دروس من أرض الإسراء


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون

دروس من أرض الإسراء من أجواء المحنة والحصار، من ظروف الشدة والاحتلال، من بين صور الظلم والعدوان، من جوف المحنة تخرج المنحة، من شدة الظلمة تشتعل أضواء الأمل، عندما نرجع بذاكرتنا إلى سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ونقف مع الحدث الذي منذ انطلاقه ووقعه أصبحت صلتنا بهذه الأرض صلة عقيدة وإيمان، وارتباطنا بها ارتباط دين وإسلام، وعمقنا معها عمق تاريخ وحضارة، كيف جاءت تلكم الحادثة في السيرة النبوية العطرة، لقد كانت فرجاً من بعد كرب، وكانت فرحاً من بعد حزن، وكانت إكراماً من بعد إجرام، وكانت قوة من بعد ضعف، وكانت نصرة من السماء بعد خذلان الأرض، لقد جاءت حادثة الإسراء في سيرة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن اشتد به أذى قريش إثر وفاة عمه أبي طالب، وزاد الحزن عظمة واشتدادا بعد وفاة نصيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وزوجه المخلصة أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها -، وبعد أن تكالبت قوى الشر وتعاظمت صور الأذى والعداء، جاءت هذه الرحلة إسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومعراجا من الأرض إلى السماء، لتبين أمورا كثيرة وهو أنه يأتي من بعد كل شدة فرج، ومن بعد كل عسر يسر، مادام القلب موصلا بالله، والنهج ثابتا على صراط الله، ومادام اليقين راسخا بأن كل قوى الأرض مهما بلغت عظمتها لن تنال من المؤمن والمؤمنين مبلغة إلا بما يقدر الله - عز وجل -، يوم صدت وأوصدت في وجه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أبواب الأرض فتحت له أبواب السماء، ويوم كانت النذالة والخسة والدناءة من كفار قريش ومجرميها جاء العز والإكرام والاحتفاء والتعظيم من ملائكة السماء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن بقعة صغيرة في مكة المكرمة إلى آفاق واسعة امتدت عبر تلك المسافة في لمح البصر لتخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمر سوف يتسع وأن الحصار سوف ينتهي وأن القيود سوف تكسر وأن النصر سوف تتيسر أسبابه، وأن أولئك الأقزام إما أن يسيروا مع تيار النصر والإيمان وإما أن يهزموا ويذلوا في الدنيا ويعاقبوا ويعذبوا في الآخرة، وكان الأمر كما كان وامتدت دولة الإسلام في غضون سنوات قليلة بشر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسراءه ومعراجه وبعد هجرته وجهاده، وقال في حديثه الصحيح: (اعدد ستا بعد موتي...- وذكر أولها: - فتح بيت المقدس)

وفتحها الفاروق ودانت للإسلام وازدانت بالإسلام وعظمت بالإيمان وكانت أنموذجا من نماذج التحرير الإسلامي الحق الذي حرر الشعوب من ربقة ظالميها وقاهريها {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}.

وظلت تلك البركة، وظل مثل هذا الأمل مرتبطا ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، دائما متصلا إلى آخر الزمان، لتبقى البركة وليبقى الفتح والعز والنصر وطيد الصلة بتلك البقاع (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: (في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)

كما ورد في رواية أحمد في مسنده.

وفي حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي وراءي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود).

أفي شك أنتم من وعد وحديث الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، ألسنا نعرف أنها أي بلاد الشام أرض المحشر والمنشر، من تلك الهجرة من تلك الرحلة وإلى قيام الساعة يبقى الارتباط وثيقا بالإيمان واليقين والإسلام من منبعه الذي بدأ في مكة المكرمة، ومن قيام دولته التي كانت في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي ثالث تلك البقاع في رحلة الإسراء ليبقى هذا كله سياقا واحدا تحدثنا عنه غير مرة.

 

ولعلي أنقلكم اليوم، يا معاشر المسلمين المتحررين الذين لستم واقعين تحت الاحتلال، يا معاشر المؤمنين المترفهين المتنعمين الذين لا تذوقون مرارة الحصار، يا معاشر المسلمين الذين عندكم من الوقت والفراغ سعة للهو والعبث ومتابعة المباريات ومشاهدة المسلسلات من تلك الأرض بكل قسوتها وشدتها أنقل لكم الدروس والعبر تعلموا في مدرسة أرض الإسراء كما تعلمت الأمة وتتعلم من رحلة الإسراء ومن صاحب الإسراء والمعراج - عليه الصلاة والسلام -.

مشاهد فيها دروس قد تكون محزنة ومؤلمة لكنها تكشف عن تلك الصور المشرقة الوضيئة، محزنة لنا ومؤلمة لنا لأنها تكشف ضعفنا وتعري صورا من خذلاننا وتقصيرنا، لأن قوة الحق تكشف الباطل، ولأن نور الإيمان يعري ظلمة الكفر، ولأن مواقف العزة تفضح صور الذلة، مشهد محزن مؤلم لامرأة فلسطينية شابة لم تتجاوز العشرينات من عمرها، أين هي؟ وهي تعطينا الدرس من بيتها؟ من أسرتها؟ كلا! بل من سجنها، تؤخذ مغلولة في أصفادها من سجنها إلى المشفى، لماذا؟ لأنها آن وحان موعد ولادتها، واليهود أصحاب الديمقراطية والحضارة المزعومة لم يفكوا عنها قيودها وهي داخلة إلى عملية الولادة لم يسمحوا إلى بعد وساطات ومتابعات من مؤسسة مانديلا الإنسانية حتى سمحوا لأمها بعد أيام من ولادتها أن تراها وتقابلها، وأين هي اليوم؟ إنها وطفلها الرضيع داخل سجون اليهود الصهاينة الغاصبين، وأين زوجها؟ سبقها بأكثر من عام إلى السجن وهو إلى يوم الناس هذا فيه، وتأتي تلك المؤسسة وتعطينا الأخبار أنها استطاعت الحصول على إذن بأن يزور السجين زوجته السجينة ليرى ابنه السجين، ولو رأيتموها وهي تتحدث في حديث واحد لوسائل الإعلام لطأطأتم جميعا رؤوسكم خجلا وهي تلبس جلبابها وتحافظ على حجابها وتتحدث بلسان اليقين والإيمان، وببرد الرضا بقضاء الله وقدره، والصبر على بلاءه وتقديره - سبحانه وتعالى -، لننقل هذا لا إلى نسائنا بل إلى رجالنا قبل نسائنا، أين مثل هذا؟ الإيمان الثبات الرضا بقضاء الله وقدره، الاحتساب على الابتلاء رفع الرأس رغم كل هذه الصور من العدوان والإذلال، هل سمعتم بهذه الحادثة أحسب أن أكثركم لم يسمع بها، هل رأيتم وسائل الإعلام تكررها علينا كما تكرر الإعلانات وتكرر المشاهد وتكرر غير ذلك؟ هل رأيتم مقالات كثيرة تحدثت عن الحادثة؟ هل رأيتم قصائد شعرية سجلتها، هل رأيتم شيئا من ذلك؟ بالنسبة لي لم أرى شيئا مذكورا وكأننا قد عقدت ألسنتنا لأننا عاجزون أن نقول كلاما، حتى الكلام نعجز عنه فضلا عن الأفعال القوية المشرفة، وأبقى بكم معاشر الرجال في دوائر النساء، لنتعلم من النساء الصامدات المؤمنات المرابطات الصابرات في داخل هذا الحصار، عجبا نرى وصورا يغطيها الإعلام الماجن الداعر، الذي يظهر لنا في أكثر الأوقات هز البطون وعري الأفخاذ وغير ذلك مما تعلمون، ولم تنقل لنا صور المشاهد التي ذهبت فيها جماهير من نساء فلسطين إلى مقر السلطة الوطنية ليقلن نحن مع الحكومة في ثباتها على مبدأها وليخرجن ذهبهن متبرعات لمقاومة الحصار، وأستحضر حينئذ درساً عظيماً تلقيناه من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث المشهور يوم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العيد فتوجه إلى مصلى النساء وحثهن على الصدقة وأمر بلالا أن يأخذ منهن الصدقات، فجعلت المرأة تلقي بقرطها والأخرى تلقي بحليها تثبيتا لهذا الدين والإيمان والإسلام، جددت نساء فلسطين فعل نساء الصحابة رضوان الله عليهن أجمعين.

 

ورأينا صورا تسجلها بعض الجهات اليسيرة لتثبت الوقائع الحقيقية، مشاركة النساء في اللجان الشعبية لكسر حصار فلسطين والتبرع بالذهب والحلي، وأنقلكم من مشهد تفاعلي في أرض الإسراء لنرى كيف ينتقل الدرس ويتعلمه آخرون ويطبقونه في حملة في أرض مصر الكنانة لتبرع عام لأهل فلسطين جاءت امرأة مازالت عروسا لم تنهي شهرها الأول الذي يسمونه شهر العسل وتبرعت بكل ذهبها وحليها الذي قدم لها مهرا وهدية في زواجها، فأين نساءنا وأين رجالنا من مثل هذا؟ يا أهل الإسلام الذين تسكنون إلى جوار الحرمين الشريفين؟

ولعلي أواصل بكم المسير لأعلمكم وأعلم نفسي ماذا تصنع نساء فلسطين، إنهن يتلقين دورات فيما يسمى في التسويق الاقتصادي ليقمن بعمل منزلي اقتصادي ويبعن المنتجات اليدوية ليكفين أسرهن وليثبتن أبناء شعبهن في هذه المواجهة الجائرة التي اجتمعت فيها قوى البغي والكفر والطغيان والظلم والقهر لتركع لا أقول أبناء فلسطين، ولكن كما قلت لتركع الأمة الإسلامية في صور المرابطين في أرض الإسراء.

وأسير بكم لأن الأمر ما زال مستمرا، ولأن الصور والدروس كثيرة يضيق المقام عن ذكرها وحصرها، لأنه كما جاء في هذا التقرير عن المرأة المسلمة في فلسطين أن دورها يشكل الأرضية لصمود المجتمع الفلسطيني في وجه محاولات التركيع والإذلال التي يشنها الأعداء على مختلف مسمياتهم.

 

وأنقلكم إلى صفحة نسائية ثالثة، وقد تعمدت ذلك لنرى القمة الشامخة السابقة في أرض الرباط والجهاد، امرأة تعلمت هنا عندنا في مكة المكرمة وحصلت على شهادة الدكتوراه العالية في علوم الشريعة الإسلامية وهي اليوم وزيرة لشئون المرأة، ماذا تقول: لو أنكم قرأتم مقالها وجوابها للأسئلة التي وجهت إليها لرأينا ما يسر الخاطر ويشرح الصدر ولكنه كذلك كما قلت يجعلنا في مواجهة أمام أنفسنا وهي تقول: \"إنها تشكر البلد الذي تعلمت فيه ولم تكن تعده بلد مهجر بل بلدها لأنه بلد الإسلام كله، وكذلكم بلاد المسلمين\"

ثم عندما تسئل عن الحكومة والمنصب وغيرها فتقول: \" نحن لم نأتي للمناصب لنتشرف بها، فهي أمانة ثقيلة ومسئولية عظيمة أشعر بها وكأن جبالا فوق ظهري، لأن من يريد أن يعمل يشعر بعظم الأمانة \".

كأننا ننظر إلى هذا ونعرف حقيقة ما نعلمه من ديننا عندما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر يحذره بطبعه وبما عرف عنه من سمته وشخصيته بالتحذير من الولاية والأمارة، قال: (فإنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من قام بحقها).

وهكذا تأتينا الصور تترى وأنقلكم إلى صور أعظم، وربما هي بالنسبة لنا أكثر إحراجاً، صوراً رأيتها وعلمت أننا نحتاج إلى إحياء من موت، رأيت حملة بديعة رائعة لم أرى مثلها، إنها حملة مسيرة أطفال فلسطين لكسر الحصار، الصغار كل معه هذه الحصالة التي يضع فيها قروشا قليلة والجميل أن الذي يتلقى منهم ذلك وهم مصطفون في طوابير طويلة، رجل طاعن في السن ليس في شعر لحيته ورأسه شعرة سوداء، لننظر إلى هؤلاء الأطفال ما الذي أخرجهم، وراءهم أمهات مربيات وآباء أبطال علموهم كيف يكونون مع دينهم وإسلامهم وهم صغار.

أين نحن من مصاريف أبناءنا التي يشترون بها ما تعلمون، ويشترون بها من الألعاب والحلويات وغيرها ما هم في غنى عنه بل ما يتلفونه في يومه وليلته، وأين نحن من هذا كله، نحن الرجال ننحن أصحاب الأعمال نحن أصحاب الأموال نحن أصحاب كذا وكذا من نعم الله - عز وجل - التي لا تعد ولا تحصى.

وأنقلكم إلى صورة أوسع وأشمل استطلاع للرأي قامت به مؤسسة متخصصة تريد أن ترى رأي الجمهور من الشعب الفلسطيني في ظل هذه الظروف العصيبة والحصار الجائر والظلم القاهر والتجويع ألا إنساني، وإليكم هذه النتائج قليل من كثير 84. 6% كان جوابهم لا للرضوخ ولا للركوع لهذه الهجمة الضارية الجائرة، 74. 2% قالوا لا للاستجابة للمطالب الدولية مقابل إنهاء المقاطعة والحصار الاقتصادي، أنتم هنا أسمع منكم وتسمعون من الناس تقولون ليتهم يلينون ليتهم يغيرون عقولهم المتصلبة حتى لا يموتوا جوعا، وهم هناك في جوف الحصار يقولون لا لأنهم يعرفون وعرفوا حقيقة المعركة التي ربما لم نعرفها ولم نستشعرها حتى يومنا هذا وإلا لكانت لنا مواقف غير مواقف ما نحن عليها، على مستوى كل فرد وعلى مستوى كل امرأة وعلى مستوى كل طفل وعلى مستوى كل أسرة وعلى مستوى كل دولة وحكومة ومؤسسة ومجتمع في كل أنحاء البلاد الإسلامية بل في كل أرض يعيش فيها مسلم أو أقليات وجاليات إسلامية.

 

وأمضي بكم كذلك لتروا نسبة 59.6% قالوا إنهم مع صمود حكومتهم وثباتها على مبادئها وعدم تخليها عن خياراتها في مقاومة عدوها، هل ترون هذه الإحصاءات في دراسة ميدانية وفي شرائح عجيبة وجميلة ومؤثرة ومعبرة ومحركة ومغيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وكأن لسان حالهم يعبر امتثال أمر ربهم: {يا أيها الذين أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}.

هم صابرون مصابرون ومرابطون وفي ثغور المواجهة صامدون وفي الصف الأول من مواجهة الأمة كلها مع عدوها واقفون فأين نحن على أقل تقدير من الوقوف معهم ولو بكلمة ولو بمال ولو بحديث نقوله في كل مجلس ونصدع به في كل مكان ونبين هذه الحقائق التي تخفيها وسائل الإعلام التي نسأل الله - عز وجل - لكل من كان فيها ويهدف إلى تعمية هذه الأخبار أن يجازيه بما يستحق، لم لا ننقل هذه الصور، أين هذه المعلومات؟ أين هي على صفحات الصحف؟ أين هي على الشاشات التي كما قلت لا تنقل لنا إلا هذا وذاك مما تعلمون.

 

ولعلي أقول لكم أيضا إن الأمر أوسع من هذا وإننا إن كنا أمام مسئوليتنا الحقيقة وأمام واجباتنا الشرعية فإننا سنجد أنفسنا محاصرين بهذه الواجبات، خذوا ما شئتم من الأحكام لفقهية والشرعية، فإنكم واجدون أنها توجب عليكم وجبا شرعيا الوقوف بكل صور الإمكان ليس أقلها أن نقول إن الزكاة في أصنافها الثمانية: فقراء هم فقراء، مساكين هم مساكين، في الرقاب الذين يعتقون الأسرى أو يفدون الأسرى هم كذلك، في سبيل الله هم مجاهدون، ابن السبيل منهم الآلاف منقطعون، فأين أنتم لا أقول من نصرتهم بل من أداء واجبكم، وذلك ما ينبغي أن ننتبه له.

وهنا أستحضر موقفا جميلا في السيرة ورواه الترمذي في سننه وحسنه من حديث مرثد بن أبي مرثد، رجل عرف بهذا الاسم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أتعرفون ماذا كان يعمل، لم يكن مشهورا بإسلامه، كان يدخل إلى مكة ومهمته الأساسية أن يصل إلى المستضعفين من المسلمين المؤمنين المقيدين المأسورين، فيسعى إلى فكاكهم ويحملها على ظهره، ويخرج بهم من مكة سرّاً وليلاً حتى يطلقهم فيهاجروا إلى المدينة.

لم ينتظر حتى يدفع مالاً لم ينتظر حتى تأتي هيئة الأمم المتحدة أو الصليب الأحمر، لقد قام بدوره مباشرة وسجلت قصته في سياق آخر في سنن الترمذي كما ذكرت؟

فأين من يصنع شيئاً من ذلك ولو بأسلوب غير مباشر لا يعرض فيه نفسه للخطر الذي يخافه أو يجبن عن التقدم لأجله.

وروى البخاري كذلك من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النساء جئن إليه فقلن يا رسول الله غلبن عليك الرجال فلو جعلت لنا يوما نأتيك، فجعل لهن يوما فلقيهن ووعظهن - عليه الصلاة والسلام - وأمرهن ونهاهن وكان فيما قال لهن: (ما منكم امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار) فقالت امرأة: واثنين يا رسول الله قال: (واثنين)

هذه المرأة المسلمة المتربية في مدرسة النبوة إنما تلد الأبناء ليكونوا فداء للإسلام والإيمان والدين، ليكونوا جنودا في جيش العزة والكرامة لا ليكونوا شباباً يصيعون في الشوارع أو يلعبون في النوادي فحسب، إن الأمر أعظم من أن نجد له شيئاً عجيباً وفريداً في هذه المواقف.

ولعلي أيضا أقف مع حديث رواه البخاري ليقص لنا صورا من حياة النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما حث النبي النساء حتى الفتاة في خدرها أن يخرجن ويشهدن العيد والفرح مع الناس وأن يعتزل الحيض منهن المسجد فقالت امرأة يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب، - ليس لها لباس يسترها حتى تخرج إلى هذا المشهد بحجابها الشرعي - فقال: (لتلبسها أختها من جلبابها).

ولعلنا نقول لنسائنا ولأنفسنا ذلك ونحن نرى هذه الصور المشرقة المضيئة من تلك الأرض المباركة، فلعل بعض هذه الدروس أن تقع من نفوسنا موقعها ولا أريد مرة ثانية وثالثة وعاشرة أن يقول قائل: ماذا نعمل لأنني قلت وكررت مرارا إن هذا السؤال يحمل في طياته كثيرا في كثير من الأحيان صورا من العجز والتماس العذر و المهرب لأن من أراد أن يعمل فسيعمل وسيجد الطريق ليعمل وسيبحث ماذا يعلم وسيجتهد في كيفية تحقيق أثر عمله إن كان صادقاً مخلصاً.

والله أسأل أن يجعلنا صادقين مخلصين ولديننا ولأمتنا ناصرين ولإخواننا في أرض الإسراء مثبتين، إنه - سبحانه وتعالى - ولي ذلك والقادر عليه..

أقول قولي هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

 

الخطبة الثانية

وإن من تقوى الله - عز وجل - نصرة دينه ووعده متحققاً {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}

وإن من تقوى الله تحقيق أخوة الإيمان {إنما المؤمنون أخوة}.

وإن أردت أن أسترسل معكم في دروس أرض الإسراء، فإنه حديث لن ينتهيº ولعلي أقف وقفات مختصرة لنعود إليها من بعد في حديث آخر، صور مهمة أكثر ربما أهمية مما ذكرت، المخلصون المجاهدون والشرفاء الأطهار من أهل فلسطين والفصائل الفلسطينية قالوا كلمة عظيمة أعلنوها واضحة جلية مدوية في وسائل الإعلام: \" إننا جميعاً في خندق واحد مع خيار شعبنا ومع حكومتنا وسلطتناº لنكون صفا واحدا في وجه العدو، لا لاختلاف ولا لصراع داخلي \"، وما تسمعونه وترونه أو يقع من الأحداث، إنما هو من الأذناب الذين هم أيضا أعلى مرتبة في دروس الخيانة والعمالة والذلة لأعداء الإسلام والمسلمين، فإن الذين يحركون هذه الأعمال التي تثير الحزازات أو الفتن والشقاق إنما هم يعملون لصالح الأعداء من الصهاينة المحتلين ومن وراءهم من الغربيين، وهم معرفون عند أهل فلسطين ومعرفون أنهم يقبضون أجورهم ورواتبهم والرشا التي تدفع لهم من الأعداء هؤلاء سقطوا من أعين الناس وهم بهذا، ساقطون من عين الله - عز وجل -، واقعون في دائرة عظيمة من الخطر الدنيوي والعذاب الأخروي إلا أن يتغمدهم الله برحمة منه فيتوبوا ويؤوبوا ويرجعوا إلى دينهم أولا ثم إلى أهلهم وإخوانهم ونسائهم وأبناءهم فإنهم يزايدون على كل ذلك ويبيعونه بثمن بخس من عرض الدنيا المغموس بالذل والمهانة والعمالة والخيانة.

 

وصورة أخرى ربما شهدتموها في ملتقى علماء المسلمين في نصرة فلسطين، صورة من تجديد التوحد بين أهل العلم وأهل الرباط لتقول الأمة إنهم جميعا كما قال الله - عز وجل - {أمة واحدة}

ولعلنا نذكر في هذا قول الحق - عز وجل - {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}.

تلك طائفة العلم وثمة طائفة الجهاد والرباط، وقد ذكر أهل العلم كالخطابي وغيره أن هاتان الفئتان تقومان بحماية الأمة تلك من عدوها المادي العسكري وأولئك من عدوها الفكري والعقدي الذي يسعى إلى النخر في عقيدتها والانحلال في سلوكها.

 ورأينا كذلك من وراء ذلك صورا من المساندة التي تعلنها مثل هذه الأعمال وكان لسان الحال الذي ينبغي أن نحققه نحن أن نقول لأهل فلسطين لستم وحدكم، وراءكم أمة إسلامية كاملة لأنكم لا تدافعون عن أرض وتراب بل تدافعون عن عقيدة وإيمان، لأنكم لا تواجهون محتلا غاصبا يريد أراضا بل تواجهون صاحب عقيدة يريد للإسلام وأهله إذلالا وقهرا، فنحن معكم ولتقول الأمة كذلك إن علماءها وإن أبرارها وإن أشرافها مجتهدون وعاملون وكأننا بهذه الصور من الصمود تجدد لنا أملا في أن تكون هذه المعركة وهذا التحدي الكبير وهذا الحصائر الجائر هو أحد أعظم الأسباب في النهضة من بعد الضعف وفي الذكرى من بعد الغفلة، وفي النشاط من بعد الكسل، وفي إدراك المسئولية من بعد التفاهة والانشغال بسفساف الأمور.

وها نحن نسمع من يقول مؤكدا هذا المعنى مستمدا من الله - عز وجل - لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يوم مات عمه ويوم ماتت زوجه ويوم تكالب أعداءه وقبل ذلك كان قادما من الطائف لم يلجأ لشيء من أسباب الدنيا ولا لأحد من أهل الأرض ولكنه قال في نداءه الخاشع لربه: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي).

فنزل ملك الجبال ليقول لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله أمرني أن ائتمر بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -على أهل مكة- فلا يبقى منهم أحد لفعلت، فيقول سيد الرحماء - صلى الله عليه وسلم -: لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويؤمن برسوله - صلى الله عليه وسلم -).

هكذا نجد صورة المحنة تتنزل بها قوة أعظم وهي قوة الالتجاء إلى الله والاستمداد منه - سبحانه وتعالى -

لم يزل مفتاح بيتي في يدي *** لم أزل أحضن ذكرى بلدي

ما عرفت اليأس يا جلاد يوما *** هذه آلاتك اشحذها وهذا جلدي

لم تزل روحي تحيى أملا *** وسياط القهر تشوي جسدي

منذ عرفت الله لم أضعف لمخلوق *** ولا أرتجي من غير ربي مددي

أيها القاتل يومي بؤ به *** أنت لا تقوى على قتل غدي

 

غدٌ لنا والغد لأمة الإسلام والنصر قادم من سعى فيه نال بركته وأجره ومن تخلف عنه فهو المحروم فلا تتخلفوا عن نصر دين الله، ولا تتخلفوا عن إعزاز دين الله ولا تتخلفوا عن الوقوف أمام المجاهدين والمرابطين في وجه أعداء الله ولا تتخلوا عن أمتكم وعزتكم وكرامتكم وتاريخ أمتكم العريق.

أسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من عباده المؤمنين، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم، وأن يجعلنا من المثبتين الناصرين، لإخواننا المؤمنين المرابطين في أرض فلسطين وفي كل مكان من بلاد الدنيا يا رب العالمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply