم القاعدة التي تنصّ على أنَّ الدفع أولى من الرّفع، بمعنى أنّ دفعَ الشيء قبل أن يقعَ أولى في المبادرةِ مِن رفع الشيء بعد أن يقَعَ، ويدلٌّ لذلك نصوصٌ كثيرة من السنّة النبويّة، منها على سبيل المثال لا الحَصر قولُ النبي: ((لا يورِدَنَّ ممرِضٌ على مُصحّ)) رواه البخاري ومسلم[4]، ومنها ما جاءَ عند مسلم في صحيحه من حديثِ جابر بنِ عبد الله - رضي الله عنه - أنّه كان في وفدِ ثقيفٍ, رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبي: ((ارجِع فقد بايعناك))[5]، وجاء في الصّحيحين أنّ النبيَّ قال: ((من تصبَّح بسبعِ تمرات عَجوة لم يضرَّه ذلك اليوم سمُّ ولا سحر))[6].

 

ثم إنَّ مِن تمام نعمةِ الله على عباده أنه ما مِن داء إلا وقد جعَل الله له شفاءً كائنًا ما كان هذا الداء، غير أنَّ ذلك منوطٌ بالعِلم بالدواء أو الجهل به، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وقد جاءَ عند أحمدَ في مسنده أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الله لم ينزل داءً إلا أنزلَ له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله))[7].

 

وقد وهب الله في غابِرِ الأزمان وحاضرها بعضَ المسلمين من العلم بالطبِّ والتداوي ما يشهَد لهذه الشريعة عنايتَها به ونظرتَها الواسعة للجانِب الصحيِّ في الأمة، وأنَّ أمّةَ الإسلام لم تكن في أصلِها عالةً على غيرها في هذا الباب، فعن أبي رمثة - رضي الله عنه - قال: قدِمتُ المدينة ولم أكن رأيتُ رسولَ الله، فخرج وعليه ثوبان أخضَران فقلت لابني: هذا ـ والله ـ رسول الله، فجعل ابني يرتَعِد هيبةً لرسول الله، فقلت: يا رسول الله، إنِّي رجل طبيب، وإنَّ أبي كان طبيبًا، وإنّا أهل بيتِ طبٍّ,، والله ما يخفَى علينا من الجَسَد عِرق ولا عظم، فأرِني هذه التي علَى كتِفِك، فإن كانت سِلعَةً قطَعتُها ثم داويتها الحديث. رواه أحمد[8].

 

ففي هذه النصوص ـ عبادَ الله ـ تَسلية وتقويةٌ لنفس المريضِ والطبيبِ على حدٍّ, سواء، للسّعي في استجلابِ ما يقاوَم به الداءº لأنَّ استشعارَ المريض والطبيب بذلك يكون حافِزًا لهما على التفاؤُل والرجاء الذي يقهَر به المرَض والداء.

 

ثم إنَّ الشريعة الإسلامية لم تدَع المرءَ المسلم مذَبذَبًا بين النظرةِ إلى التسليم بالقَدَر والقضاء وبينَ النظرةِ إلى مدافعة ذلكم القدر، فالداء الدواءُ كلٌّه من عند الله، فكما أنَّ الداء ينزل بقدَر فإنَّ فعل الأسباب ونفعَ الدواء لا يكون إلا بقدر، فالمرء في كِلتا حالتَيه يفرّ من قدَر الله إلى قدَر الله، وقد جاء في السنن ومسند أحمد عن أبي خزامةَ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ رُقًى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتُقاةً نتَّقيها، هل تردّ من قدر الله شيئًا؟ فقال: ((هي من قدر الله))[9].

 

ثم اعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه يجب علينا جميعًا الإدراكُ الصحيح بأنَّ التداويَ ضدَّ الأسقام ضروبٌ ثلاثة:

 

فالضرب الأوّل منها هو التداوِي المشروع الذي استحبَّه الشارع الحكيم، وهو ما وردَت فيه نصوص مخصوصةٌ به كالتداوِي بالقرآن وبزمزَم وبالعسَل والعَجوة والحبّة السوداء وغير ذلكم ممّا وردت به النصوص الصحيحة الدالّةُ على أنَّ بعضَ الأشياء تُعَدّ علاجًا لبعض الأمراض المخصوصة.

 

والضرب الثاني هو التداوِي بالمباح، وهو كلٌّ دواءٍ, لم يرد فيه أمرٌ به بحيث يكون دواء شرعيًا، ولم يرد فيه منعٌ منه بحيث يكون دواءً محرَّمًا، وهذا هو أوسَع ضروب التداوي، وهو أمر لا يقِف عند حدٍّ,، بل كما قال النبي: ((علمه من علمه، وجهله من جهله)).

 

والضرب الثالث ـ عباد الله ـ هو التداوي بالمحرَّم، وذلك لنهي النبيِّ عن التداوي بما حرَّم الله لما رَوَى أبو داودَ في سننه أنّ النبيَّ قال: ((إنّ الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ, دواءً، فتداوَوا ولا تداوَوا بالمحرّم))[10]، وأخرج البخاري في صحيحه تَعليقًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (إنَّ الله لم يجعل شفاءَكم فيما حرَّم عليكم)[11].

 

والدواء المحرَّم ـ عبادَ الله ـ هو ما [كان] فيه أحَدُ أمرين:

 

أوّلهما أن ينصَّ الشارِعَ الحكيم على تحريمِ التداوِي بشيءٍ, معيَّن، كما نهى النبيّ من صَنَع الخمر للدّواء فقال له: ((إنّه ليس دواء، ولكنه داء)) رواه مسلم[12]، وكما في الحديثِ الذي رواه النسائيّ أنَّ طبيبًا ذكر ضِفدَعًا في دواءٍ, عند رسول الله فنهاه عن قتلها[13].

 

وأمّا ثاني الأمرين فهو أن تكونَ الأدوِيَة والعقاقير تحوي شيئًا من النّجاسات أو المحرَّمات التي حرَّمها الشارع الحكيم، كمالمستحضَرات المستخلَصَة من بعضِ الميتة كرِئَة البقر مثلاً أو مخاطِيات أمعاءِ الخنازير أو أبوالِ الحُمُر الأهلية وألبانها، أو أن تكونَ وسيلةُ العلاج وسيلةً محرَّمة كالعِلاج بالغِناء والموسيقى المحرَّمة إجماعًا وبعض طرق التّنويم المغناطيسيّº لأنَّ غايةَ الشفاء لا تبرِّر الوسيلةَ المحرَّمة في الوصول إليه.

 

ومن هنا جاءت مراعاةُ الشريعة لهذا الجانبِ المهمّ على أكمل وجه، حتى طالت العنايَةُ بمسألة التداوي جوانبَ كثيرةً ذكرها الفقهاء وأطنبوا في بحثِها، فتعدَّت إلى ذكر جنايةِ الطبيب في التداوي وأثرِ التداوي في ترخٌّص المرءِ كالفِطر في الصّوم مثلاً ونحو ذلك، وكذا بعض الوسائِل التي يضطرّ إليها المرء حالَ التداوي ككشفِ العورة أو مسِّها، وما ينشأ بين الحِين والآخر من نوازلَ طبيّةٍ, تفتقر إلى التكييفِ الفِقهيّ لها، ما يؤكِّد دورَ العلماء والفقهاء والمجامِع والمؤسَّسات الفقهيّة ويحضّ على دعمِها وتفعليها وبذلِ الجهود لإبرازِ النّظرة الشرعية تجاههاº ليكونَ النّاس على بيّنةٍ, مِن أمر دينهم، ولئلاّ يختلِطَ المحرَّم بالمباح.

 

\"أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِن النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلمٍ, وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ, مُنِيرٍ, \" [لقمان: 20].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.

 

----------------------------------------

[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6412) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

[2] صحيح البخاري: كتاب الطب (5705، 5752)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (220) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم في الإيمان (218) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -.

[3] مسند أحمد (4/278)، سنن أبي داود: كتاب الطب (3855)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (291)، والترمذي في الطب (2038)، وابن ماجه في الطب (3436)، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (10/135)، والحاكم (7430، 8206)، والنووي في الخلاصة (2/921)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1660).

[4] صحيح البخاري: كتاب الطب (5771)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2221) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[5] صحيح مسلم: كتاب السلام (2231) عن الشريد بن سويد - رضي الله عنه -.

[6] صحيح البخاري: كتاب الطب (5768، 5769، 5779)، صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2047) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.

[7] مسند أحمد (4/278)، وهو تتمة حديث أسامة بن شريك المتقدم. وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأبي موسى وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم -.

[8] مسند أحمد (2/228)، وهو بهذا اللفظ والسياق من زوائد عبد الله على أبيه، والحديث أخرجه أحمد (2/226) وأبو داود في الترجل (4206)، وابن أبي شيبة (5/32)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1140)، والطبراني في الكبير (22/283)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة نحوه، وهو في السلسلة الصحيحة (1537).

[9] مسند أحمد (3/421)، سنن الترمذي: كتاب الطب (2065)، سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3437)، واختلف في إسناده، فقيل: عن ابن أبي خزامة عن أبيه، وقيل: عن أبي خزامة عن أبيه، وأورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (359، 379).

[10] سنن أبي داود: كتاب الطب (3874) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (10/5)، وهو في السلسلة الصحيحة (1633).

[11] صحيح البخاري: كتاب الأشربة، باب: شراب الحلواء والعسل، ووصله ابن أبي شيبة (5/38، 75)، والطحاوي في شرح المعاني (1/108)، والطبراني (9/345)، والحاكم (7509)، قال الهيثمي في المجمع (5/86): \"رجاله رجال الصحيح\"، وصححه الألباني في غاية المرام (30).

[12] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (1984) عن وائل بن حجر - رضي الله عنه -.

[13] سنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4355) عن عبد الرحمن بن عثمان - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا أبو داود في الطب (3871)، والدارمي في الأضاحي (1998)، والبيهقي في الكبرى (9/258)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/199)، وصححه الحاكم (8261)، وعبد الحق الإشبيلي كما في تفسير القرطبي (7/210)، وهو في صحيح الترغيب (2991).

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، مِن المقرَّر عند عامّة العلماء بلا خلافٍ, بينهم أنَّ مِن جملة طرُق التداوِي في الشريعةِ الإسلاميّة ما يسمَّى الرّقية الشرعيّة، وهي التي تكون بِكتابٍ, الله - جل وعلا - ونصوصِ السنة النبويّة الواردة في الاستشفاءِ، ويدلّ لذلك قوله - تعالى -: \" وَنُنَزِّلُ مِن القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ \" [الإسراء: 82]، ولَفظَة مِن في هذه الآية لبيانِ الجِنس وليست للتّبعيض، فالقرآن كلٌّه شفاء، وهذا لا يمنَع أن تكونَ بعضُ سُوَر القرآن أفضلَ في الرقيةِ مِن بعض كما صحَّ بذلكم الخبر عن سورةِ الفاتحة والمعوِّذتين والإخلاص في الصحيحين وغيرهما.

 

غيرَ أنَّ بعضَ ذوي النّفوس الضعيفةِ والذين اعتادوا وركَنوا إلى الطبِّ المدنيّ بمغالاةٍ, يقلِّلون ويهوِّنون من شأنِ الرّقية الشرعيّة، ويرونَ أنها مجرَّدُ وهمٍ, نفسيّ وإحساس تخيٌّليّ بالشفاء مِن الأدواء ليس إلاّ، وهم في الوقت نفسِه لا ينكِرون أنَّ القرآنَ كلام الله، ولكنَّ إعجابهم بالطّبِّ الحديث وتعلّقَهم بالنظرياتِ الحسّيّة على حدِّ زعمِهم يردّ ويهوِّن من شأن الرقية، وهذا في الحقيقة كذِبٌ على الله ورسولِه وخَرقٌ لإجماعِ أئمّة المسلمين وفقهائهم، فالآيات الدالّةُ على أنَّ القرآنَ شِفاء متعدِّدة والأحاديثُ التي ورَدَت في الرّقيَة مستفيضة ثابتة، وقد ذكرنا شيئًا منها، كما أنَّ للأئمّة الأعلام المعتبَرين تجارُبَ وممارَسات للرّقية في بعض الأمراض تبهِر العقول وتأخذ بالألبابِ، وها نحن نورِد شيئًا من ذلكم، علَّه يوقِف تهوّرَ المقلِّلين من شأن الرّقية والزّاجِّين بها تحتَ مسمَّى الطبّ الشعبيّ، مع التسليمِ في الوقتِ نفسِه بأنَّ ثمَّةَ ممارساتٍ, غيرَ مقبولة شرعًا يقَع فيها بعضُ الرقاة ويكثُر فيها اللّحظُ عليهم، غير أنَّ هذا ليس محلَّ بسطها:

 

فهذا أبو محمّد بن حزم يقول عن أثر الرقيَة: \"جرَّبنا من كان يَرقِي الدٌّمَّلَ الحادَّ القوِيَّ الظّهور في أوّلِ ظهوره، فيبرأ من يومِه ذلك بالذّبول، ويتمّ يبسُه في اليوم الثالث، جربنا من ذلك ما لا نحصيه، وكانت امرأة ترقي أحدَ دمّلَين قد دُفعا في إنسانٍ, واحد ولا ترقي الثاني، فييبَس الذي رقَت ويتِمّ ظهور الذي لم تَرقَ، وشاهَدنا من كان يرقي الوَرَم المعروف بالخنازير، فيذبُل ما ينفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ\"[1].

 

وهذا ابن القيّم - رحمه الله - يتحدَّث عن شيخه ابن تيمية فيقول: \"سمعتُه يقول في واقعةٍ, عظيمة جرَت له في مرضِه تعجز العقولُ عن حلِّها من محاربة أرواحٍ, شيطانية ظهرت له إذّاك في حالِ ضَعف القوة، قال: فلما اشتدَّ عليَّ الأمر قلت لأقاربي ومَن حولي: اقرؤوا آياتِ السكينة، قال: ثم أقلَعَ عني ذلك الحال وجلستُ وما بي قَلَبة\"، ثم يقول ابن القيم - رحمه الله - معلِّقًا: \"وأنا جرَّبتُ أيضًا قراءةَ هذه الآيات عند اضطرابِ القلبِ بما يرِد عليه فرأيتُ لها تأثيرًا عظيمًا في سكونِه وطمأنينَته\"[2]. وينقل ابنُ القيِّم أيضًا عن شيخه قائلاً: \"كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندَ الإصابة بالرٌّعاف يكتب على جبهته: وَقِيلَ يَا أَرضُ ابلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمرُ [هود: 44]، وسمعته يقول: كتبتها لغيرِ واحدٍ, فبرِئ، ثم قال: ولا يجوز كتابتُها بدمِ الرّاعِفِ كما يفعلُه بعضُ الجهّال، فإنَّ الدّمّ نجس، فلا يجوز أَن يكتَبَ به كلام الله تعالى\"[3].

 

وهذا ابن القيم - رحمه الله - يتحدَّث عن نفسِه في هذا الباب فيقول: \"ولقد مرَّ بي وقتٌ بمكّة سقمت فيه وفقدتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها ـ أي: بسورةِ الفاتحة ـ آخُذُ شَربةً من ماء زمزَم وأقرؤها عليها مرارًا ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التامّ، ثم صِرتُ أعتمِد ذلك عند كثيرٍ, من الأوجاع، فأنتفِع بها غاية الانتفاع\". انتهى كلامه - رحمه الله -[4].

 

فهذه هي نصوص الشريعة، وهذه هي أقوال أئمّة الدّين، وهذا هو الحقّ، فماذا بعدَ الحقّ إلا الضلال؟!

 

هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة والسلام -، فقد أمركم الله بذلك في قوله: \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56]، وقال: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).

اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد...

 

----------------------------------------

[1] الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/4)

[2] مدارج السالكين (2/502-503).

[3] الطب النبوي (ص278).

[4] الطب النبوي (ص139).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply