المظاهرات في الميزان الفقهي ..


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وحده وبعد فـ (لقد كفل الإسلام حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ، وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق، وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا، فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كل من الفرد والمجتمع ويحفظ النظام العام وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق - جل وعلا -، فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها و إلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء، ويخل بالنظام العام وحسن الآداب).

ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصل إليه منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها كوسائل الإعلام الحديثة.

وكان من بين هذه الوسائل غير المنصوصة (المظاهرات) التي يتداعى لها جماهير من الناس كل واحد منهم يعتصر الهم فؤاده و يحتقن الغضب في صدره وهو يرى ما لا يحب مما لا يقدر على منعه ولا خيرة إليه في رفضه فلا يجد إلا مثل هذه الوسيلة يستشعر فيها أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة.

ولكن الباحث الشرعي همه تنزيل الأحكام على الوقائع ورائده في ذلك تطلب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد استطلاع الواقع ونشدانه.

وقد رأى كل متابع ما حصل من مظاهرات حاشدة صاخبة وما كان من تداعٍ, عظيم لها في أكثر من حادثة.

وفي هذه الأوراق القليلة محاولة لتناول هذا الموضوع للخروج بنظرة فقهيَّة فيه.

 

أولاً: تعريف المظاهرات:

المظاهرات جمع مظاهرة و المظاهرة مفاعلة من الظهر. يقال ظَهَر: أي تبيّن وأظهرته: أعنته.

 واستظهر به استعان. والتظاهر: التعاون.

قوله - تعالى -:) تظاهرون عليهم (. (البقرة:85) أي تتعاون عليهم.

وفي المعجم الوسيط: (المظاهرة: إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورةٍ, جماعيّة).

وسماها في المنجد الأبجدي تظاهرات جمع تظاهرة.

وقال: (هي اجتماع الناس وخروجهم إلى الشوارع للمطالبة بأمرٍ, أو لتأييد قضيَّةٍ, أو للاحتجاج على شخص أو شيء).

فإذا حصل الاجتماع مع التزام بعد الخروج من موضوع معين لفترةٍ, محددة أو إلى أن تتحقق المطالب فهذا يُسَمى: اعتصاماً.

والاعتصام افتعال من اعتصم: أي امتنع به ولجأ.

 

ثانياً: قواعد ومقدمات:

تحتاج كل حادثة إلى معرفة أصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها و أهم الأصول التي يُرجع إليها لمعرفة حكم المظاهرة وينبني على بيانِها حكمُها خمسٌ:

 

الأولى: حكم طاعة ولي الأمر.

من أصول أهل السنة التي باينوا بها غيرهم أنهم يرون وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في غير معصية.

قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (سورة النساء:59).

وولاة الأمر هم الأمراء والعلماء.

وعن ابن عمر - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن يعصي الأمير فقد عصاني)()

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (في الحديث: وجوب طاعة ولاة الأمور، وهي مقيّدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة لِمَا في الافتراق من الفساد).()

فإذا أمر أحد الولاة مسلماً بمعصية لم تجب طاعته بل تكون محرّمة. وإذا أمره بغير المعصية وجبت طاعته وامتثال أمره. فإذا خالف فإنّه يكون عاصياً لسلطانه مرتكباً لذنب يأثم عليه ما لم يكن له تأويل في عصيانه. فإن المُتَأَوِّل ليس بآثم.

وفي ضوء ما سبق يظهر أن الصور الآتية ليست من معصية ولاة الأمر:

1- عدم طاعة السلطان في معصية الله.

عن عليٍ, - رضي الله عنه -قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريَّةً واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم

 

أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا لي وتطيعوا، قالوا: بلى، قال فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف).

وهذا محل إجماع: أن طاعة الأمراء في المعصية محرمة.

 

2- مناصحة السلطان والإنكار عليه.

عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرك ما هنالك، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

وسواء كان ذلك بالرفق والأسلوب الحسن أو بغيره.

ففي بعض روايات الحديث المتقدم أن أبا سعيد قال: خرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجرٌّه نحو الصّلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاثاً ثم انصرف.

ولهذا مزيد بيان سيأتي بإذن الله.

 

الثانية: حكم الخروج على ولاة الأمر.

استقر قول أهل السٌّنَّة على تحريم الخروج على ولاة أمر المسلمين ماداموا على الإسلام. ولم يضيّعوا دولتهم ودينهم. ولو ارتكبوا مع ذلك المعاصي أو اختصوا عن المسلمين بحظوظ الدنيا.

 

وأساس تحقق الخروج أن يكون فيه منازعة و منابذة في الإمرة والولاية وهي المقاومة والمقاتلة إما بإعلان نقض البيعة والدعوة إلى ذلك أو مقاتلة السلطان أو نحو ذلك وإذا لم يكن ثمة منازعة ومنابذة فلا يكون خروجاً.

عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتةً جاهليَّة).

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنها ستكون بعدي أثرةٌ وأمور تنكرونها) قالوا: يا رسول الله كيف تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم و تسألون الله الذي لكم).

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (قال ابن بَطّال: في الحديث حجّة في ترك الخروج على السٌّلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأنَّ طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلحُ الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد... وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع في النهي عن الخروج على الأمراء وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

 

الثالثة: طريقة نصيحة ولاة أمر المسلمين:

الأصل في مناصحة الولاة والإنكار عليهم أن تكون بالسِّر لا بالجهر. وهو الأصل في النصيحة عموماً.

عن عياض بن غُنم - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك و إلا كان أدَّى الذي عليه).

وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلِّمه؟ فقال: (أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم؟ والله لقد كلَّمتُهُ فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه).

ومراده أنّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك.

قال الشوكاني - رحمه الله -: (ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل: أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد).

هذا هو الأصل وقد يسوغ غيره في ظروف معينة كما حصل لأبي سعيد الخدري في الحديث المتقدم.

قال النووي - رحمه الله -: (فيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه وهذا كله إذا أمكن ذلك فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق).

 

الرابعة: ضوابط وسائل النصيحة والتعبير عن الرأي:

لقد كلف الله - تعالى - هذه الأمة بإبلاغ الدين ونشر الرسالة)ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (. (آل عمران:104) وجعل ذلك سبب خيريتها)كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (. (آل عمران: 110).

وجعل النصيحة من الدين عن تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة) قلنا لمن. قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)(). كما أنه كفل لأتباعه التعبير عن آرائهم() – فيما يسوغ ذلك -.

ولا يتحقق النصيحة والدعوة والتعبير عن الرأي إلا بوسائل وطرق وأسباب للمسلم أن يسلكها ليصل من خلالها لما يريد ولو كانت حادثة لم ينص عليها الشرع ولم يستعملها السلف مادامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه.

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدى رحمه الله: (لا ريب أن كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه وإشاعته والإخبار به.. يُسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود.. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر.. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها أسرعوا إليها وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم فإن الشرع يقره ويقبله، ويأمر به أحياناً ويجيزه أحياناً، بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة.. فاستمسك بهذا الأصل الكبير فإنّه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك – إذا فهمته – أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد والجزئيات الواقعة والتي لاتزال تقع ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ وربما ظننت كثيراً من الأشياء بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في كلام الشارع، فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس... والترجمة التي يحصل بها العلم لم يزل العمل بها على أي طريقة و صفة كانت، ويدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قد أَمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة... و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين، ومن أعظم ما يدل في ذلك أنَّه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر، فإنّه يتعيّن على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق، وأحسن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات وتوقّى المحرمات).

والسبب في هذا أن الوسائل من قبيل العادات والأصل فيها الإباحة قال الشاطبي – يرحمه الله-: (و التبليغ كما لا يتقيّد بكيفيَّةٍ, معلومةº لأنه من قبيل المعقول المعنى، فيصح بأيّ شيء أمكن من الحفظ والتلقين و الكتابة وغيرها).

إلا أن سلوك هذه الوسائل وممارسة هذا الحق مقيد بضوابط تمنعها عن معارضة مقاصد الشريعة الإسلاميَّة وأهم هذه الضوابط:

1- ألا تخالف الشرع: فإذا كانت الوسيلة مخالفة للأدلة الشرعية أو القواعد الكليّة فإنها تكون ممنوعة. كمن يستعمل المحرمات بقصد أن يتوب الناس مثلاً.

2- أن يكون المقصود من الوسيلة مشروعاًº فإن كان الغاية منها الوصول لما هو ممنوع في الشرع فإنه لا يجوز التوسل لها بأيَّة وسيلة.

فمتى كان المراد من الوسيلة المعيّنة الدعوة إلى باطل، أو نشر فكر منحرف أو الوصول إلى غرض فاسد كانت الوسيلة محرمة.

قال ابن القيم رحمه الله: (إذا حرّم الرب - تعالى - شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنّه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له).

3- ألا يباشرها معتقداً أن نفس مباشرتها قربة يتقرب بها إلى الله – إلا إذا كانت عبادة نص عليها الشارع.

أما لو فعل الفعل المباح المؤدي للمصلحة مثلاً وهو يعتقد أنه قربة وطاعة فهو مخطئ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. حقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله ويتوب العاصين.. ولو سُئِل العالم عمّن يعدو بين جبلين هل يباح له ذلك قال: نعم فإذا قيل له إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة قال إن فعله على هذا الوجه حرام ومنكر... فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنّه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع. وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب).

4- ألا يترتب على الأخذ بها مفسدة أكبر من المصلحة المقصودة منها إذ درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.

وقد نهى الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - و المؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين قال - تعالى -:) ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم (. (الأنعام: 108).

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية: قالوا يا محمد لتنتهين عن سَبِّك آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم.

ومن ذلك أن يحصل من سلوك الوسيلة زيادة فساد أو إتلاف لنفس معصومة أو مال محترم أو نحو ذلك.

قال ابن القيّم رحمه الله: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم -شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنّه أساس كل فتنة وشر إلى آخر الدهر.. ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منهº فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر. ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء).

 

الخامسة: نظرة في واقع المظاهرات..

يحتاج الناظر في حكم المظاهرات أن يستطلع ما فيها من مصالح ومفاسد إذ الشرع لاشك آمرٌ بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، آخذٌ بالراجح منهما. عند التعارض. ولذا فإني سأحاول هنا أن أستعرض المفاسد والمصالح الناشئة عنها ليكون ذلك على ذُكر من الباحث عند بيان الحكم الشرعي.

 

1- فمن محاسن المظاهرات والمصالح التي فيها:

أنها وسيلةٌ فعالة للتعبير عن الرأي، وإظهار الإرادة، فيمكن بها إنكار المنكر وإبلاغ الفكرة عن عدم التمكن من الوسائل المعتادة مع سهولة ممارستها إذ لا تستدعي قدرات إنشائية، ولا طاقات إعلاميّة، ولا مساندة ماديَّة. ولذا فهي تساعد على تحقيق بعض رغبات الأقليات المستضعفة كما أن الإعلام العالمي يحرص على تتبع المظاهرات وتغطيتها، ويعتبرها مادة إعلامية جيدة.

وهي لذلك تنمي الإحساس بالمشاركة المعنويَّة و الحس الأخوي، وتنفس عن ما يصيب بعض الشعوب و الفئات من ضيقٍ, من بعض الأمور.

وهو مظهرٌ للرغبات الحقيقيَّة إذا صودرت الرغبات وحبست الإرادات.

 

2- ومن مفاسد المظاهرات:

- أنها تطفئ الحماس المتوقد لدى الشعوب بأمرٍ, ليس وراءه جدوى فعلية!! فيشعر المشارك بعد جهده البدني الذي بذله في مسيرته أنه قدَّم شيئاً مع أن الواقع لم يتغيّر.

- كما أنها تنافي الوحدة و الاجتماع الذي أمر به المسلمون عندما يتظاهر فئات ضد فكر أو مقصد يتبناه غيرهم.

- وهي أيضاً تتيح المجال لمن يريد الإفساد والتخريب إذ يضيع الجاني بين مئات المتجمهرين، وهي مرتع خصب لمثل هذه الأحداث بل قد يفعلها بعض المتظاهرين إطفاءً لحماسٍ, أو إظهاراً لغضب.

- ولذا فهو يدعو للمواجهة مع الطرف المتظاهر ضده، ولو كان المتظاهرون لم يتهيئوا لمثل هذه المواجهات. إذ أعطوا له إحساساً بوجود قد يكون أكبر من حجمه الحقيقي.

- وهو إضافة لكل ذلك يتيح المجال لأصحاب الأفكار الدخيلة و المبادئ الوضيعة المنبوذة إبداء رأيهم والمطالبة برغباتهم.

- أضف لذلك تعطيل مصالح الناس لإغلاق المكاتب وزحام الطرقات، و الأذى الذي يلحق المتظاهرين إذا حصل صدام مع أجهزة الأمن.

 

ثالثاً: حكم المظاهرات:

لاشَكَّ أن المظاهرات حادثةٌ في بلاد المسلمين وافدةٌ عليهم، ولذا لم يكن البحثُ في حكمها مما يذكره الفقهاء المتقدّمون ولا المؤلفون المتأخرون. وأما المفتون المعاصرون فلهم فيها فتاوى، بعضهم يمنعها وبعضهم يبيحها، والظاهر أن حكمها يختلف حسب الاعتبارات الآتية:

أوّلاً: المظاهرات في البلاد الإسلاميَّة:

ففي بلد الإسلام التي يحكمها سلطان مسلم تجب طاعته لا يخلو إما أن يأمر الإمام بها أو يأذن بممارستها أو يمنعها.

أ- فإن أمر بها وأذن: فإنه يجوز للمسلم أن يُشارك فيها بشرط: ألا تتضمن محرماً ولا تدعو إلى محرم ولا يكون فيها اعتداء على معصوم أو محترمº وذلك أن الأصل في أوامر ولاة الأمور أنَّها تفيد الوجوب في غير معصية. والأصل في أوامرهم أن تبنى على نظرٍ, مصلحيّ يستتبعه هذا الأمر. وإذا كان الأصل في وسائل التعبير عن الرأي والدعوة إليه: أنها اجتهاديَّة مصلحيّةº ساغ لولي الأمر أن يأمر منها بما يراه محققاً للمصلحة الغالبة. وقد كان من الهدي القديم أن يدعو الولاةُ الناسَ إذا حَزَب أمر فينادي منادٍ,: الصلاة جامعة، أي الدعوة عامَّة. والمظاهرة اجتماع عام بأمرِ سلطانٍ, مطاع يعلم ما يترتب عليه.

ب- وإن نهى عنها السلطان، أو لم يأذن بها: فإن الظاهر أنه لا تجوز إقامتها ولا المشاركة فيها. ما لم تتفرد وسيلة لإنكار المنكر.

وذلك أنها إن أقيمت لغرض الإنكار على الحاكم فسبق أن الأصل أن يكون ذلك سِرّاً لا جهراً.

وإن كانت لغرضٍ, آخر فإن لولي الأمر أن يمنع وسيلةً معينةً من وسائل البلاغ وإبداء الرأيº إذا رأى ذلك. كما أن له أن يقيد المباح و يضبطه متى ظهر له ذلك. وهو لا يأمر وينهى إلا بناء على مصلحة الجماعة ولمقصد يستهدف الخير لها. وأما لو تصرف على خلاف هذا كان تصرّفه غير جائز. ولذا درج أهل العلم على اعتبار قاعدة تصرف الإمام بأنه (منوطٌ بالمصلحة).

ويشهد لذلك قصة عمر مع عمّار، فإن رجلاً أتى عمر ابن الخطاب فقال إني اجنبتُ فلم أجد ماءً فقال: لا تُصَلِّ فقال عمّار أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سريّة فأجنبنا فلم نجد الماء فتمعكتُ في التراب وصليت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، فقال عمر: اتق الله يا عمار. قال: إن شئتَ لم أُحدِّث به. قال النووي: (يعني إن رأيت المصلحة في إمساكي عن التحديث به راجحة أمسكت فإن طاعتك واجبة).

ولا شك أن المظاهرات مما يترتب عليه جملة مفاسد كما سبق – مع ما فيها من المصالح – ومن تتبع ما وقع من مظاهرات في البلاد الإسلاميّة قديماً وحديثاً علم أن نفعها لا يوازي ما أدت إليه من ضرر بأهلها وغيرهم. وإذ قرر أهل العلم أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.

 

إلا ما كانت مصلحته أرجح.

لذا فإن إناطته بولي الأمر أنسب وألبق.

 

ثانياً: المظاهرات في البلاد غير الإسلامية (دار الكفر):

لا شك أن البلاد غير الإسلاميّة تباين ما يكون في بلاد الإسلام من أحكامº فلا سُلطان تجب طاعته، ولا وحدة صَفٍّ, تراعَى، ولا مالٌ ووقت يخشى إهداره. كما أنه قد يسوغ للمسلم فيها ما يمنع منه في بلاد الإسلام كالتشبه بالكفار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (..المخالفة لهم لا تكون إلا عند ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية و الصغار، فلما كان المسلمون في أوّل الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك. ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهرº لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينيَّةº من دعوتهم إلى الدين، والإطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الحسنة).

والمظاهرات بلا شك وسيلة دارجة معهودة لدى كثير من بلاد الكفر – للتعبير عن الرأي – وليست عندهم فوضى ولا إفساد ما دامت سلميّة.

وقد شهد واقعهم بأن لها أثراً في تحقيق بعض ما يراد منها.

وإذا كان الحال ما ذكر وكانت المفاسد التي تترتب على المظاهرات إنما تلحق غالباً أهل الكفر – من تعطل الأعمال و المصالح وتضييع الأموال وازدحام الطرقات ونحوها – فلعل المصلحة أن تكون أرجح من المفسدة فيها.

وإذا استدل أحدٌ بما رُوي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -لما أسلمَ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً بدار الأرقم قال له: يا رسول الله ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صفين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر فنظرت قريش إلينا فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها.

ونحو ذلك من الروايات فلعله أن لا يكون بعيداً إن صحت الرواية به.

عليه فإن تحقق في المظاهرة في البلاد غير الإسلامية هذين الوصفين:

(1) أن يغلب على الظن حصول النفع منها ورجحانه على ما قد يترتب عليها من مفسدة.

(2) ألا تتضمن دعوة لمحرم أو استعمالاً لمحرم.

فإن الظاهر جواز إقامتها و المشاركة فيها و الله أعلم.

وبعدُ!! فإن جميع ما سبق موازنة فقهيّة و تأملات شرعيَّة بتفصيلٍ, ارتضاه كاتبه، أمَّا الفتوى التي تبرأ بها الذمم وتناط بها الأحكام فهي لمن تولاها موكولةº ولمن أُنيطت به متروكة.

اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرَّ أنفسنا، وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهاب.

الأحد 24 شعبان 1424 هـ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply