أحكام في البيوع والخطبة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... وبعد:

فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: \"نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لبادٍ,، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها\". الحديث أخرجه البخاري في أحد عشر موضعًا من صحيحه بالأرقام (2140- 2148- 2150- 2151- 2160- 2162- 2723- 2727- 5144- 2512- 6601)، كما أخرجه مسلم في خمسة مواضع في كتاب النكاح بأرقام (38- 39- 51- 52)، وفي كتاب البيوع برقم (12)، كما أخرجه أبو داود في كتاب النكاح وكتاب الطلاق، والترمذي في النكاح والطلاق، والنسائي في البيوع، وابن ماجه في النكاح، ومالك في الموطأ في كتاب النكاح والقدر، وأحمد في المسند.

 

شرح الحديث:

قوله: \"نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  أن يبيع حاضر لباد\": فسره ابن عباس - رضي الله عنهما - بقوله: \"لا يكون له سمسارًا\"، والسمسار هو الذي يتولى البيع والشراء لغيره، ومعناه: لا يتسبب في رفع ثمن السلعة التي جلبها البادي إلى البلد فيغلي بذلك قوت المسلمين، وصوره بعضهم بأن يجيء البلد غريب بسلعته يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه بلدي فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، فجعلوا الحكم منوطًا بالبادي ومن شاركه في معناه، قال: وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فألحق به من يشاركه في عدم معرفة السعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بألا يبادر بالبيع.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"ولا تناجشوا\": النَّجشُ في الشرع: الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، قال ابن حجر: سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد أورد البخاري تحت باب النجش قول ابن أبي أوفى: \"الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل\"، وعلق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"الخديعة في النار، ومن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد\". قال في الفتح: \"أما الحديث الثاني فسيأتي موصولًا من حديث عائشة في كتاب الصلح، وأما حديث الخديعة في النار\"، فرويناه في \"الكامل\" لابن عدي من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: لولا أني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  يقول: \"المكر والخديعة في النار\" لكنت من أمكر الناس، وإسناده لا بأس به.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"ولا يبيع الرجل على بيع أخيه\": أي إذا تم عقد البيع إيجابًا وقبولًا بين المتبايعين فإنه لا يجوز للبائع أن يبيع هذه السلعة التي تم العقد عليها لغير المشتري، أما إذا كان البيع بالمزايدة (المزاد) فلا حرج في عرض السلعة على أكثر من واحد، وقد ورد في البيع فيمن يزيد حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم -  باع حلسًا وقدحًا وقال: \"من يشتري هذا الحلس والقدح؟ \" فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من يزيد على درهم؟ \" فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه.

قال في الفتح: أخرجه أحمد وأصحاب السنن مطولا ومختصرًا، واللفظ للترمذي، وقال: حسن، قال الحافظ: وكأن المصنف (البخاري) أشار بالترجمة إلى تضعيف ما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب: \"سمعت النبي # ينهى عن بيع المزايدة\"، فإن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.

قوله #: \"ولا يخطب على خطبة أخيه\": قال ابن عبد البر في الاستذكار: قال مالك: وتفسير قول رسول اللَّه # فيما نرى- والله أعلم- لا يخطب أحدكم على خطبة أخيهº أن يخطب الرجل المرأة فَتَركن إليه ويتفقان على صداق واحد معلوم، وقد تراضيا، فهي تشترط عليه لنفسها، فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه، ولم يعن بذلك إذا خطب الرجل المرأة فلم يوافقها أمره، ولم تركن إليه أن لا يخطبها أحد، فهذا باب فساد يدخل على الناس، قال أبو عمر: وبنحو ما فسر مالك هذا الحديث فسره الشافعي وأبو عبيد، وهو مذهب جماعة الفقهاء كلهم، وهو المعمول به عند السلف والخلف، قال: وذلك- والله أعلم-º لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  أباح الخطبة لأسامة بن زيد على خطبة معاوية بن أبي سفيان وأبي الجهم بن حذيفة حين خطبا فاطمة بنت قيس، فأتت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  مشاورة له، فخطبها لأسامة على خطبتهما، وحديثها خرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقد روى أبو هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  قال: \"لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك\". قال أبو عمر: فإذا ركنت المرأة أو وليها، ووقع الرضا لم يجز لأحد حينئذ الخِطبة على من ركن إليه ورضي واتفق عليه، ومن فعل ذلك كان عاصيًا إذا كان بالنهي عالمًا.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها\". وفي رواية: \"لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها\". وفي رواية لأبي نعيم: \"لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها\". وفي رواية للبيهقي: \"لا ينبغي\" بدل \"لا يصلح\"، وفي رواية أخرى للبيهقي وفيها: \"ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ إناء صاحبتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها\". وجاء في رواية البخاري: \"لتستفرغ صحفتها... \".

قال الحافظ في الفتح: قوله: \"لا يحل\" ظاهر في تحريم ذلك، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يُجَوّز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو الضرر يحصل لها من الزوج أو للزوج منها، أو يكون سؤالها ذلك بعوض وللزوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع مع الأجنبي، إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. ونقل الحافظ في الفتح عن النووي قوله في معنى \"أختها\" معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلًا طلاق زوجته وأن يتزوجها هي، فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بقوله: \"تكفئ ما في صحفتها\". قال: والمراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختها في الدين، إما لأن المراد الغالب أو أنها أختها في الجنس الآدمي، قال الحافظ: وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة، فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به، ثم علق الحافظ في الفتح على هذا بقوله: \"وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: \"لا تسأل المرأة طلاق أختها\"، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط فظاهرها أنها في الأجنبية، ويؤيده قوله فيها: ولتنكح\" أي: ولتتزوج الزوج المذكور من غير أن تشترط طلاق التي قبلها، وعلى هذا فالمراد بالأخت هنا الأجنبية في الدين، ويؤيده زيادة ابن حبان في آخره بلفظ: \"لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإن المسلمة أخت المسلمة\".

وقوله: \"لتستفرغ صحفتها\" يفسر المراد بقوله: \"تكفئ\" وهو بالهمزة افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه، وكذا يَكفَأ، وجاء أكفأت الإناء إذا أملته، وهو في رواية ابن المسيب \"لتكفئ\" بضم أوله من أكفَأت، وهي بمعنى أملته، ويقال بمعنى أكببته أيضًا، والمراد بالصحفة كما في النهاية إناء كالقصعة المبسوطة، قال صاحب النهاية: وهذا مثل، يريد الاستئثار عليها بحظها، فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه.

وقوله: \"ولتنكح\" بكسر اللام وبإسكانها وبسكون الحاء على الأمر، ويحتمل النصب عطفًا على قوله: \"لتكفئ\" فيكون تعليلًا لسؤال طلاقها، ويتعين على هذا كسر اللام، ثم يحتمل أن يكون المراد: ولتنكح ذلك الرجل من غير أن تتعرض لإخراج الضرة من عصمته، بل تكل الأمر في ذلك إلى ما يقدره الله، ولهذا ختم بقوله: \"فإنما لها ما قدر لها\" إشارة إلى أنها وإن سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع منه إلا ما قدره الله، فينبغي ألا تتعرض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرد إرادتها، والمعنى: ولتنكح ما تيسر لها فإن كانت التي قبلها أجنبية فلتنكح الرجل المذكور بدون اشتراط طلاق التي قبلها، وإن كانت أختها فلتنكح غيره.

هذا، وإن المتأمل في أحوال المسلمين اليوم ليجد زيادة عدد النساء بالنسبة للرجال، فينبغي أن ينظر إلى التعدد على أنه حل لمشكلات اجتماعية، وصون لكرامة المرأة، وحفظ لحرمة الدين والعرض، فإن المرأة التي لها زوج ينبغي لها أن تحب لأختها المسلمة ما تحب لنفسها، وألا تطلب الطلاق لمجرد أن زوجها فكر في التعدد، فلو أن كل إنسان مسلم رجلًا كان أم امرأة وضع نفسه موضع أخيه المسلم أو أخته المسلمة، ونظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على منع التعددº لانحلت كثير من عقد المسلمين ومشكلاتهمº لأن المسلمين سيتخذون الحليلات بدلًا من الخليلات أو العشيقات والأخدان.

نسأل الله العصمة من الزلل، وأن يغنينا بالحلال عن الحرام، وأن يحفظ على المسلمين دينهم وأعراضهم وبلادهم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply