رسالة في مشروعية قنوت النوازل


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

إلى فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد

[1] سبب الكتابة إليكم التوضيح والبيان وإبراء للذمة، وذلك أنني قرأت أوراقا لكم فرغت من شريط منسوب لمعاليكم عن حكم القنوت في النوازل وقد لاحظت عليه عدة ملاحظات، فإن كان صدر عن معاليكم فأرجو إعادة النظر فيما قلتموه وعرضه على كلام العلماء وموافاتي بذلك وإلا فسوف أضطر إلى نشره، لا سيما وأنكم أظهرتم أن هذا القول لكم سوف تلزمونه أئمة المساجد باعتبارهم تحت ولايتكم كما قلتَ ذلك مرتين، بل قلتَ إنك لن تتركهم يمضون على ما كان سابقا وهذا ينبئ عن خطر عظيم في مسألة القنوت للمسلمين في نوازلهم ومصائبهم، إذ هو تقليص عظيم لهذه المسألة إن لم يكن محواً لذلك، كما سوف ترون في مناقشة ما ذهبتم إليه، وهو أمر لم تسبقوا إليه في هذه البلاد التي تبنى أهلها مساندة المسلمين في كل مكان، ومن أقل ذلك القنوت لهم في نوازلهم وما أكثرها، وقد نقل ابن القيم في كتاب الصلاة في فصل في صفة القنوت: قال إسحاق الحربي: سمعت أبا ثور يقول لأبي عبد الله احمد بن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر، فقال أبو عبد الله: إنما القنوت في النوازل، فقال له أبو ثور: أي نوازل أكثر من هذه النوازل التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك فالقنوت.

 

ونحن نقول اليوم: ما أكثر نوازل المسلمين فكيف يضّيق أمر القنوت لهم ويحجّم أو يُسيَّس والله - تعالى - يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقال - تعالى - (والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض).

 

علما بأن القنوت له مقاصد عظيمة كثيرة يختلف عن مجرد الدعاء لهم في السجود أو الخطب أو غيرها، حيث إن من أهدافه ومقاصده المشاركة المعنوية وحفز الهمم والاهتمام بالمسلمين وإظهار التعاطف والتعاون، ويتقوى بذلك المجاهدون وهذا مشاهد وملموس وسمعناه كثيرا من المجاهدين أنهم يفرحون بدعاء إخوانهم المسلمين إذا كان علنا في القنوت بل إنهم دائما يطالبون بذلك، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - تعالى - في فتح الباري في فصل القنوت: (وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأمومُ الإمام في الدعاء ولو بالتأمين ومن ثم اتفقوا على أن يجهرَ به) والقنوت نوع استنصار ونصرة وقد صح عن علي بن أبي طالب لما قنت في حروبه قال: إنما استنصرنا على عدونا. رواه ابن أبى شيبه 2/103 رقم 6981.

 

بل إن هناك من أهل العلم من قال بوجوب قنوت النوازل وقال إنه فعل الأئمة، فقد ذكر ابن عبد البر في الاستذكار 6/202 بسنده عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: يجب الدعاء إذا وغلت الجيوش في بلاد العدو (يعني القنوت) قال: وكذلك كانت الأئمة تفعل.

وبعد..

 

فسنذكر إن شاء الله - تعالى - المآخذ عليكم فيما ذهبتم إليه في مسألة القنوت.

 

أولا:

في المسألة الثالثة من كلامكم قلت: إنه ليس من مفهوم قنوت النازلة عند الصحابة والسلف إذا وقعت نازلة في طرف من بلاد المسلمين قنت الجميع.... وقلت أيضا: والصحابة رضوان الله عليهم لم يكن من هديهم أنه إذا وقعت نازلة في طرف بلاد المسلمين قنت جميع المسلمين... وأن من تمام بحث المسألة أن قنوت النوازل لكل أهل بلد بحسبه. إهـ

 

ومقتضى هذا الكلام أنه إذا وقعت نازلة في المسلمين في أي طرف من أطراف البلاد الإسلامية أنه لا يقنت إلا أهل تلك النازلة، لأن القنوت لكل أهل بلد بحسبه!!

 

ويَردُ على كلامكم هذا عدة أدلة:

أ - أين دليل التخصيص ومنع ماعدا أهل النازلة، والمُخصِّـص مطالب بالدليل.

 

ب - يُرَدٌّ عليكم باستدلالكم نفسه، حيث استدللتم بقصة قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للقراء لما قتلوا، والقراء قتلوا في أطراف الدولة الإسلامية، بل قتلوا في مكان خارج ولاية الدولة الإسلامية، مما يدل أنه يُقنت لما هو ليس بأطراف الدولة الإسلامية فحسب بل ما هو خارجها.

 

ج - قصة قنوته - صلى الله عليه وسلم - للمستضعفين في مكة (وكان ذلك بعد صلح الحديبية وفتح خيبر كما قاله ابن تيمية في الفتاوى (23/105) فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده يدعو لرجال فيسميَهم بأسمائهم فيقول: اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. متفق عليه.

 

قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومكة حينئذ دار كفر، فقنت لأناس ليسوا في أطراف الدولة الإسلامية بل في بلاد الكفر.

 

د - قصة الخرمية، وكانوا في أطراف الدولة الإسلامية في شمال فارس قرب أذربيجان، فقد جاء في كتاب المغني لابن قدامة في فصل القنوت وقت النوازل قال الأثرم سمعت أبا عبد الله (أحمد بن حنبل) سئل عن القنوت في الفجر فقال: لو قنت أياما معلومة ثم يترك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أحمد: أو قنت على الجرمية، وذكر هذه الرواية ابن القيم في كتاب الصلاة فقال قال الاثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع، وسمعته قال لما سئل عن القنوت في الفجر فقال إذا نزل بالمسلمين أمر قنت الإمام وأمّن من خلفه، ثم قال: مثل ما نزل بالناس من هذا الكافر، يعني بابك الخرمي الخارجي إهـ. وقد قاتلهم المأمون ثم المعتصم فقضى عليهم. فهذه واقعة في أطراف الدولة الإسلامية. والقنوت كان في بلد الإمام أحمد.

 

ومما يدل على العموم وأنه لكل نازلة في أي بلد من بلاد المسلمين أن الصحابة الذين رووا أحاديث قنوت النوازل، وأشهر من روى ذلك أنس وأبو هريرة أنهما فعلا القنوت بأنفسهما، بل وحثوا الناس على الاقتداء بهما كما فعل أبو هريرة وسوف يأتي إن شاء الله بعد قليل، بل إنهما رويا أحاديث القنوت بألفاظ عامة تدل على العموم ، وقد جاء عن أنس فيما روى عنه ابن خزيمة قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم، وهذه ألفاظ عموم، وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت وهذه الفظ عموم.

 

هـ - كلام أئمة المذاهب الفقهية المعروفة فإنهم كلهم يذكرون أنه إذا وقع نازلة بالمسلمين ويذكرون كلمة (بالمسلمين) بالألف واللام الدالة على العموم في أي طرف أو جزء من بلاد المسلمين وإليك نصوصهم:

 

1 الحنابلة:

قال ابن قدامة في المغني: فصل فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح نص عليه أحمد. وتابعه علي هذا صاحب الشرح الكبير: المغني والشرح الكبير 1/788.

 

وقال في زاد المستقنع: ويكره قنوت في غير الوتر إلا أن تنـزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض، وجميع كتب الحنابلة تنص على لفظة (المسلمين) في النازلة ثم تذكر الروايات عن الإمام أحمد فيمن يقنت وهي أربع روايات.

 

2- المالكية:

ذكر ابن عبد البر في الاستذكار 6/201 في باب القنوت في الصبح مذهب مالك وأنه يرى القنوت ، وقال ابن رشد في بداية المجتهد في فصل أقوال الصلاة في المسألة التاسعة ، قال: ومذهب مالك أن القنوت في صلاة الصبح مستحب 1/131 وذكر الزرقاني في شرح الموطأ في باب القنوت في الصبح أن هذا معتقد مالك القنوت في الصبح 1/223.

 

وجاء في المدونة الكبرى 1/103 وذكر مذهب مالك القنوت في الصبح بالدعاء على الكفار والاستعانة بالله عليهم. بل إن مالكا يرى دوام قنوت النوازل في الفجر كما قال ابن العربي في شرحه للموطأ في كتابه القبس 1/348 في ذكر رأي مالك في قنوت النوازل، قال ابن العربي: ورأي أحمد بن حنبل أن قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لسبب فيما كان ينزل بالمسلمين والأحكام إذا كانت معلقة بالأسباب زالت بزوالها ورأي مالك والشافعي أن ذلك من كلَب العدو ومقارعته معنى دائم فدام القنوت بدوامه إهـ.

 

وقال ابن تيميه في الفتاوى 23/106:

قول مالك القنوت في النوازل مشروع دائما والمداومة سنة وأن ذلك يكون في الفجر قبل الركوع بعد القراءة سرا. وهذا يدل أن المالكية يرون قنوتا دائما ولكل إمام جماعة في صلاة الفجر فما بالك بوقت النازلة بالمسلمين.

 

3- الشافعية:

قال في المهذب: وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه من غير حاجة فإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جميع الفرائض، قال النووي في المجموع شرح المهذب على الكلام السابق، قال: والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور إن نزلت بالمسلمين نازلة كخوف أو قحط أو وباء أو جراد ونحو ذلك قنتوا في جميعها وإلا فلا. 3/493 ، وذكر النووي نفس كلامه السابق في شرح مسلم في باب استحباب القنوت بجميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة والعياذ بالله اهـ. وقال الغزالي في الوسيط 2/133 وإذا نزلت بالمسلمين نازلة و أرادوا القنوت في الصلوات الخمس جاز ، وقاله الشيرازي الشافعي في التنبيه 1/33 وقاله الشربيني الشافعي في الإقناع 1/141. بل إن الشافعية من أوسع المذاهب في القنوت كالمالكية يرونه دائما في النوازل وغير النوازل.

 

4- الحنفية:

قال ابن عابدين في حاشيته 2/11 في مطلب القنوت في النازلة، قال: إن نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر.... ونقل عن الطحاوي في القنوت إن وقعت فتنة أو بلية فلا بأس به (وراجع إعلاء السنن 6/95). وقال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1/252: إذا نزل بالمسلمين نازلة قنت في صلاة الفجر ، وهو قول الثوري واحمد. وقال اللكنوي في كتابه التعليق الممجد 1/636 ، قال: إن قول أبى حنيفة وأصحابه لا قنوت في شيء من الصلوات إلا في الوتر وإلا في نازلة. وقال في البحر الرائق للحنفية 2/48: وإن نزل في المسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر. وذكر التهانوي في إعلاء السنن 6/84 ، 95 أن عين مذهب الحنفية والجمهور هو القنوت في النوازل مؤقتا. وبعض الحنفية يرى أن القنوت للنوازل منسوخ كالطحاوي في شرح معاني الآثار وينقله عن بعض أئمة الحنفية 1/254 مع أن كلام الطحاوي هذا ناقشه التهانوي في إعلاء السنن 6/96 وبين اختيار المذهب وهو القنوت.

 

والخلاصة من هذا النقل من أقوال المذاهب التدليل على أن القنوت لكل نازلة تحصل في المسلمين أن يقنت الجميع ، وليس القنوت لكل بلد بحسبه ، وقد مر بك ألفاظ كلام العلماء الدالة على العموم وليس فيها أدنى كلام في تخصيص كل بلد بنازلته ، أما كلام العلماء المستقلين فقد قال ابن حزم في المحلى 4/ 138وما بعدها ، المسألة رقم 459: إن القنوت فعل حسن. وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2/345: القنوت عند النوازل مشروع عند النازلة ، وقال في السيل الجرار 1/229: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله إذا نزلت في المسلمين نازلة فيدعو لقوم أو على قوم ، أما كلام ابن تيميه وبن القيم فكثير فمنه ما في الفتاوى 23/111: والقنوت فيها إذا كان مشروعا كان مشروعا للإمام والمأموم والمنفرد. بل إن ابن تيميه له رسالة مستقلة في القنوت في مشروعيته وعموميته ، وكذا ابن القيم في زاد المعاد جعل فصلا مستقلا في هديه - صلى الله عليه وسلم - في قنوت النوازل. وقال الصنعاني في السبل 1/378 رقم 288 قال: فالقول بأنه يسن القنوت في النوازل قول حسن. ومما يجمع خلاصة كلام المذاهب قول اللكنوي في كتابه التعليق الممجد 1/636: ولا نزاع بين الأمة في مشروعية القنوت ولا في مشروعيته للنازلة إنما النـزاع في بقاء مشروعيته لغير النازلة ، ونقل ابن عبد البر في الاستذكار 6/202 عن يحي بن سعيد أن القنوت إذا دخلت جيوش المسلمين هو فعل الأئمة.

 

ثانيا:

ذكرتم في المسألة الثانية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قنت لم يأمر مساجد المدينة بالقنوت قنوت النوازل ولم يأمر مسجد قباء ومسجد (زريق) ومسجد العالية.

 

والجواب: نفيكم هذا يحتاج إلى إثبات خاص فهل هناك دليل صريح أنه قال لهم لا تقنتوا أو أنهم قنتوا فنهاهم، فالنفي مثل الإثبات يحتاج إلى دليل لأن النفي قضية سلبية تحتاج إلى برهان كالقضية الموجبة وكون المستدل ليس لديه دليل على القضية المعينة لا يلزم منه انتفاء تلك القضية إذ قد تكون ثابتة بدليل لم يعلمه المستدل كهذه القضية إذ من المعلوم قطعا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لا يخالفون قول الرسول ولا فعله، وقد ثبت عنه أنه قنت فلا بد أن يقتدوا به في ذلك القنوت، يدل على هذا قصة استدارة أهل مسجد قباء حينما أبلغوا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استقبل الكعبة ففعلوا ذلك عندما علموا من غير أن يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك.

 

ويقال أيضا لكم على وجه التنزل إذ لم يأت حديث بالأمر فأيضا لم يأت حديث بالنهي إنما هو شيء مسكوت عنه، والمسكوت عنه يرجع فيه للقواعد والأصول، والأصل أن الصحابة يقتدون بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال - تعالى - (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) والأصل في الرسول أنه مُتَبع، وما فعله شرع يعمل به ما لم يدل دليل على خصوصيته به وإلا على كلامكم يلزم منه لوازم باطلة تؤدي إلى تعطيل بعض الشرائع فيقال صلاة التراويح فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده بعض الليالي وفعلها عمر - رضي الله عنه - في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا تفعل في المساجد الأخرى لأنه لم يرد دليل أن المساجد الأخرى اُمرت بذلك، ومثلها صلاة الكسوف صلاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده ولم يأت دليل انه أَمر المساجد الأخرى، وكذا صلاة الخوف، فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأين الدليل أنه أمر السرايا والجيوش الأخرى بصلاتها، ويقال أيضا البلاد التي فتحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين الدليل أنه أمر مساجدهم بإقامة الجمعة وغيرها من الشعائر الظاهرة، وهكذا من اللوازم الباطلة التي ليس المخرج منها إلا أن يقال الأصل الاقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم -، والأصل أن الصحابة والمسلمين فعلوا ما فعله - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا جاء دليل خاص بالمنع أو النهي لا مجرد السكوت وعدم النقل.

 

ثالثا:

ذكرتم في المسألة الثانية قولكم إنما قنت هو - عليه الصلاة والسلام - شهرا ، ولهذا استدل به عدد من الأئمة منهم الإمام أحمد أنه إنما يقنت الإمام الأعظم في المسجد الأعظم ما يقنت كل مسجد، وقلت أيضا إن السنة ظاهرة في أنه لا يقنت في البلد الواحد إلا مسجد واحد فقط وهو المسجد الأعظم في البلد.

 

والجواب: ما هو الدليل أنه لا يقنت إلا الإمام الأعظم؟!! وأنه لا يقنت إلا مسجد الإمام الأعظم فقط!! بل إن فقه الصحابة - رضي الله عنهم - على أن القنوت ليس من خصائص الإمام الأعظم ومسجده فقط ، بل ثبت عن أنس بن مالك وأبى هريرة وابن عباس والبراء بن عازب ومعاوية وأبى موسى أنهم قنتوا، وليسوا بالإمام الأعظم ومسجدهم ليس بمسجد الإمام الأعظم كما سوف نذكره إن شاء الله بعد قليل:

 

أ - فقد صح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان يقنت في صلاة الفجر رواه ابن المنذر في الأوسط 5/ 209 وغيره ، علما بأن أنسا ممن روى أحاديث قنوت النازلة فكان بفعله هذا يرى أنها ليست من خصائص الإمام الأعظم ولا مسجده ، بل صح عنه - رضي الله عنه - أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر فذكر هنا انه فعل جمع من الصحابة والمقصود بذلك قنوت النازلة.

 

ب - وجاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقنت في الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح. رواه الطبراني في تهذيب الآثار مسند ابن عباس 1/345 رقم 576 فيدعوا للمؤمنين ويلعن الكفار، وقال لأقرِّبن بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه ، وفي رواية عند الطحاوي في شرح الآثار 1/241 (لأرينكم)، فصلى بهم وقنت حتى يعلّمهم أن القنوت مشروع لكل إمام في النازلة ولذا قال: لأرينكم ، مع أنه ليس بالإمام الأعظم ومسجده ليس بالمسجد الأعظم، علما بأن أبا هريرة رضي الله عنه ممن روى أحاديث القنوت للنازلة، فهذا فهمهم - رضي الله عنهم -، بل فعله هو بنفسه تدريبا لأصحابه عليها. قال ابن القيم في زاد المعاد: ولا ريب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك (أي القنوت) ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة. اهـ.

 

ج - صح عن البراء بن عازب أنه كان يقنت. رواه بن أبي شيبة 2/106رقم 7016 و صفحة 108 رقم 7034 ، وعبد الرزاق في مصنفه 3/109وابن المنذر في الأوسط 5/209 والبيهقي في سننه 2/206 مع أن البراء ممن روى أحاديث قنوت النازلة.

 

د - صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه صلى الغداة في إمارته على البصرة فقنت. رواه بن أبي شيبه 2/105 رقم 7003 وعبد الرزاق في مصنفه 3/113 وبن المنذر في الأوسط 5/209 علما بأن ابن عباس في البصرة كان أميرا لعلي بن أبي طالب، فلما قنت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما حارب أهل الشام قنت ابن عباس تبعا له ذكر ذلك الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/252 في باب القنوت، وذكره التهانوي في إعلاء السنن 6/ باب القنوت، وقال الكاندهلوي في كتابه أوجز المسالك 3/175 نقلا عن الدار قطني عن سعيد بن جبير، قال أشهد أني سمعت بن عباس يقول: أن القنوت في صلاة الفجر بدعة. إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة، فانظر إلى كلام بن عباس هذا وما فيه من عمومية القنوت للنوازل، بل لا يَبعد أن يكون هذا الكلام له حكم الرفع.

 

هـ - جاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قنت في صفين وما بعدها، يقنت هو ومن معه مع أنه ليس الإمام الأعظم في ذلك الوقت، وذكر قنوته الطحاوي في معاني الآثار وكذا الطبري في تاريخه 3/113، قال البيهقي في كتابه معرفة السنن في فصل القنوت: وقنت معاوية في الشام يدعو في صفين، فأخذ أهل الشام عنه ذلك.

 

ز - وروى الطحاوي في شرح معاني الآثار عن أبي موسى الأشعري أنه قنت وذكره عنه ابن القيم في زاد المعاد ورواه بن أبي شيبة 2/105 رقم 7001 بسنده عن عبد الله بن معقل قال: قنت في الفجر رجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي وأبو موسى.

فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهم ممن روى أحاديث قنوت النازلة وفعلها، وكلهم يرون أن لغير الإمام الأعظم فعله ، فأين المخالف لهم من الصحابة ممن منع قنوت النوازل أو رأى أنه خاص بالإمام الأعظم أو مسجده.

 

أما الخلفاء الراشدون فقد صح عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - أنهم قنتوا في النوازل فعن العوام بن حمزة سألت أبا عثمان عن القنوت فقال بعد الركوع قلت عمن؟ قال عن أبي بكر وعمر وعثمان. رواه بن أبي شيبة 2/106 رقم 7011 وابن المنذر في الأوسط 5/210 وحسنه البيهقي في معرفة السنن 2/79وقال ابن تيميه في الفتاوى 23/108 أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل ، فيكون القنوت مسنونا عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -.. ثم قال: فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تدل على شيئين، أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه، وقال ابن القيم في الزاد في هديه - صلى الله عليه وسلم - في القنوت: إن المروي عن الصحابة في قنوت النوازل قنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة مسيلمة وعند محاربة أهل الكتاب، (راجع كتاب إعلاء السنن 6/83) أما قنوت عمر فقد ذكره ابن تيميه في الفتاوى 23/108 وابن القيم في الزاد أنه قنت لما حارب النصارى. وقال ابن تيميه في الفتاوى 23/108 وكان عمر إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت، ونقل الكاندهلوي في أوجز المسالك 3/176 عن كتاب الآثار لمحمد بن حسن قال: كان عمر - رضي الله عنه - إذا حارب قنت وإذا لم يحارب لم يقنت رواه الطحاوي وإسناده حسن.

 

وكذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قنت لما حارب من حارب من الخوارج، قاله ابن تيميه في الفتاوى 23/103، وقنت أيضا لما حارب أهلَ الشام في صفين، قال البيهقي في كتابه معرفة السنن في فصل القنوت أن عليا قنت في حرب يدعو فأخذ أهل الكوفة ذلك عنه.

 

فهذا هدي الخلفاء الراشدين والصحابة المرضيين، بل لو قال قائل انه لا يعرف لهم مخالف لكان هو عين الصواب، وهو مذهب الناس في زمن علي بن أبي طالب وعليه أهل الكوفة تبعا له، و أهل البصرة تبعا لأبن عباس، وأهل الشام تبعا لمعاوية فقد روى محمد بن الحسن في الآثار عن إبراهيم النخعي بسند صحيح، قال: إن أهل الكوفة إنما اخذوا القنوت من علي حينما حارب وأهل الشام اخذوا القنوت عن معاوية، ذكره صاحب إعلاء السنن 6/88 ، وهو فعل الأمراء زمن أنس  - رضي الله عنه - كما ذكر ذلك ابن حزم في المحلى 4/141 رقم 459 وقال: فإن قيل فقد روي عن انس انه سئل عن القنوت: أقبل الركوع أم بعده؟ فقال: قبل الركوع، قال ابن حزم: إنما اخبر بذلك أنس - رضي الله عنه - عن أمراء عصره اهـ والشاهد أن فعل القنوت للنوازل من فعل أمراء عصر أنس - رضي الله عنه - وليس خاصا بالإمام الأعظم.

 

وقبل ذلك هو فعل الناس زمن عمر حيث قنت عدة مرات ، وهو فعل الناس زمن أبي بكر حيث فعله فيهم، فأي إجماع أعظم من هذا وجاء في الاستذكار 5/170 أن أبا عبد الرحمن السلمي قنت في الفجر يدعو على قطري بن الفجاءة الخارجي (وأبو عبد الرحمن هذا مقرئ الكوفة من أولاد الصحابة اخذ القرآن عن عثمان وعلي - رضي الله عنهما - ، ورواه ابن أبي شيبة 2/109 رقم 7047 ، وقنت من التابعين أيضا نفر كثير ليسوا بأئمة ومساجدهم ليست بمسجد الإمام الأعظم، وقال ابن عبد البر في الاستذكار 5/172: (ومِن فعل الصحابة وجلة التابعين بالمدينة في لعن الكفرة في القنوت أخذ العلماء لعن الكفرة في الخطبة الثانية من الخطبة والدعاء عليهم). وممن نقل الإجماع الكاندهلوي في أوجز المسالك في شرح موطأ مالك 3/ 177 قال النيموي: تدل الأخبار على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يقنتوا في الفجر إلا في النوازل، وقال اللكنوي في كتابه التعليق الممجد 1/636 ولا نزاع بين الأمة في مشروعية القنوت ولا في مشروعيته للنازلة إنما النزاع في بقاء مشروعيته لغير النازلة ، ونقل بن عبد البر في الاستذكار 6/202 عن يحي بن سعيد أن القنوت فعل الأئمة ، وذكر ابن أبي شيبة برقم 7006 بسنده عن ابن أبي ليلى قال: القنوت سنة ماضية، وقال ابن تيميه في الفتاوى 23/108 أن القنوت مسنون عند النوازل وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين. وقال التهانوي في إعلاء السنن 6/96 وأما دعوى نسخ القنوت في الفجر مطلقا فتردها آثار الصحابة وقنوتهم بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أحيانا ، ونقل عن صاحب كتاب الحجة البالغة: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه إذا نابهم أمر دعوا للمسلمين وعلى الكافرين بعد الركوع أو قبله اهـ.

 

وبعد هذا يقال أيضا لماذا يخصص القنوت بالإمام الأعظم ومسجده مع أن اصل القنوت دعاء واستنصار، فتكثير من يدعو من المقاصد الشرعية، ومن أسباب قبول الدعاء لا سيما وانه قد يوجد في غير مسجد الإمام من هو أقرب للإجابة وأفضل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: وهل تنصرون إلا بضعفائكم، بل قد يكون الإمام أو مسجده فيه من موانع قبول الدعاء ما يفوّت الهدف من القنوت وهو تحري الاستجابة، ثم يقال ليس في تعدد مساجد القنوت ضرر في ذلك، وليس هو مثل إقامة الحدود ونحوها التي في تعددها مفاسد، ولذا تخصص بالإمام أو نائبه لمنع المفاسد.

 

ويقال أيضا: لو كان قنوت النازلة خاص لكان النبي - عليه الصلاة والسلام - لما قنت في قصة القراء لقال للصحابة بعد الصلاة إن هذا الدعاء خاص بالإمام أو نحو ذلك لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلو كان هناك مخصص لبينه المصطفى المبلغ - عليه الصلاة والسلام -.

 

ومن أعجب الأمور أنكم تقولون عند النوازل: ادعوا في الخطب والمحاضرات ولا تدعوا في الصلاة إلا بإذن الإمام فتمنع الناس مما هو مشروع لهم بالإجماع ثم تحثهم على أمر آخر وإن كان جيدا ومطلوبا لكن المشروع أولى منه، وأخشى أن يجيء وقت لا قدر الله فيقال: وأيضا الخطب والمحاضرات لا يدعى إلا بإذن الإمام، أو أنه خاص بالإمام ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

رابعا:

قلتم في المسالة الثانية:

إن القنوت للإمام الأعظم استدل به عدد من الأئمة منهم الإمام أحمد على أنه إنما يقنت الإمام الأعظم في المسجد الأعظم!

 

ويقال لكم إن الإمام أحمد له عدة روايات في المسألة، فقد قال المرداوي في الإنصاف 2/175 لما ذكر عن أحمد أنه يقنت الإمام قال: وعنه يقنت نائبه بإذنه، وعنه يقنت إمام جماعة، وعنه كل مصل. اختاره تقي الدين، وقال في المحرر وهل يشرع لسائر الناس؟ على روايتين.

والله - تعالى - يقول (وان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) ومن البحث السابق وعمل الصحابة يتضح أقرب الروايات للسنة وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته العموم .

 

ونفيد فائدة هنا وهي أن المتتبع لأقوال أهل العلم حسب اطلاعنا في الكتب المتيسرة بين أيدينا وحسب البحث السابق أن القول بأن قنوت النوازل خاص بالإمام الأعظم أنه من مفردات الحنابلة في إحدى الروايات.

 

ثم اختياركم لهذا القول على خلاف مراد الإمام أحمد، فإن معنى الإمام الأعظم عند أحمد وغيره هو الخليفة الواحد الذي يحكم المسلمين جميعا، وهذه هي فائدة صفة الأعظم، واليوم ليس إمام أعظم يحكم المسلمين كلهم، فعلى هذا القول الذي اخترتموه وأردتم تطبيقه هذا اليوم على غير مراد الإمام أحمد الذي اخترت قوله وهو إحدى الروايات يؤدي إلى تعطيل القنوت تماما، وهذا القول لم تسبقوا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأخيرا..

نحن اليوم نعرف اختلاف أهواء الحكام وما هي توجهاتهم فربط القنوت للنوازل بهم يجعل قضايا المسلمين خاضعة للسياسة و مصالح الحكام ، وأنت ترى في الواقع اليوم تخاذل كثير من الحكام وعدم نصرتهم للمسلمين في نوازلهم بل إنهم يخجلون من دعم قضايا الجهاد والمجاهدين، فكيف ينتظر منهم أن يأذنوا بالقنوت لهم إلا أن وافق مصالحهم وأهواءهم.

كتبت هذا لكم لكي تراجعوا أنفسكم فيما قلتم وتعودوا إلى هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والعلماء بعده وتعلنوا للناس ذلك وإلا سوف نعلن هذا الرد للناس لبيان ما هو الحق في المسألة ونحن بالانتظار..

نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

 

أملاه فضيلة الشيخ

أ. حمود بن عقلاء الشعيبي

17/10/1421هـ

----------------------------------------

[1]) لقد مضى أكثر من شهر ولم يأت الرد خلاله ولذا لزم نشره إعذارا وإبراء للذمة في 28 / 11 / 1421 هـ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply