الأخوة الصادقة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الخطبة الأولى:

يقول الله - تعالى - في كتابه الكريم: يَا أَيٌّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ, وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13].

نادى الله - تعالى - بني الإنسان كلهم، من المؤمنين وغيرهم، ليذكرهم بأصولهم وأساس خلقهم، فهم من أصل واحد، وفي الخلقة سواء، بنو آدم وحواءº إذ ليس شعبٌ أفضل بجنسه من شعب، ولا قبيلة أكرم بأصلها من قبيلة، وإنما كان هذا التقسيم والتفريع ليتعارفوا ويتآلفوا، وتجتمع قلوبهم، وتقترب أفئدتهم، وتزول من أوساطهم عوامل الفرقة والشتات والتمزق والانقسام، وتسود روح المودة والوئام والألفة والانسجام.

 

ثم إن الخصلة التي يمكن أن يتميز بِها الإنسان ويرتفع على غيره ويسمو وينال الفوز والكرامة من الله - تعالى -إنما هي الصلاح والتقوى والخوف والخشية منه جل وعز ومعرفته حق المعرفة وعبادته كما أراد، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف.

 

يقول: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)) رواه أبو داود.

 

والسعادة والهناء والحياة الطيبة ضمنها الله - تعالى -لكل من خافه واتقاه، وداوم على طاعته ورجاه، واجتهد طالبًا مغفرته ورضاه، قال جل في علاه: مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ [النحل: 97].

 

فالعمل إذًا والحرص على العبادة والاجتهاد فيها هو الذي يظهر ويبرز، وَأَن لَيسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجزَاهُ الجَزَاءَ الأَوفَى [النجم: 39-41]، فالله - تعالى -ينظر إلى الجميع بأفعالهم، ولا موقع للمناظر والتفاخر والتسابق في زخارف الدنيا وزينتها، قال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم.

 

فالإسلام يمقت كل نظرة يكون أساسها النسب والدم واللون، وإثارة ذلك دعوة للعصبية وإحياء لها، وعودة إلى ما كان عليه الناس في الجاهلية، ووسيلة لتفريق الكلمة، وتمزيق وحدة المجتمع المسلم الذي تربطه علاقة الإسلام والإيمان، التي هي أقوى من كل رابطة، وأوثق من أي علاقة أخرى، قال - تعالى -: إِذ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِم الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَلزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيمًا [الفتح: 26]، وقال: ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم))، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله - عز وجل -: المسلمين، المؤمنين، عباد الله - عز وجل -)) رواه أحمد.

 

ولما ثار اليهود في المدينة، وأشعلوا الخلاف بين الأوس والخزرج، ودسٌّوا بينهم شابًا يهوديًا ذكَّرهم بمعركة بعاث التي حدثت بينهم، وذكَّرهم بأحقادهم وعداواتهم القديمة، فاستثاروهم، وقام شاب من الخزرج وسَلَّ سيفَه، وقام آخر من الأوس، فتواعدوا خارج المدينة، وتَهيؤوا للقتال، فسمع رسول الله بخبرهم، فخرج من بيته وهو يقول: ((حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو ربٌّ العرش العظيم))، ويقال: إنه خرج حافيًا بلا نعلين، حتى وقف بين الصفين، وقال بأعلى صوته: ((يا معشر المسلمين، الله، الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّفَ بين قلوبكم؟!)) رواه الطبري. فلما سمع الصحابة ذلك عرفوا أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، وأنزل الله - تعالى -قوله: يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِن الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدٌّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ [آل عمران: 100]، وَكَيفَ تَكفُرُونَ أي: كيف تقتتلون؟! وكيف تتناحرون؟! وكيف تتباغضون؟! وكيف تتقاطعون؟! وَأَنتُم تُتلَى عَلَيكُم آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُم رَسُولُهُ وَمَن يَعتَصِم بِاللَّهِ فَقَد هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ, [آل عمران: 101].

 

لقد اهتمَّ الدينُ الإسلامي بكل ما من شأنه توثيق العلاقة بين المسلمين، وتقوية الصلة بينهم، والبعد عن كل ما يؤدّي إلى الفرقة والشتات والنفرة والتباغض، وحارب العنصرية بكافة أشكالها وطرقها، وأبطل العصبية بشتى صورها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((من قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ,: يغضب لعَصَبَةٍ, أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبةً فقُتِل فقتلة جاهلية)) رواه مسلم، وعن جبير بن مطعم أن رسول الله قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) رواه أبو داود، وروى المروزي بإسناده عن حذيفة قال: قال رسول الله: ((لن تفنى أمتي حتى يظهر فيها التمايز والتمايل والمعامع))، قيل: يا رسول الله، ما التمايز؟ قال: ((عصبية يحدثها الناس بعدي في الإسلام))، قيل: فما التمايل؟ قال: ((تميل القبيلة على القبيلة فتستحلّ حرمتها))، قيل: فما المعامع؟ قال: ((سير الأمصار بعضها إلى بعض، تختلف أعناقها في الحرب)).

 

إن الأخوَّةَ بين أفراد المجتمع المسلم ـ قبائل وشعوبًا وجماعات ـ يجب أن تكون قائمة على الأركان والثوابت التي أسس عليها المصطفى المجتمع الإسلامي، وينبغي لها أن تكون كذلك وتستمر عليه، مجتمع كالجسد الواحد، يتآلف ويتعاون ويترابط، يظهر فيه الإيثار والمحبة، وتسوده المودة والألفة والعفو عن الزلات والصفح عن الأخطاء والهفوات وحسن الظن، ويزول منه الحسد والقطيعة والشحناء والضغينة والاحتقار والسخرية والبغضاء والخديعة، وتختفي منه الأنانية وحب الذات، وينبغي أن تكون تلك المعاني ظاهرة في التعامل بين جميع المسلمين، يلتزم بِها الكافة قولاً وفعلاً وسلوكًا وتعاملاً، فمن وجد في نفسه شيئًا من التعالي والزهو، أو أحسّ باحتقار أو انتقاص لأي من إخوانه المسلمين بنظرته للجنس أو البلد أو اللون أو العرق أو المال أو الجاه فليراجع نفسه، وليتفقد إيمانه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: \"وَمَا أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُم عِندَنَا زُلفَى إِلاَّ مَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُم جَزَاءُ الضِّعفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُم فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ \" [سبأ:37].

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply